الاثنين، 21 أكتوبر 2013

مكتبة خالد محمد خالد (حملوها كتب في منتهى الروعة )


الأستاذ خالد محمد خالد





مؤلفات خالد محمد خالد هنا


خالد محمد خالد (1920 – 1996م) مفكر إسلامي مصري معاصر، مؤلف كتاب رجال حول الرسول الذي كان سبب شهرته، كما ألف عدة كتب تتحدث عن السيرة النبوية وأعلام الصحابة، وهو والد الداعية المصري محمد خالد ثابت.

كان خالد محمد خالد كاتباً مصرياً معاصراً ذا أسلوب مبسط، تخرج من كلية الشريعة بالأزهر، وعمل مدرساً، ثم عمل بوزارة الثقافة، كان عضواً بالمجلس الأعلى للآداب والفنون.ولد رحمة الله عليه بقرية العدوة من قرى محافظة الشرقية وتوفي من عدة سنوات وقبره بهذه القرية

كان مولده يوم الثلاثاء 27 رمضان سنة 1339هـ الموافق 15 يونيو سنة 1920م ميلادية، في "العدوة" إحدى قرى محافظة الشرقية بمصر، والتحق في طفولته بكتاب القرية، فأمضى به بضع سنوات، حفظ في أثنائها قدراً من القرآن، وتعلم القراءة والكتابة.

ولما عقد والده – الشيخ محمد خالد – عزمه على أن يلحقه بالأزهر الشريف، حمله إلى القاهرة، وعهد به إلى أبنه الأكبر " الشيخ حسين " ليتولي تحفيظه القرآن كاملاً، وكان ذلك هو شرط الالتحاق بالأزهر في ذلك الوقت.

أتم حفظ القرآن كله في وقت قياسي وهو خمسة أشهر – كما بين ذلك مفصلاً في مذكراته "قصتي مع الحياة" – ثم التحق بالأزهر في سن مبكرة، وظل يدرس فيه على مشايخه الأعلام طيلة ستة عشر عاماً حتى تخرج فيه، ونال الشهادة العالية من كلية الشريعة سنة 1364هـ – 1945م، وكان آنذاك زوجاً وأباً لأثنين من أبنائه.

عمل بالتدريس بعد التخرج من الأزهر عدة سنوات حتى تركه نهائياً سنة 1954م، حيث عين في وزارة الثقافة كمستشار للنشر، ثم ترك الوظائف نهائياً بالخروج الاختياري على المعاش عام 1976.

وبذلت له عروض كثيرة لنيل وظائف قيادية في الدولة، سواء في رئاسة جمال عبد الناصر أو أنور السادات، فكان يعتذر عنها، ورفض عروضاَ أخرى لأسفار خارج مصر، وآثر أن يبقى في حياته المتواضعة التي يغلب عليها الزهد والقنوع. وقد تقلبت حياته في أطوار متعددة، من حفظ مبكر وسريع للقرآن الكريم، إلى طالب نابه بالأزهر الشريف، إلى شاب متعطش للمعرفة، تواق إلى أنواع الفنون والآداب والثقافات، إلى منغمس في السياسة مشغول بها، إلى خطيب بارع في القضايا السياسية التي كانت تشغل الوطن في ذلك الوقت، ثم إلى واعظ تغمر دروسه وخطبه القلوب بنشوة الإيمان، إلى عابد مشغول بالآخرة، وصوفي مشغول بربه، وهكذا.. وقد شرح ذلك بالتفصيل في مذكراته : "قصتي مع الحياة".

وفي سن مبكرة التقى بشيخه المربي الكامل الشيخ محمود خطاب السبكي إمام أهل السنة ومجدد رواق الإسلام – كما وصفه هو – وكان أعجوبة من أعاجيب الزمان، وشاهداً على ما يفيض الله على أوليائه وأحبابه من واسع فضله وعطائه.

وكما كانت حياته في بواكيرها كالنهر الذي تجيش مياهه بالفيضان، وتتقلب في تدفق وعنفوان، وكلما اقترب من البحر هدأت أمواجه، واطمأنت مسيرته، حتى إذا امتزج بماء البحر صار له هدوؤه وشموله واتساعه ،كذلك كانت مؤلفاته : بدأت ثائرة متدفقة.. وانتهت إلى الرسوخ واليقين.. وفي كلها كان مخلصاً، لا يبتغي بأي منها عرضاً من أعراض الدنيا.

ومثال على ذلك أن جمال عبد الناصر ورفاقه في مجلس قيادة الثورة كانوا قد قرأوا كتبه قبل الثورة، وتحمسوا لها لدرجة أن عبد الناصر كان يشتري منها – من جيبه الخاص – نسخا كثيرة يوزعها على زملائه الضباط، ومع ذلك لما قامت الثورة لم يرد أن يستفيد منها، وكانت فرصته في ذلك عظيمة، ولكنه بدلاً من ذلك وقف ناقداً للثورة موجهاً لها، مطالباً حكومتها بتطبيق الديمقراطية، فكان صدور كتابه "الديمقراطية أبداً" بعد ستة أشهر فقط من قيام الثورة في 23 يوليو سنة 1952م.

وظلت هذه مواقفه من الثورة ورجالها حتى توجت بموقفه المشهور في "اللجنة التحضيرية" سنة 1961م، وفيها أنتقد مواقف الثورة من قضايا الحرية والديمقراطية، وعارض ما أراد عبد الناصر القيام به من إجراءات تعسفية ضد من أسموهم – حينئذ – ببقايا الإقطاع، وأعداء الشعب.. بعد أن نزعوا أموالهم غصباً وظلماً، ونكّلوا بهم بغير جريرة ارتكبوها، فصاروا بعد عز في ذل، وبعد غنى في فاقة وعوز، وبعد أمن في خوف، ولا يجدون من يدافع عنهم.. فكان هو الصوت الوحيد الذي أرتفع في وجه الصمت والخوف، مدافعا عن الحق، طالبا لهم – بدلا من العزل السياسي – "العدل" السياسي، ولما أخذ التصويت في المجلس على من يعترض على إجراءات العزل السياسي، كانت يده هي الوحيدة التي ارتفعت في سماء القاعة التي ضمت – يومئذ – ثلاثمائة وستين عضواً.

تسبب كتابه الأول "من هنا نبدأ" في ذيوع شهرته في مصر وخارجها أيضاً بشكل سريع.

وطبع "من هنا نبدأ" ست طبعات في سنتين اثنتين، وترجم في نفس السنة التي صدر فيها إلى الإنجليزية في أمريكا، وكتبت عنه عدة رسائل وأبحاث جامعية ومقالات في أنحاء متفرقة من أوروبا وأمريكا..

ولكن فطرة المؤلف النقية، ونيته الصادقة جعلاه – فيما بعد – يقول إنه عندما رأى حفاوة أعداء الإسلام بالكتاب أدرك أنه أخطأ فيه. وظل يفكر فيما دعا إليه فيه من فصل الدين عن الدولة، ويقلبه في ذهنه حتى أعلن على الملأ رجوعه عن هذا الرأي، فلم يخجل – وهو الكاتب الكبير – من أن يعلن أنه أخطأ... وراح يصحح ذلك الخطأ بكل قوته.

فلم يترك وسيلة من وسائل إذاعة هذا التصحيح إلا أتاها :من مقالات، أو تحقيقات صحفية أو إذاعية أو تلفزيونية... ثم لم يكتف بهذا كله، فكتب كتاباً كاملاً أعلن فيه تصحيحه لرأيه الأول، وراح يدلل على أن الإسلام دين ودولة، وجعل شعار الكتاب هو: "الإسلام دين ودولة.. حق وقوة.. ثقافة وحضارة.. عبادة وسياسة..". خلف خالد محمد خالد ثروة علمية تربو على ثلاثين كتابا، غير المقالات والأحاديث الكثيرة التي لم تجمع بعد... وقابلها الناس في أنحاء العالم بالقبول، وترجم بعضها إلى لغات مختلفة..
كان – رحمة الله – قد مرض مرضاً طويلاً، واشتد عليه في سنواته الأخيرة، ومع ذلك كان دائم القول: "لا راحة للمؤمن من دون لقاء الله" ولم تكن فكرة الموت تزعجه، بل كان كما المنتظر له علي شوق، وقد استعد له وأوصي بما يريد..

وكان من وصيته أن يصلي علية في جامع الأزهر، معهده العلمي ومرتع صباه وشبابه، وان يدفن بقريته "العدوة" بجوار الآباء والأجداد والإخوان والأهل.. وجاءته الوفاة وهو في المستشفى يوم الخميس، ليلة الجمعة 9 شوال سنة 1416هـ الموافق 29 فبراير سنة 1996 م – عن عمر يناهز الستة والسبعين عاماً.


1.أبناء الرسول فى كربلاء

2.أزمة الحرية فى عالمنا

3.افكار فى القمة

4.الدولة في الإسلام

5.الدين للشعب

6.الوصايا العشر لمن يريد ان يحيا

7.الى كلمة سواء

8.انسانيات محمد صلى الله عليه وسلم

9.انه الانسان

10.خلفاء الرسول

11.رجال حول الرسول

12.فى البدء كان الكلمة

13.قصتي مع الحياة

14.كما تحدث الرسول

15.كما تحدث القرآن

16.لقاء مع الرسول

17.لو شهدت حوارهم لقلت

18.مائة سؤال عن الاسلام

19.مع الضمير الانسانى

20.معا على الطريق محمد و المسيح

21.مواطنون... لا رعايا

22.نحن البشر

23.هذا الرسول

24.والموعد الله كيف يفكرأهل الله

(8.5 M)PDF
(2.6 M)PDF
(10.1 M)PDF
(2.3 M)PDF
(6.5 M)PDF
(6.3 M)PDF
(13.3 M)PDF
(9.9 M)PDF
(8.2 M)PDF
(9.9 M)PDF
(6.0 M)PDF
(19.8 M)PDF
(8.4 M)PDF
(5.1 M)PDF
(1.6 M)PDF
(7.0 M)PDF
(3.8 M)PDF
(4.8 M)PDF
(11.7 M)PDF
(17.4 M)PDF
(9.4 M)PDF
(6.4 M)PDF
(5.0 M)PDF
(32.6 M)PDF

الجمعة، 18 أكتوبر 2013

ما هو الدليل على أنّ الإسلام هو دين الحقّ؟وماهو خصائصه؟

ما هو الدليل على أنّ الإسلام هو دين الحقّ؟وماهو خصائصه؟

السؤال : ما هو الدليل على أنّ الإسلام هو دين الحقّ ... لا أبغي المجادلة ، ولكن أبحث عن الحقيقة؟

الجواب : من سماحة السيّد علي الحائري
الدليل على نبوّة نبيّنا محمّد بن عبداللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، وعلى أنّ الدين الذي جاء به ـ وهو الإسلام ـ هو الدين الحقّ الذي دعت البشرية منذ البعثة النبويّة وإلى يوم القيامة إلى الالتزام والإيمان والعمل به عبارة عن نفس الدليل الذي نثبت به وجود اللّه تبارك وتعالى كما ذكره سيدنا الاستاذ الشهيد السعيد آية اللّه العظمى السيّد محمّد باقر الصدر (رضوان اللّه عليه) وهو دليل علمي استقرائي وبنفس المناهج العلمية التي نستخدمها في الاستدلال على الحقائق المختلفة في حياتنا الاعتيادية وحياتنا العلمية ، ولنمثّل لذلك أوّلاً بمثالين ، ثمّ نعرّج على نبوّة النبيّ الأعظم محمّد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، والرسالة التي أعلنها على العالم باسم السّماء ، والمثالان أحدهما من حياتنا الاعتيادية ، والأخر من حياتنا العلمية :
فالمثال الأوّل : للفكرة من حياتنا الاعتيادية هو أنّك إذا تسلّمت رسالةً من أحد أقاربك ، وكان هذا القريب صبيّاً يدرس في مدرسة إبتدائية بأحد الأرياف ، فلاحظتَ أنّ الرسالة قد كُتبت بلغةٍ حديثة ، وبعبارات مركّزة وبليغة ، وبقدرة فنّية فائقة على تنسيق الأفكار ، وعرض أدق المعاني بصورة مثيرة ، فسوف تستنتج أن شخصاً مثقّفاً واسع الاطّلاع ، قويّ العبارة قد أملى الرسالة على هذا الصبيّ ، أو شيئاً من هذا القبيل .
وإذا أردنا أن نحلّل هذا الاستنتاج والاستدلال نجد أن بالإمكان تجزئه إلى الخطوات التالية:
الأولى : أنّ كاتب الرسالة صبيّ ريفي ، ويدرس في مدرسة إبتدائية .
الثانية : أنّ الرسالة تتميّز بأسلوب بليغ ، ودرجة كبيرة من الإجادة الفنّية ، وقدرة فائقة على تنسيق الأفكار ، وعرض أدقّ المعاني وأرفعها .
الثالثة : أنّ الاستقراء يثبت في الحالات المماثلة أنّ صبيّاً بتلك المواصفات لا يمكنه أن يصوغ رسالة بهذه المواصفات .
الرابعة : يستنتج من ذلك أنّ الرسالة إذاً من نتاج شخص آخر استطاع ذلك الصبيّ أن يستفيد منه بنحو من الأنحاء ، ويسجّله في رسالته .
والمثال الثاني : للفكرة من حياتنا العلمية هو الدليل العلمي الذي أثبت به العلماء (الإلكترون) ، فقد درس بعض العلماء نوعاً معيّناً من (الأشعّة) وَلَّدها في أنبوبة مغلقة ، ثمّ سلّط على وسط الأنبوبة قطعة مغناطيس على شكل نعل الفرس ، فلاحظ إنّ (الأشعة) تميل إلى القطب الموجب من المغناطيس ، وتبتعد عن القطب السالب منه ، وكرّر التجربة في ظروف مختلفة حتّى تأكّد من أنّ تلك (الأشعّة) تنجذب بالمغناطيس ، وأنّ القطب الموجب في المغناطيس هو الذي يجذبها ، ولمّا كان هذا العالم يعرف من خلال استقرائه ودراساته للإشعاعات الأخرى ـ كالضوء الاعتيادي ـ أنّها لا تتأثر بالمغناطيس ، ولا تنجذب إليه ، وأنّ المغناطيس يجذب الأجسام لا (الأشعة) أمكنه أن يدرك أن انجذاب الأشعّة المعيّنة التي كان يُجري عليها تجاربه وميلها إلى القطب الموجب من المغناطيس لا يمكن أن يُفسّر على أساس المعلومات المفترضة ، ومن هنا أكشف عاملاً إضافياً وحقيقةً جديدة ، وهي أنّ هذه الأشعّة تتألف من أجسام دقيقة سالبة موجودة في جميع المواد ؛ لأنّها تنبعث من مختلف المواد ، وسمّيت هذه الجسميات بـ (الإلكترونات).
هذان مثالان لفكرة واحدة ، وهي أنّه كلمّا لوحظت ظاهرة معيّنة ضمن عوامل وظروف محسوسة ، ولوحظ من خلال الإستقراء أنّ هذه العوامل والضروف المحسوسة لا تؤدّي ـ في الحالات المماثلة ـ إلى نفس الظاهرة ، فيدلّ ذلك على وجود عامل آخر غير منظور لابدّ من إفتراضه لتفسير تلك الطاهرة .
وبكلمة أُخرى : أنّ النتيجة إذا جاءت أكبر من الظروف والعوامل المحسوسة ـ بحكم الإستقراء للحالات الممثلة ـ كشفت عن وجود شيء غير منظور وراء تلك الظروف والعوامل المحسوسة.
وهذا ما يصدق تماماً على نبوّة الرسول الأعظم محمّد بن عبداللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ورسالاته ، ودينه (الإسلام) ؛ وذلك ضمن الخطوات التالية :
الأولى : أنّ هذا الشخص الذي أعلن هذه الرسالة المتمثّلة في (القرآن الكريم) و (الشريعة الإسلامية) ينتسب إلى شبه الجزيرة العربية التي كانت من أشدّ أقطار الأرض تخلّفاً في ذلك الحين من الناحية الحضارية والفكرية والاجتماعية والسياسية والإقتصادية .
وينتمي إلى الحجاز بالذات من أقطار تلك الجزيرة ، والحجاز قطر لم يمرّ حتّّى تاريخياً بمثل الحضارات التي نشأت قبل ذلك بمئات السنين في مواضع أُخرى محدّدة من تلك الجزيرة ، ولم يعرف أيّ تجربة اجتماعية متكاملة ، ولم ينل هذا القطر من ثقافة عصره ـ على الرغم من انخفاضها عموماً ـ شيئاً يذكر ، ولم ينعكس على أدبه وشعره شيء ملحوظ من أفكار العالم ، وتيّاراته الثقافية وقتئذٍ ، وكان منغمساً من الناحية العقائدية في فوضى الشرك والوثنية ، ومفكّكاً اجتماعياً ، تسيطر عليه عقلية (العشيرة) ، وتلعب فيه الإنتماءاتُ إلى هذه العشيرة أو تلك دوراً أساسياً في أكثر أوجه النشاط بكلّ ما يؤدّي إليه ذلك من التناقضات ، وألوان الغزو والصراع الرخيص .
ولم يكن البلد الذي نشأ فيه هذا الرسول قد عرف أيّ شكل من أشكال الحكم سوى ما يفرضه الولاء للقبيلة من مواصفات .
ولم يكن وضع القوى المنتجة ، والظروف الاقتصادية في ذاك القطر من العالم يتميّز عن أكثر بقاع العالم المتخلّف حينذاك .
وحتّى القرارة والكتابة ـ بوصفهما من أبسط أشكال الثقافة ـ كانت حالةً نادرةً نسبياً في تلك البيئة ؛ إذ كان المجتمع أمّياً على العموم : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } {الجمعة/2} . 
وكان شخص النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) يمثّل الحالة الاعتيادية من هذه الناحية ، فلم يكن قبل البعثة يقرأ ولا يكتب ، ولم يتلقّ أيّ تعليم منظّم أو غير منظم : { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } {العنكبوت/48} .
وهذا النصّ القرآني دليل واضح على مستوى ثقافة الرسول قبل البعثة ، وهو دليل حاسم حتّى في حقّ مَن لا يؤمن بربّانيّة القرآن ؛ لأنّه ـ على أيّ حال ـ نصّ أعلنه النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) على بني قومه ، وتحدّث به إلى أعرف الناس بحياته وتاريحه ، فلم يعترض أحد على ما قال ، ولم ينكر أحد ما ادّعى .
بل نلاحظ أنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) لم يساهم قبل البعثة حتّى في ألوان النشاط الثقافي الذي كان شائعاً في قومه من شعر وخطابة ، ولم يُؤثَر عنه أيّ تميّز عن أبناء قومه سوى تميّزه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) عنهم في التزاماته الخُلقية ، وأمانته ، ونزاهته وصدقه ، وعفّته .
وقد عاش أربعين سنّة قبل البعثة في قومه دون أن يحسّ الناس من حوله بأيّ شيء يميّزه عنهم سوى ذلك السلوك النظيف النزيه ، ودون أن تبرز في حياته أيّ بذور عملية أو اتجاهات جادّة نحو عمليّة التغيير الكبرى التي طلع بها على العالم فجأةً بعد أربعين عاماً من عمره الشريف : { قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {يونس/16} . 
وكان النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) قد ولد في مكّة ، وظلّ فيها طيلة الفترة التي سبقت البعثة ، ولم يغادرها إلى خارج الجزيرة العربية إلّا في سفرتين قصيرتين : أحداهما : مع عمّه أبي طالب وهو صبيّ في أوائل العقد الثاني ، والأخرى : بأموال خديجة وهو في أواسط العقد الثالث .
ولم يتيسّر له بحكم عدم تعلّمه القراءة والكتابة أن يقرأ شيئاً من النصوص الدينية اليهودية أو المسيحية ، كما لم يتسرّب إليه أيّ شيء ملحوظ من تلك النصوص عن طريق البيئة ؛ لأنّ مكّة كانت وثنيّة في أفكارها وعاداتها ، ولم يتسرّب إليها الفكر الديني المسيحي أو اليهودي ، ولم يدخل الدين إلى حياتها بشكل من أشكالها ، وحتّى أولئك الحنفاء الذين رفضوا عبادة الأصنام من عرب مكّة لم يكونوا قد تأثّروا باليهودية أو المسيحية ، ولم ينعكس شيء من الأفكار اليهودية والمسيحية على ما خلّفه قسّ بني ساعدة أو غيره من تراثٍ أدبي وشعري .
ولو كان النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) قد بذل أيّ جهد للاطلاع على مصادر الفكر اليهودي والمسيحي للوحظ ذلك ؛ إذ في بيئة ساذجة ومنقطعة الصلة بمصادر الفكر اليهودي والمسيحي ، ومعقّدة ضدّها لا يمكن أن تمرّ محاولة من هذا القبيل دون أن تلفت الأنظار ، ودون أن تترك بصماتها على كثير من التحرّكات والعلاقات . هذه هي الخطوة الأولى في الدليل.
الثانية : أنّ الرسالة التي طلع بها النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) على العالم ، والتي هي متجسّدة في (القرآن) ، و(الشريعة الإسلامية) تميّزت بخصائص كثيرة :
منها : أنّها جاءت بنمط فريد من الثقافة الإلهية عن اللّه سبحانه وتعالى وصفاته وعلمه وقدرته ، ونوع العلاقات بينه وبين الإنسان ، ودور الأنبياء في هداية البشرية ، ووحدة رسالتهم ، وما تميّزوا به من قيم ومُثُل ، وسنن اللّه تعالى مع أنبيائه ، والصراع المستمرّ بين الحقّ والباطل ، والعدل والظلم ، والارتباط الوثيق المستمرّ لرسالات السماء بالمظلومين والمضطهدين ، وتناقضها المستمرّ مع أصحاب المصالح والامتيازات غير المشروعة .
وهذه الثقافة الإلهية الفريدة المطروحة  في الإسلام ، وفي القرآن لم تكن فقط أكبر من الوضع الفكري والديني لمجتمع وثني منغمس  في عبادة الأصنام ـ مجتمع الجزيرة العربية ـ بل كانت أكبر من كل الثقافات الدينية التي عرفها العالم يومئذٍ ، حتّى أنّ أيّ مقارنة تبرز بوضوح أنّها جاءت لتصحّح ما في تلك الثقافات من أخطاء ، وتعدّل ما أصابها من إنحراف ، وتعيدها إلى حكم الفطرة ، والعقل السليم .
وقد جاء كلّ ذلك على يد إنسان أمّي في مجتمع وثنيّ شبه معزول عن العالم ، لا يعرف عن ثقافة عصره وكتبه الدينية شيئاً يذكر ، فضلاً عن أن يكون بمستوى القيمومة والتصحيح والتطوير .
ومنها : أنّها جاءت بقيم ومفاهيم عن الحياة ، والإنسان ، والعمل ، والعلاقات الاجتماعية ، وجسّدت تلك القيم والمفاهيم في تشريعات وأحكام ، وكانت تلك القيم والمفاهيم ، وهذه التشريعات والأحكام ـ حتّى من وجهة نظر مَن لا يؤمن بربّانيّتها ـ من أنفس ، ومن أروع ما عرفه تاريخ الإنسان من قيم حضارية ، وتشريعات اجتماعية .
فابنُ مجتمع القبيلة ظهر على مسرح العالم والتاريخ فجأةً لينادي بوحدة البشرية ككلّ ، وابنُ البيئة التي كرّست ألواناً من التمييز والتفضيل على أساس العرق والنسب والوضع الاجتماعي ظهر ليحطّم كلّ تلك الألوان ، ويعلن أنّ الناس سواسية كأسنان المشط و{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ {الحجرات/13} ، وليحوّل هذا الإعلان الى حقيقة يعيشها الناس أنفسهم ، ويرفع المرأة الموءودة إلى مركزها الكريم كإنسان تكافئ الرجل في الإنسانية والكرامة .
وابن الصحراء التي لم تكن تفكّر إلّا في همومها الصغيرة ، وسدّ جوعتها ، والتفاخر بين أبنائها ضمن تقسيمها العشائري ظهر ليقودها إلى حمل أكبر الهموم ، ويوحدّها في معركة تحرير العالم ، وإنقاذ المظلومين في شرق الدنيا وغربها من إستبداد كسرى وقيصر .
وابن ذلك الفراغ الشامل سياسياً وإقتصادياً بكلّ ما يعجّ به من تناقضات الربا والإحتكار والاستغلال ظهر فجأةًً ليملأ ذلك الفراغ ، ويجعل من ذلك المجتمع الفارغ مجتمعاً ممتلئاً له نظامه في الحكم وشريعته في العلاقات الاجتماعية والإقتصادية ، ويقضي على الربا والإحتكار والاستغلال ، ويعيد توزيع الثروة على أساس أن لا تكون دُولَة بين الأغنياء ، ويعلن مبادئ التكافل الاجتماعي ، والضمان الاجتماعي التي لم يناد بها التجربة الاجتماعية البشرية إلّا بعد ذلك بمئات السنين ، وكلّ هذه التحوّلات الكبيرة تمّت في مدة قصيرة جدّاً نسبياً في حساب التحوّلات الاجتماعية.
ومنها : أنّ الرسالة في نصوص قرآنية كثيرة تحدّثت عن تاريخ الأنبياء وأممهم ، وما مرّت بهم من وقائع وأحداث بتفاصيل لم تكن بيئة النبيّ العربي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ـ الوثنية والأمّية ـ نعرف شيئاً عنها ، وقد تحدّى علماءُ الكتاب (علماءُ اليهود والنصارى ) النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسّلم) ـ أكثر من مرّة ، وطالبوه بالحديث عن تاريخ تراثهم الديني ، فواجه التحدّي بكلّ شجاعة ، وجاء القرآن بما طلبوا دون أن تكون هناك أيّ وسيلة اعتيادية لتفسير اطّلاع النبي ّ (صلّى اللّه عليه وآله وسّلم)  شخصياً على تلك التفاصيل : {  وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } {القصص/44 ـ 45} .
وممّا يبهر الملاحظ أنّ القصص الحقّ في القرآن لا يمكن أن تكون مجرّد استنساخ لما جاء في كتب العهدين ، حتّى لو افترضنا أنّ أفكار هذه الكتب كانت شائعة ومنتشرة في الوسط الذي ظهر فيه النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسّلم) ؛ لأنّ الاستنساخ يمثّل دوراً سلبياً فقط ، دور الأخذ والعطاء ، بينما دور القرآن في عرض القصّة دور إيجابي ؛ فإنّه يصحّح ويعدّل ويفصل القصّة عمّا ألُصقت بها من ملابسات لا تتفق مع فطرة التوحيد ، والعقل المستنير ، والرؤية الدينية السليمة.
ومنها : أنّ القرآن بلغ في روعة بيانه وبلاغته وتجديده في أساليب البيان إلى درجة جعلت منه ـ حتّى من وجهة نظر غير المؤمنين بربّانيّته ـ حدّاً فاصلاً بين مرحلتين من تاريخ اللغة العربية ، وأساساً لتحوّل هائل في هذه اللغة وأساليبها .
وقد أحسّ العرب الذين حدّثهم النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) بالقرآن بأنّه لا يشبه إطلاق ما ألفوه من أساليب البيان ، وما نشأوا عليه ، وأتقنوه من طرائق التعبير ، حتّى قال قائلهم (وهو الوليد بن المغيرة) حين استمع إلى القرآن : « واللّه لقد سمعت كلاماً ما هو من كلام الإنس ، ولا من كلام الجنّ ، وإنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمعذق ، وإنّه ليعلو وما يُعلي ، وإنّه ليحطم ما تحته ».
وكانوا لا يسمحون لأنفسهم بالاستماع إلى القرآن ، إحساساً منهم بأثره الهائل ، وخوفاً من قدرته الفائقة على تغيير نفوسهم ، وهذا دليل على التميّز الهائل للبيان القرآني ، وعدم كونه استمراراً متطوّراً لما ألفوه .
وقد استسلموا أمام التحدّي المستمرّ والمتصاعد الذي واجههم النبيّ به ؛ إذ أعلن تارةً عجزهم مجتمعين متكاتفين عن الإتيان بمثل القرآن : { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا {الإسراء/88} . 
وأكّد تارةً اخرى على عجزهم جميعاً عن الإتيان بعشر سورٍ مثل سور القرآن : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } {هود/13}. 
وشَدّد ثالثةً على عجزهم عن الإتيان بما يناظر سورةً واحدةً من مثل سور القرآن : { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }{البقرة/23}. 
أعلن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)  ذلك ، وكرّره على مجتمع لم يعرف صناعةً كما عرف صناعة الكلام ، ولم يتقن فنّاً كما أتقن فنّ الحديث ، ولم يتعوّد على شيء كما تعوّد على مجابهة التحّدي والتغنّي بالأمجاد ، ولم يحرص على أمرٍ كما حرص على إطفاء نور الرسالة الجديدة وتطويقها ، ومع ذلك كلّه لم يشأ هذا المجتمع الذي واجه تلك التحدّيات الكبيرة أن يجرّب نفسه ، ولم يحاول أن يعارض القرآن بشيء ؛ وذلك بسبب إيمانه بأنّ الأدب القرآني فوق قدرته اللغوية والفنّية .
والطريف هو أنّ الذي كان يحمل إليهم هذا الزاد الأدبي الجديد على حياتهم هو إنسان مكث فيهم أربعين سنة ، فلم يعهدوا له مشاركة في حلبة أدبية ، ولا تميزاً في أيّ فنٍّ من فنون القول والبيان .
هذا عدد من خصائص الرسالة التي أعلنها النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) على العالم.
وهنا يأتي دور الخطوة الثالثة لتؤكّد ـ على أساس الإستقراء العلمي في تاريخ المجتمعات ـ أنّ هذه الرسالة بتلك الخصائص التي درسناها في الخطوة الثانية هي أكبر بدرجة هائلة من الظروف والعوامل التي مَرَّ استعراضها في الخطوة الأولى ؛ فإنّ تاريخ المجتمعات ، وإن كان قد شهد في حالات كثيرة إنساناً يبرز على صعيد مجتمعه ، فيقوده ، ويسير به خطوةً إلى الأمام ، غير أننا هنا لا نواجه حالةً من تلك الحالات ، لوجود فوارق كبيرة :
فمن ناحية : نحن نواجه هنا طفرةً هائلة ، وتطوّراً شاملاً في كلّ جوانب الحياة ، وإنقلاباً في القيم والمفاهيم ـ التي ترتبط بمختلف مجالات الحياة ـ نحو الأفضل ، بدلاً عن مجرّد خطوةٍ إلى الأمام .
إنّ مجتمع القبيلة طفر رأساً ـ على يد النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ـ إلى الإيمان بفكرة المجتمع العالمي الواحد .
وإنّ المجتمع الوثين طفر رأساً إلى دين التوحيد الخالص الذي صحّح كلّ أديان التوحيد الأُخرى ، وأزال عنها ما علق بها من زيفٍ وأساطير .
وإنّ المجتمع الفارغ تماماً تحوّل إلى مجتمع ممتلئ تماماً ، بل إلى مجتمع قائد يشكّل الطليعة لحضارةٍ أنارت الدنيا كلّها.
ومن ناحية أُخرى : أنّ أيّ تطوّرٍ شاملٍ في مجتمعٍ إذا كان وليد الظروف والمؤثرات المحسوسة ، فلا يمكن أن يكون مرتجلاً ومفاجئاً ، ومنقطع الصلة عن مراحل تمهّد له ، وعن تيّار يسبقه ، ويظلّ ينمو ، و يمتدّ فكرياً وروحياً حتّى تنضج في داخلة القيادة الكفوءة تزعمّه ، وللعمل من أجل تطويراً المجتمع على أساسه .
إنّ دراسةً مقارنةً لتاريخ عمليات التطوّر في مختلف المجتمعات توضّح لنا أنّ كلّ مجتمع يبدأ فيه هذا التطوّر فكرياً على شكل بذور متفرّقة في أرضيّة ذاك المجتمع ، وتتلاقى هذه البذور فتكوّن تيّاراً فكرياً ، وتتحدّد بالتدريج معالم هذا التيّار ، وتنضج في داخلة القيادة التي تتزعمه ، حتّى يبرز على المسرح كواجهة لجزء يعيش في المجتمع تناقض الواجهة الرسمية التي يحملها المجتمع ، ومن خلال الصراع يتّسع هذا التيّار حتّى يسيطر على الموقف.
وخلافاً لذلك نجد أنّ محمّداً (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) في تاريخ الرسالة الجديدة لم يكن حلقةً من سلسلة ، ولم يكن يمثّل جزءاً من تيّار ، ولم تكن للأفكار والقيم والمفاهيم التي جاء بها بذور أو رصيد في أرضية المجتمع الذي نشأ فيه .
وأمّا التيّار الذي تكوّن من صفوة المسلمين الأوائل على يد النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) فقد كان من صنع الرسالة والقائد ، ولم يكن هو المناخ المسبق الذي ولدت فيه الرسالة ، وتكوّن القائد.
ومن أجل ذلك نجد أنّ الفارق بين عطاء النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) وعطاء أيّ واجد من هؤلاء المسلمين الصفوة لم يكن فارق درجة كالفوارق التي تبدو بين بذرة وأُخرى من البذور التي تكوّن التيار الجديد ، بل كان فارقاً أساسيا لا حدّ له ، وهذا يبرهن على أنّ محمّداً (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) لم يكن جزءاً من تيار ، بل كان التيّار الجديد جزءاً منه .
ومن ناحية ثالثة : يبرهن التاريخ على أنّ القيادة الفكرية والعقائدية والاجتماعية لتيّار جديد إذا تركّزت كلّها في محور واحد من خلال حركة تطوّر فكري واجتماعي معيّن ، فلابدّ أن يكون في هذا المحور من القدرة والثقافة والمعرفة ما يتناسب مع ذلك ، ولابدّ من أن يكون تواجدها فيه طبقاً لما يعرف عادةً من أساليب في حياة الناس ، ولابدّ من ممارسة متدرّجة أنضجته ووضعته على خطّ القيادة لذلك التيّار .
وخلافاً لذلك نجد أن محمّداً (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) قد مارس بنفسه القيادة الفكرية والعقائدية والاجتماعية دون أن يكون تاريخة ـ كإنسان أمّي لم يقرأ ، ولم يكتب ، ولم يعرف شيئاً من ثقافة عصره وأديانه ـ يرشّحه لذلك من الناحية الثقافية ، ودون أن تكون له أيّ ممارسات تمهيدية لهذا العمل القيادي المفاجيء.
وعلى ضوء ذلك كلّه ننتهي إلى الخطوة الرابعة التي نواجه فيها التفسير الوحيد المعقول والمقبول للموقف ، وهو إفتراض عامل إضافي وراء الظروف والعوامل المحسوسة ، وهو عامل الوحي ، عامل النبوّة الذي يمثّل تدخل السماء في توجيه الأرض : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{الشورى/52}.
إذاً : فالرسالة والشريعة الإسلامية ، ودين الإسلام من حيث المحتوى حقيقة إلهية وربّانيّة ، وفوق الشروط والظروف المادّية ، والعوامل المحسوسة : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ {آل عمران/19} ، : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } {آل عمران/85}.
فالبشرية جمعاء ـ منذ بعثة النبيّ محمّد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) وإلى يوم القيامة ـ بدعوّة من قبل اللّه تبارك وتعالى إلى الاعتقاد بهذا الدين ، والإيمان بهذه الشريعة ، والإعتراف بنبوّة هذا النبيّ ، وتطبيق هذه الرسالة الإلهية في كلّ مجالات حياتها ، والحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه ، وصلّى اللّه على رسوله وحبيبه وصفيّه محمّد بن عبداللّه وعلى أهل بيته الطاهرين .

خصائص الرسالة الإسلاميّة
 فالإسلام هو دين اللّه الذي بعث به محمّداً (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) رحمةً للعالمين ، ولهذا الدين خصائص وميزات تميّزه عن سائر الأديان السماوية ، وتجعل منه حدثاً فريداً في التاريخ ، وفيما يلي نذكر عدداً من هذه الخصائص والسمات بإيجاز :
أوّلاً : إنّ هذا الدين ظلّ سليماً ضمن (القرآن الكريم) دون أن يتعرّض لأيّ تحريف ، بينما مُنيت الأديان والكتب السماوية السابقة بالتحريف ، وأفرغت من كثير من محتواها ـ للأسف ـ وذلك بأيدي الجهلة والمغرضين ، وأدخلت فيها أفكار سقيمة وباطلة ، أمّا القرآن الكريم فلم تمتد إليه يد التحريف ، بل بقي كالشمس الساطعة يضئ القلوب والعقول : { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ  *  يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ } {المائدة/15 ـ 16}. 
ولا يتلى القرآن الكريم بمضيّ الزمان ، بل يتجلّى إعجازه أكثر فأكثر لما سوف نشير إليه باذن اللّه تعالى.
فالقرآن الذي يتداوله المسلمون حالياً هو نفسه الذي نزل على النبي محمّد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) دون أن يضاف عليه شيء أو يحذف منه شيء ، فمنذ الأيّام الأولى نزول الوحي كان كُتّاب الوحي يدوّنونه ، وكان المسلمون مكلّفين بتلاوة الآيات النازلة آناء الليل وأطراف النهار ، وفي صلواتهم اليومية ، ولذا فقد حفظ (القرآن الكريم) عن ظهر القلب عدد كبير من المسلمين ، وقد حظي حفّاظ القرآن وقرّاؤه بمكانة خاصة في المجتمع الإسلامي ، وهذه العوامل وغيرها أدّت إلى صيانة القرآن من التحريف والتغيير ، والأهم من ذلك كلّه هو أنّ اللّه سبحانه وتعالى قد ضمن حفظ القرآن إلى الأبد ، فلا يمكن أن تمسّه يد التحريف والتغيير مطلقاً ، قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } {الحجر/9} .
وأجمع الباحثون وكبار علماء الإسلام ـ من الشيعة والسنّة ـ على أنّ القرآن لم يتعرّض للتحريف.
ولم يقل بالتحريف إلّا النزر اليسير ، والعدد القليل جدّاً من كلا الفريقين ؛ وذلك استناداً إلى بعض الروايات ، إلّا أنّ الأكثرية الساحقة من علماء المسلمين رفضوا هذا الرأي بصورة قاطعة ، واعتبروا تلك الروايات موضوعة ، أو أنّها تقصد التحريف المعنوي ، أيّ التفسير المحرّف والخاطئ لآيات القرآن ، أو أنّه قد حصل الخلط ـ لدى القائلين بالتحريف ـ بين تفسير القرآن ، وبين النصّ القرآني نفسه .
وعلى أيّ حال فإنّ دراسة المسار التاريخي لجمع القرآن منذ عصر النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، والاحتمام الشديد من قبل المسلمين بكتابته وحفظه وتلاوته ، ووجود كتّاب الوحي  ، وغيرها من العوامل تكشف عن هذه الحقيقه ، وهي أنّ يد التحريف لم تستطع أن تمتدّ إلى القرآن أبداً.
ولا يوجد أيّ قرآنٍ آخر عند أيّ فرقة من فرق المسلمين غير هذا القرآن المتداول والموجود اليوم بين أيدي المسلمين ، فأيّ مقولة أُخرى في هذا المجال مرفوضة جملةً وتفضيلاً.
واحتفاظ الرسالة الإسلامية بمحتواها العقائدي والتشريعي ضمن النصّ القرآني هو الذي يمكّنها من مواصلة دورها التربوي ، وكلّ رسالة تفرغ من محتواها بالتحريف والضياع لا تصلح أداة ربط بين الإنسان وربّه ، والحال أنّ الإسلام يستهدف قبل كلّ شيء ربط الإنسان بربّه وبمعاده ، والسبب في عدم صلاحية الرسالة المحرّفة للقيام بدور الأداة التي تربط الإنسان بمبدأه وبمعاده هو أن هذا الربط لا يتحقق بمجرّد الانتماء الإسمي إلى  الرسالة والشريعة والديانة ، وأن يُسمّى الإنسان مسلماً أو نصرانياً اأو يهودياً مثلاً ، بل يتحقّق الربط بين الإنسان وبين ربّه من خلال التفاعل مع محتوى الرسالة والشريعة والدين وتجسيد ، هذا الدين في الفكر والسلوك ، ومن أجل ذلك كانت سلامة الدين الإسلامي بسلامة النصّ القرآني الشرط الضروري لقدرة هذا الدين على مواصلة أهدافه.
ثانياً : إنّ بقاء القرآن نصّاً وروحاً معناه أن نبوّة محمّد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) لم تفقد أهمّ وسيلة من وسائل إثباتها ، وأهمّ معجزة من معاجزه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ؛ لأنّ القرآن وما يعبّر عنه من مبادئ الرسالة والشريعة كان هو الدليل العلمي الاستقرائي عندنا على نبوّته ، وعلى حقّانية دين الإسلام الذي جاء به ، وفقاً لما تقدّم ، وهذا الدليل العلمي يستمرّ ويبقى مادام القرآن باقياً .
وخلافاً لذلك النبوّات التي يرتبط إثباتها بوقائع معيّنة تحدث في لحظة وتنتهي ، كإبراء الأكمه والأبرص على يد عيسى (على نبيّنا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام) ، أو عصا موسى ويده البيضاء (على نبيّنا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام) ، أو غير ؛ فإنّ هذه الوقائع لا يشهدها عادةً إلّا المعاصرون لها ، وبمرور الزمن ، وتراكم القرون تفقد الواقعة شهودها الأوائل ، ويعجز الإنسان غالباً عن الحصول على أيّ تأكيد حاسم لها عن طريق البحث والتنقيب ، وكلّ نبوّة لا يمكن التأكّد من دليلها لا يمكن أيضاً أن يكلّف اللّه سبحانه وتعالى الإنسان بالاعتقاد بها ، أو بالبحث عن وسيلة إثباتها ؛ لأنّه { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا {الطلاق/7}  ، ونحن اليوم نعتمد ـ في إيماننا بالأنبياء السابقين ، وبكتبهم ، وبمعاجزهم ـ على إخبار القرآن الكريم بذلك .
ثالثاً : إنّ مرور الزمن ـ كما عرفنا ـ لا ينقص من قيمة الدليل الأساسي على حقّانية دين الإسلام ، ولكن ليس هذا فقط ، بل أنّه أيضاً يمنح هذا الدليل أبعاداً جديدة من خلال تطوّر المعرفة البشرية ، واتّجاه الإنسان إلى دراسة الكون بأساليب العلم والتجربة ، وليس ذلك فقط لأنّ القرآن الكريم سبق إلى الاتّجاه نفسه ، وربط الأدلّة على الصانع الحكيم بدراسة الكون ، والتعمّق في ظواهره ، ونَبَّه الإنسان إلى مافي هذه الدراسة من أسرار ومكاسب ، بل لأنّ الإنسان الحديث يجد اليوم في هذا الكتاب ـ الذي جاء به رجل أمّي في بيئة جاهلة ومتخلّفة قبل مئات السنين ـ إشارات واضحة إلى ما كشف عنه العلم الحديث ، حتّى لقد قال المستشرق الإنجليزي (أجنيري) ـ وهو أستاذ اللغة العربية في جامعة أكسفورد ـ عند ما اكتشف العلم دور الرّياح في التلقيح : « إنّ أصحاب الإبل قد عرفوا أنّ الرّيح تلقّح الأشجار والثمار قبل أن يتوصل العلم في أوربا إلى ذلك بعدّة قرون » يشير بذلك إلى قول القرآن الكريم : { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } {الحجر/22}.
إذاً : فالقرآن الكريم ليس فقط لا يبتلى بمضيّ الزمان ، بل يتجلّى إعجازه ، وتتّضح عظمته ، وتتبلور دلالته على نبوّة محمّد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) حقّانية دين الإسلام أكثر فأكثر .
وقد ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال بشأن القرآن : « إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يجعله لزمانٍ دون زمان ، ولناسٍ دون ناسٍ ، فهو في كلّ زمان جديد ، وعند كلّ قومٍ غَضّ إلى يوم القيامة » . بحار الأنوار 2 :280 ، الحديث :44 .
رابعاً : إنّ هذا الدين ـ دين الإسلام ـ جاء شاملاً لكلّ جوانب الحياة ، وعلى هذا الأساس استطاع أن يوازن بين تلك الجوانب المختلفة ، ويوحّد أسسها ، ويجمع في إطار صيغة كاملة بين (الجامع) و (الجامعة) ، و(العمل) و(الحقل) ، ولم يعد الإنسان يعيش حالة الانشطار والانفصال بين حياته الروحية المعنوية وحياته الجسدية الدنيوية .
خامساً : إنّ هذا الدين هو الدين السماوي الوحيد الذي طبّق على يد الرسول الذي جاء به (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، وسجّل في مجال التطبيق نجاحاً باهراً ، واستطاع أن يحوّل الشعارات التي أعلنها إلى حقائق في الحياة اليومية للناس .
سادساً : إنّ هذا الدين بنزوله إلى مرحلة التطبيق دخل التاريخ ، وساهم في صنعه ؛ إذ كان هو حجر الزاوية في بناء أمّةٍ حملت هذا الدين ، واستنارت بهداه .
ولمّا كان هذا الدين ربّانياً ، وعطاءاً سماوياً للأرض فوق العوامل والمؤثّرات المحسوسة ، نتج عن ذلك ارتباط تاريخ هذه الأمّة بعاملٍ عيّني لا يخضع للحسابات المادّية للتاريخ ، ومن هنا كان من الخطأ أن نفهم تاريخنا ضمن إطار العوامل والمؤثّرات الحسية فقط ، أو أن نعتبره حصيلة ظروف مادّية ، أوتطوّر في قوى الانتاج ، فانّ هذا الفهم المادّي للتاريخ لا ينطبق على أمّةٍ بُني وجودها على أساس رسالة السماء ، ودين اللّه تعالى ، وما لم ندخل هذه الرسالة ، وهذا الدين في الحساب كحقيقةٍ ربّانيّة ، لا يمكن أن نفهم تاريخ هذه الأمّة .
سابعاً : إنّ هذا الدين لم يقتصر أثره على بناء هذا الأمّة ، بل امتدّ من خلالها ليكون قوّةً مؤثرة وفاعلة في العالم كلّه على مسار التاريخ ، ولا يزال المنصفون من الباحثين الأوربيين يعترفون بأنّ الدّفعة الحضارية للإسلام هي التي حرّكت شعوب أوربا النائمة ، وأيقظتها ونبّهتها إلى الطريق .
ثامناً : إنّ النبيّ محمداً (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) الذي جاء بهذا الدين تميّز عن جميع الأنبياء الذين سبقوه بتقديم دينه بوصفه آخر دين ربّاني ، وآخر أطروحة إلهية ، وبهذا أعلن أنّ بنبوّته هي النبوّة الخاتمة ، وفكرة النبوّة الخاتمة لها مدلولان :
احدهما : سلبي : وهو المدلول الذي ينفي ظهور نبوّة أُخرى إلى الأبد .
والآخر : إيجابي : وهو المدلول الذي يؤكّد استمرار النبوّة الخاتمة ، وامتدادها ما امتدت العصور والأجيال إلى يوم القيامة.
وحينما نلاحظ المدلول السلبي النبوّة الخاتمة نجد أنّ هذا المدلول قد انطبق على الواقع تماماً خلال الأربعة عشر قرناً التي تلت ظهور الإسلام ، وسيظلّ منطبقاً على الواقع مهما امتدّ الزمن ، غير أن عدم ظهور نبوّة أُخرى على مسرح التاريخ ليس ؛ لأنّ النبوّة تخلّت عن دورها كأساس من أسس الحضارة الإنسانية ؛ بل لأنّ النبوّة الخاتمة جاءت بالرسالة الوريثة لكلّ ما يعبّر عنه تاريخ النبوّات من رسالات ، جاءت بالرّسالة المشتملة على كلّ ما في تلك النبوّات والرسالات من قيم تابتة دون ما لا بسها من قيم مرحلية ، وبهذا كانت هي الرسالة المهيمنة القادرة على الاستمرار مع الزّمن ، وكلّ ما يحمله الزمن من عوامل التطوّر والتجديد : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ }{المائدة/48}.
تاسعاً : وقد اقتضت الحكمة الرّبّانية الّتي ختمت النبوّة بمحمّد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) أن تُعدّ له أوصياء يقومون بأعباء الإمامة والخلافة بعد اختتام النبوّة ، وبعد انقطاع الوحي ، ورحيل الرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ، وهم اثنا عشر إماماً ، قد جاء النصّ على عددهم من قبل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) في أحاديث صحيحة اتّفق المسلمون على روايتها : أوّلهم أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ، وبعده الحسن ، ثمّ الحسين ، وبعده تسعة من ولد الحسين على الترتيب التالي : علي بن الحسين السجّاد ، ومحمّد بن علي الباقر ، وجعفر بن محمّد الصادق ، وموسى بن جعفر الكاظم ، وعلي بن موسى الرضا ، ومحمّد بن علي الجواد ، وعلي بن محمّد الهادي ، والحسن بن علي العسكري ، ومحمّد بن الحسن المهدي صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين.
عاشراً : وفي حالة غيبة الإمام الثاني عشر ـ عجّل اللّه تعالى ظهوره وفرجه ـ أرجَعَ الإسلام الناس إلى الفقهاء لأخذ معالم دينهم عنهم ، وفَتَح باب الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسّنة.
هذه صورة موجزة عن الإسلام ، وعن الدليل على أنّه هو دين الحقّ نأمل أن تنفعكم بإذن اللّه تعالى.

قصص الانبياء

ألكسندر راسل وب: "الإسلام هو الدين الحق"..!!


وُلد الأديب الفيلسوف الأمريكي ألكسندر رسل وب Alexander Russell Webb في مدينة هدسون بمقاطعة كولومبيا عام 1846م، وأمضى مراحل دراسته الأولى في موطنه، ثم رحل إلى مدينة نيويورك حيث أَتَمَّ مرحلة دراساته العليا؛
واستجابةً لميوله الأدبية التي كان يُعَزِّزُها اطِّلاعُه الواسع وخياله الخصب وآراؤه الحرَّة اشتغل منذ بداية دخوله إلى معترك الحياة العملية بالصحافة، واشتهر بكتابة المقالات الهادفة المؤثِّرة، واشتهر -أيضًا- بتأليف القصص القصيرة التي اجتذبت جمهورًا عريضًا من القرَّاء؛ كان يترقَّبُ صدورها ويُتابعها بشغف وإعجاب، وبلغ من نجاحه في ميدان الأدب والعمل الصحفي أن تولَّى بعد فترة وجيزة رئاسة تحرير صحيفتي (سانت جوزيف جاريت) و(ميسوري ريبليكان).
وكان ألكسندر رسل وب يهتمُّ أثناء انشغاله بالصحافة بأصول الأديان ومبادئها؛ فدرس العقيدة اليهودية والفرق التي انبثقت وتشعَّبت عنها، كما درس المسيحية ومذاهبها، ودرس الإسلام وتراثه وقرآنه، كما درس العقائد الشرقية الأخرى؛ مثل: الزرادشتية والكنفوشيوسية والبوذية، واطَّلع على كثير مما كتبه علماء الغرب عن العقائد والأديان والمذاهب(1).
قصة إسلام ألكسندر راسل وب
تطلَّعت نفسه للاتجاه إلى الشرق مصدر الأديان، وهيَّأت له صفاتُه المتميزة وشخصيته المرموقة أن يتولَّى منصب القنصل الأمريكي في مانيلا عاصمة الفلبين عام 1887م، وفي تلك البلاد أُتيح له أن يتَّصل لأول مرَّة في حياته بالمسلمين، وأن يراهم رأي العين، وعن هؤلاء المسلمين استمدَّ أصدق المعلومات عن الإسلام من مصادره الحقيقية، فبهرته عظمة الإسلام وتأثيره العميق في نفوس أتباعه، فآمن بأنه دين الله حقًّا، وأن هذا الدين وحده هو سبيل الله لإسعاد البشرية..
وفي خشوع تامٍّ وعن إيمان صادق ويقين حاسم أشهر إسلامه في عام 1888م، وأعلن عن سعادته الكبرى بأن يحظى بالانتماء إلى أسرة المسلمين، وتَسمَّى باسم (محمد) مقرونًا بالاسم الأصلي، فأصبح يُدعى محمد ألكسندر رسل وب.
وقد قيل: إن ألكسندر راسل الذي كان يعمل قنصلاً في الفلبين... استدعاه السلطان عبد الحميد الثاني، وكلَّف عبد الله الجداوي بمقابلته في مدينة مانيلا، وبعد هذا اللقاء أعلن ألكسندر إسلامه واستقال من عمله، وبدأ في نشر الإسلام في أمريكا(2).
وقد علَّل ألكسندر رسل وب سبب إسلامه في مقال نشره بتلك المناسبة يقول فيه: "تسألني لماذا أسلمتُ وأنا الأمريكي المولود في بلد يدين اسمًا بالمسيحية، ونشأتُ في بيئة تقطر مسيحية، أو على الأصح تتشدَّق بالمسيحية الأرثوذكسية على منابر الوعظ"(3).
وأستطيع الإجابة على الفور:
"إنني اتخذت هذا الدين سبيلاً لحياتي؛ لأنني بعد دراسات متواصلة ومقارنات طويلة وجدته خير الأديان، بل هو الدين الوحيد من بين الأديان كلها الذي يُلَبِّي الاحتياجات الروحية للجنس البشري كله.
وأودُّ أن أُقَرِّر هنا بأنني عندما بلغت العشرين عامًا ضاق صدري بجمود الكنيسة وكآبتها؛ فهجرتُها إلى غير رجعة، وكنتُ لحُسن الحظ ذا عقلية فاحصة مدقِّقَة، أميل دائمًا إلى أن أتحرَّى الدقَّة الكاملة في كل أمر يخصُّني، وأن أجد لكلِّ شيء علَّة وسببًا، ووجدتُ أن الناس -بين علمانيين ورجال دين- عجزوا تمامًا بجميع وسائلهم العقلية والمنطقية عن إقناعي بحقيقة هذه العقيدة، وكلا الفريقين كان يقول: هذه أمور غامضة وخفية ولها أسرارها، ولا بُدَّ أن تُقبل كما هي؛ لأنها أمور لا يمكن تعقلها، وأنها مسائل فوق مستوى إدراكي".
"إن الإسلام وحده هو دين الحقِّ؛ لأنه مُؤَسَّس على الحنيفية الخالدة السمحة السهلة التي تناقلها الإنسان جيلاً بعد جيل عن طريق الرسل، الذين اختارهم الله ابتداءً من نوح إلى إبراهيم إلى محمد صلى الله عليه وسلم لتبليغ رسالات السماء إلى الخلق، وهو الطريق الوحيد المعروف، وهذا الدين يَتَّفِقُ تمامًا مع العقل والقلب والعلم، ويُحَقِّق التوازن النفسي بين مقتضيات الجسم والروح".
"إن اعتناقي للإسلام وإيماني واقتناعي به لم يكن عن ضلالة ولا نزوة طارئة أو فكرة خاطئة، أو انقياد أعمى أو اندفاع عاطفي، لكن كان ذلك وليد دراسة دقيقة فاحصة أمينة غير متأثِّرَة برأي أو ميل سابق، ونتيجة لرغبة حقيقية وعزم صادق لمعرفة الحقيقة والوصول إليها"(4).
إسهامات ألكسندر رسل وب
هو أول من نشر الإسلام في أمريكا(5)؛ لقد تشوَّقت نفس هذا المفكر الإسلامي النابه للاستزادة من العلوم الإسلامية والارتواء من منابعها؛ لذلك تفرَّغ تفرُّغًا تامًّا لهذا الأمر، حيث استقال من وظيفته عام 1892م، وسافر إلى الهند حيث قصد معاهدها الإسلامية، والتقى بعلمائها، وتلقَّى عنهم واستفاد منهم، كما ألقى عدَّة محاضرات دينية في عدد من المدن الهندية؛ مثل: مدراس وحيدر آباد الدكن، وكان من أهم موضوعات محاضراته: (السبيل القويم)، و(الإسلام)، و(الرجل الفيلسوف)، وقد جمع تلك المحاضرات في كتاب نُشر في مدينة مدراس عام 1892م(6).
وبعد أن انتهت رحلته هذه آثر أن يعود إلى وطنه للدعوة إلى الإسلام، وإطلاع مواطنيه على مبادئه السامية وشريعته السمحة، وبدأ في نشر الإسلام في أمريكا، وما إن وصل إلى نيويورك حتى استقرَّ فيها، وأنشأ مكتبًا باسم (شركة النشر الشرقية)، وأصدر في أول مايو عام 1893م العدد الأول من (مجلة العالم الإسلامي)، كان لها دور مهم في التوعية الإسلامية، وأنشأ مسجدًا ومكتبة، وأصبح حديث الناس في نيويورك(7)، ثم نشر في السنة التالية عدَّة كتب عن الدين الإسلامي، كان أهمها(8):
- موجز دين محمد.
- الأعمدة الخمسة للإسلام.
- تعدُّد الزوجات.
- البردة.
تم تعيينه القنصل الفخري لـ(الخلافة العثمانية) في نيويورك من قِبَلِ السلطان عبد الحميد الثاني(9).
لقد أسهم المفكر والأديب محمد ألكسندر بنصيب وافر في الدعوة إلى الإسلام في الولايات المتحدة، والدفاع عنه وتفنيد المزاعم التي نسبها إليه أعداء الإسلام، وجاهد في سبيل دعوته حتى آتت ثمارها، وانشرح صدره عندما استجاب لدعوته عدد غير قليل من مواطنيه المثقَّفين ذوي الرأي الحرِّ، وكانوا نواة للجماعة الإسلامية بنيويورك(10).
تأثر به العديد من الأمريكيين مثل فارود محمد الذي تأثر بحركته في نيويورك، وكان له دور فعال في إسلام الكثيرين من الأمريكيين(11).
وفاة ألكسندر رسل وب
توفي ألكسندر رسل وب سنة 1916م، عن عمرٍ يناهز السبعين عامًا، وألّف (عمر عبد الله Umar F. Abd-Allah) كتابًا عنه بعنوان: (A Muslim in Victorian America: The Life of Alexander Russell Webb) (12).
المصدر: كتاب (عظماء أسلموا) للدكتور راغب السرجاني.
________________________________________
(1) مفيد الغندور: الإسلام يصطفي من الغرب العظماء ص85، 86.
(2) مسعود الخوند: الموسوعة التاريخية الجغرافية، 12/25.
(3) مفيد الغندور: الإسلام يصطفي من الغرب العظماء ص86.
(4) السابق نفسه ص87.
(5) مسعود الخوند: الموسوعة التاريخية الجغرافية، 12/25.
(6) مفيد الغندور: الإسلام يصطفي من الغرب العظماء ص88.
(7) مسعود الخوند: الموسوعة التاريخية الجغرافية، 12/25.
(8) مفيد الغندور: الإسلام يصطفي من الغرب العظماء ص88.
(9) موقع ويكيبيديا، Alexander Russell Webb.
(10) مفيد الغندور: الإسلام يصطفي من الغرب العظماء ص88.
(11) مسعود الخوند: الموسوعة التاريخية الجغرافية، 12/25.
(12) موقع ويكيبيديا، Alexander Russell Webb

الى اليهود والنصارى والعلمانيين......هذا هو الدين الحق.


أما آن لك أن تعتنق الإسلام .. دين كلّ الأنبياء ؟! - الجزء الأول








وَاللَّهِ الذي لا إلهَ غيرُه , لو لَم يَبقَ على وجه الأرض مسلِمٌ غيري لَما شككتُ لحظةً واحدة أنَّني على الدِّين الحقّ . ذلك لتعلم , أيُّها القارئ الكريم , أنَّ ما ستقرأه في هذا الكتاب نابعٌ عن قناعتي التَّامَّة بالإسلام , دين العقل والفطرة والمنطق .
عامر أبو سميّة



---------------------- 5

في هذا الكتاب


كلُّ الإجابات عن كلِّ ما يشغل بالك من تساؤلات حول الكون والخالق والدِّيانات والجنَّة والنَّار , بأسلوب علمي ومنطقي , واضح وسهل , ربَّما لم تعهدْهُ في أيِّ كتاب آخر . 
ولو قرأتَ كلَّ الأجزاء , من أوَّل صفحة إلى آخرها , بقليل من الانتباه وبنيَّة البحث عن الحقيقة , فبإذن اللَّه , بإذن اللَّه , لن تملك بعد ذلك إلاَّ أن تنطق بالشَّهادتين وتدخل في الإسلام .
أسأل اللَّهَ أن يشرح صدرك لهذا الدِّين العظيم , دين إبراهيم وموسى وعيسى ومحمَّد وكلّ الأنبياء عليهم السَّلام . ويا ربّ اهْدِ كلَّ النَّاس إلى دينك الحقّ فإنَّ أكثرهم لا يعلمون , ولو علموا وصدقوا مع أنفسهم لَأَسلموا .

---------------------- 5

إهداء


إلى خاتم الأنبياء والمرسلين , المبعوث رحمةً للعالمين , محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , الذي شرَّفَه ربُّه بالرِّسالة , فبلَّغَها على أكمل وجه . وواللَّهِ إنَّهُ لَيُحْزِنُني جدًّا أن يتكلَّم فيه بعضُ النَّاس كلامًا لا يَليقُ به , ولا بأيِّ نبيٍّ آخر , يُريدُون تَشويهَ صُورته , وهم لَم يَعرفُوه ! ولَو عَرفُوه وأنصَفُوه لَمَا استطاعُوا أن يَتحدَّثُوا عنه إلاَّ بالإعجاب والتَّقدير , لِحُسْن أخلاقه مع القريب والبعيد , وصبره على أذى غيره , وعظيم إنجازاته للبَشَريَّة في مختلف مجالات الحياة , وفي وقت قياسي جدًّا .
إلى عيسَى عليه السَّلام , عبد اللَّه ورسُوله , الذي أُلصِقَتْ به أعظم فِرْيَة في تاريخ البشريَّة , وهي ادِّعاء الألوهيَّة , وهو منها براء .
وإلى أمِّه مريَم العذراء , التي لَم تَسْلَم هي أيضًا من الافتراء عليها بأعظم ما يُفتَرى على امرأة , وهو الطَّعن في شَرفها , وهي الطَّاهرة الشَّريفة العفيفة . وإنَّ ما يُثْلِجُ صدري وصدر كلّ مسلم أنَّ اللَّه تعالى كرَّمَها هي وابنها عيسى أعظم تكريم , فشهدَ لهما مِن فوق سبع سَماوات بالطَّهارة والشَّرف وعُلُوِّ الدَّرجة , شهادةً تُتْلَى إلى آخر الزَّمان , في القرآن الكريم .
إلى هؤلاء إذًا , وإلى كلِّ الأنبياء المفتَرى عليهم , أهدي هذا الكتاب , وأرجُو من اللَّه أن أكون قد وُفِّقتُ فيه في رَفْع الشُّبُهات عنهم , وفي إعطاء فكرة واضحة نَقِيَّة عن الإسلام , دينهم جميعًا , عليهم السَّلام .

---------------------- 5

توضيح


في هذا الكتاب , كان لا بُدَّ لي أن أتعرَّض بإطناب إلى عقائد اليهود والنَّصارى , دون غيرهم من أتباع الدِّيانات الأخرى . والسّببُ في ذلك أنَّهم يشتركون مع المسلمين في عبادة اللَّه تعالى , وكان من المفروض منطقيًّا أن تكون أصولُ عقيدتهم واحدة , لكنّ الواقع يُظْهِر أنّهم يختلفُون تمام الاختلاف في نظْرَتهم للَّه ورُسُلِه وكُتُبه المقدَّسة , وللجزاء يوم القيامة . 
لذلك , وجدتُ من الواجب علَيَّ أن أُنَبِّه اليَهود والنّصارى إلى أنَّ اللَّه تعالى , الذي يُؤمنُون به , قد تحدَّث عنهم في القرآن الكريم , فأعلَن أنَّ التَّوراة والأناجيل التي عندهم اليوم , ليست هي التَّوراة الأصليَّة والإنجيل الأصلي اللَّذَيْن أُنْزِلاَ على النَّبيَّين الكريمَيْن موسى وعيسى عليهما السَّلام . ثمَّ دَعَّمتُ ما قالَه اللَّهُ تعالى بشَواهِدَ وأدلَّة عديدة مِن نُصوص الكتاب المقدَّس نَفْسِه , تدلُّ بِوُضُوح على أنَّ هذا الكتاب مليءٌ بالتَّناقُضات , وأنَّه يستحيلُ عقليًّا ومنطقيًّا أن يكون كلام اللَّه . 
فأرجُو إذًا ألاَّ يُفَسَّر هذا التَّصَرُّف على أنَّه تحامُلٌ على اليهود والنَّصارى أو إلصاق الأكاذيب بهم بُغيَة إثارة العداوة ضدَّهم , فهذا ليس من أخلاق المسلم . وإنَّما غرضي من ذلك أن يَتثَبَّتَ هؤلاء من صحَّة مُعتَقَداتهم , لعلَّ اللَّه يهديهم إلى دينه الحقّ , فَيَنجَوْن من الخُلُود في النَّار يوم القيامة . هذا بالإضافة إلى أنَّني فعلتُ ذلك غيرةً على اللَّه تعالى , وعلى أنبيائه الكرام , وعلى كُتُبه الأصليَّة المقدَّسة . فالمسلمُ لا بُدَّ أن يَغار ويُدافع عن التَّوراة الحقيقيَّة والإنجيل الحقيقي كما يَغارُ على القرآن , لأنَّها كُلّها كُتُبٌ مُقَدَّسة . كَما أنَّه لا بُدَّ أن يَغار ويُدافع عن موسى وعيسى وكلّ الأنبياء عليهم السَّلام كما يَغارُ على محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , لأنَّهم كُلُّهم أشرف خَلْق اللّه . وهذا ما سأفعلُه في هذا الكتاب بإذن اللَّه .
اللَّهُمَّ هل بَلَّغْتُ ؟ اللَّهُمَّ فاشْهَدْ .

---------------------- 5

ألف شكر !


لقد استعنتُ في كتابة هذه الأجزاء بِمَراجع عديدة ومتنوِّعة , منها الكُتب , ومنها المقالات الصّحفيَّة , ومنها المحاضرات , ومنها الحوارات التّلفزيونيَّة . وأجِدُ من واجبي أن أتقدَّم بالشُّكر الجزيل إلى أصحاب هذه المراجع , للخدمة الجليلة التي قدَّموها لي بطريقة غير مباشرة . فأنا لم أكن لِأَستطيع أن أكتب هذه الأجزاء , لو لَم أعتمد على ما وصل إليه الشَّيخ الجليل عبد المجيد الزّنداني مثلاً , وغيره من العلماء , في ميدان الإعجاز العلمي في القرآن , وما نَشَره بعض المسلمين الجُدُد من قصص عن كيفيَّة إسلامهم , وما تفضَّل به بعض عُلماء المسلمين من فتاوى بخصوص مسائل دقيقة , وما كَتَبَتْهُ بعض السَّيِّدات الكريمات من آراء قيِّمة حول المرأة . 
وأنا لا أملِكُ إلاَّ أن أسألَ اللَّهَ لهؤلاء جميعًا , وأيضًا لكلِّ من ساعدَني في تصميم هذا الكتاب وطباعته ونشره , أن يُعطيهم من الخير ما يَتمَنَّون , وأن يَختِمَ بالصَّالحات أعمالَهم , وأن يكْتُبَهم من أصحاب جنَّة الفردوس , آمين .
وأريدُ التَّنبيه من ناحية أخرى إلى أنَّني اجتهدتُ قدر المستطاع أن تكون كلّ المعلومات الواردة في هذا الكتاب مُنتقاة من مصادر موثوق منها , وأن تكون مُوافِقة لِمَا يُنادي به الإسلام . لكنَّ الإنسان يُخطئُ ويُصيب . وعلى هذا , فإنْ وافقَ ما كَتَبْتُه الحقَّ , فذلك بتَوفيقٍ من اللَّه , وإن أخطأتُ في بعض المسائل , فالخطأ منِّي وليس من الإسلام .. اللَّهُمَّ فاشْهَدْ .

---------------------- 5

قبل أن نبدأ


سُئِلَت فتاةٌ في الرَّابعة عشر من عمرها عن سبب اعتناقها للإسلام , فكان مِمَّا قالَتْه : إنَّ المسيحيَّة هي الذَّهاب مرَّة واحدة في الأسبوع إلى الكنيسة , ومحاولة أن تكون إنسانًا طيِّبًا , بينما الإسلام منهج حياة كامل ! (نقلاً عن موقع طريق الإسلام www.islamway.com )
نحن نعيش اليوم في عصرٍ تاهَ أغلبُ النّاس فيه عن المقاييس الصَّحيحة , فغرقوا في فَوضى عامّة , لم يعودوا يُميِّزون فيها بين الحسن والقبيح , بين الصَّواب والخطأ . وبالرَّغم من التَّقدُّم العلمي الهائل الذي حقَّقَتْهُ البشريَّةُ في هذا العصر , إلاَّ أنَّها ابتعدتْ كثيرًا عن الدِّين الحقّ , فضاعت أخلاقُها وفسدتْ مجتمعاتُها .
نعم , كلُّ المشاكل التي يتخبَّط فيها العالَم اليومَ سببُها الأساسي هو ابتعاد الإنسان عن المنهج الصَّحيح الذي سطَّرهُ له خالقُه , تمامًا مثلما يتشوَّش عملُ غسَّالة الثِّياب مثلاً إذا شُغِّلَتْ على خلاف الدَّليل الذي وضعهُ لها صانعُها . 
لا سبيل إذًا لصلاح المجتمعات إلاَّ باتِّباع منهج اللَّه , وهو الإسلام , دين كلِّ الأنبياء . وهذا ما سنحاول تفصيله في هذه الأجزاء , بالأدلَّة العلميَّة والمنطقيَّة .

عامر أبو سميّة

---------------------- 5

لكن لماذا تحوَّلا من المسيحيَّة إلى الإسلام ؟!


اسمحي لي , سيِّدتي الكريمة , سيِّدي الكريم , أن أبدأ هذا الجزء بقصَّتيْن واقعيَّتَيْن :
القصّة الأولى في إسلام السّيّد Gary Miller ، وكان من كبار الدُّعاة إلى المسيحيَّة في الكندَا . وفي أحد الأيَّام , أراد أن يقرأ القرآن الكريم عَلَّهُ يَجِدَ فيه بعض الأخطاء التي تُعزِّزُ موقفه عند دَعْوَته المسلمينَ إلى الدُّخول في المسيحيَّة . كان يَتوَقَّع أن يَجِدَ القرآنَ الذي أُنزِلَ منذ حوالي أربعة عشر قرنًا , كتابًا بدائيًّا يتحدَّثُ عن القبائل والصَّحراء وما إلى ذلك . لكنَّه ذهِلَ عندما وجدَ فيه معلومات كثيرة لا تُوجد في أيِّ كتاب آخر ! وكان يتوقَّع أن يَجِدَ فيه ذِكْرًا لِبَعض الأحداث العصيبة التي مَرَّ بها النَّبيُّ محمَّدٌ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , مثل وفاة زوجته خديجة رضي اللَّه عنها في الوقت الذي كان في أشدّ الحاجة إليها , ومثل وفاة أغلب أطفاله في حياته : القاسم وعبد اللَّه وإبراهيم ورُقَيَّة وأمّ كلثوم , ولكنَّه لَم يَجِدْ شَيْئًا من ذلك .
واحتار عندما وجدَ سورةً كاملة في القرآن تُسمَّى سورة مريم , فيها تشريفٌ لها عليها السَّلام , لا يوجَدُ له مثيلٌ في كُتُب النَّصارى ولا في أناجيلهم ! وفي المقابل , لَم يَجد سورة واحدة باسم عائشة رضي اللَّه عنها , زوجة النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , ولا باسم ابنته فاطمة رضي اللَّه عنها . واحتار أكثر عندما وجد اسمَ النَّبيِّ عيسى عليه السَّلام ذُكِر خمسًا وعشرين مرَّة في القرآن , بينما لَم يُذكَرْ فيه اسم محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إلاَّ أربع مرَّات فقط .
وأخذ يقرأ القرآن بِتَمَعُّن أكثر علَّه يَجِدُ مَأخَذًا عليه , فاسْتَوقَفَتْهُ آية عجيبة , هي قول اللَّه تعالى : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا 82 } (4- النّساء 82) .
يقول Gary : لا يُوجَد أيُّ كاتب في العالم يكتبُ كتابًا ثمَّ يقول : هذا الكتابُ خالٍ من الأخطاء . بينما اللَّهُ تعالى تحدَّى كلَّ النَّاس أن يَجدُوا أخطاء في القرآن , وأعلنَ أنَّهم لن يَجِدُوا .
ومن بين الآيات التي توقَّف عندها Gary أيضًا , قول اللَّه تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ 30 } (21- الأنبياء 30) .
يقول Gary : إنَّ هذه الآية هي بالضَّبط موضوع البحث العلمي الذي حصلَ على جائزة نوبل سنة 1973 م ! كان الموضوع عن نظريَّة الانفجار الكبير , والتي مُلَخَّصُها أنَّ الكون كان كُتْلَة واحدة ثمَّ انْفَجر , وتكوَّنتْ مِن هذا الانفجار الكواكبُ والنُّجوم . والآية تَنُصُّ فعلاً أنَّ الكون , بِمَا فيه من سماوات وأرض وكواكب , كان رتقًا , أي مُتماسِكًا , أي كُتْلَة واحدة , ثمَّ تفتَّق , أي تَفَكَّك !
توقّف Gary أيضًا عند قول اللَّه تعالى : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ 210 وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ 211 إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ 212 } (26- الشّعراء 210-212) , وقول اللَّه تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ 98 } (16- النّحل 98) .
يقول Gary مُعلِّقًا على هذه الآيات : إذا كان القرآنُ قد تَنزَّلتْ به الشَّياطينُ على محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , كما ادَّعى بعضُ الكفَّار سابقًا وكما يدَّعي اليومَ بعضُ النَّاس من الدّيانات الأخرى , فهل من المعقول أن تُوحِي الشَّياطينُ بكتابٍ إلى محمَّد وتقول له أن يكتبَ فيه : وما تَنزَّلتْ به الشَّياطين , وما يَنْبَغي لهم , وما يَسْتَطيعُون ؟! بل أغرب من ذلك : تطلبُ منه أن يَتعوَّذ باللَّه منها قبل أن يقرأ هذا الكتاب , وتصف نفسها بأنَّها ملعونة !
وتوقَّف Gary أيضًا عند قول اللَّه تعالى : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ 1 مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ 2 سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ 3 وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ 4 فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ 5 } (111- المسد 1-5) .
يقول Gary : أبو لَهَب المذكور في هذه السُّورة كان يكرهُ الإسلام كُرهًا شديدًا , إلى دَرجَة أنَّه كان يَتْبعُ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أَيْنَمَا ذَهَب لِيُشَكِّكَ في كلامه . فكان إذا رآهُ تكلَّم إلى أُناسٍ غُرَباء , يَنتظرُهُ حتَّى يَنتهي من ذلك , ثمَّ يذهبُ إليهم ويسألُهم : ماذا قالَ لكُم مُحَمَّد ؟ إن قالَ لكُم أبيض , فهو أسْوَد , وإن قالَ لكُم لَيْلٌ , فهو نَهار !
وقبل عشر سنوات من وفاة أبي لَهب , نزلتْ هذه السُّورة لِتُعلِنَ لكلِّ النَّاس أنَّ أبا لَهب سيكونُ من أهل النَّار , أي أنَّه لَنْ يُسْلِمَ أبدًا ! وسمعَ كُفَّارُ قُريش هذا التَّحدِّي , وسَمعَه أيضًا أبو لهب . وخلال عشر سَنوات كاملة , كانت الفُرصة سانِحَة أمام هذا الرَّجل لكي يُبطلَ هذا التَّحدِّي , بأن يَقف أمام النَّاس ويقول : محمَّدٌ يَدَّعي أنَّني لَنْ أسْلِمَ أبدًا وسأدخلُ النَّار , ولكنَّني أعلنُ الآن أنَّني أريدُ أن أدخُل في الإسلام ! فما رأيُكُم ؟ أليس محمَّدٌ كاذبًا في ما ادَّعاه من أنَّني لن أسلم ؟!
لكنَّ أبا لَهَب لَمْ يَفعلْ ذلك ! وخلال عشر سنوات كان بإمكانه أن يُسلِم , أو أن يتظاهر بالإسلام , ولكنَّه لَمْ يَفْعَلْ , وماتَ كافرًا كما أعلنَ القرآن ! فأن يَضعَ محمَّدٌ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم هذا التَّحدِّي , ليس له إذًا إلاَّ مَعْنى واحِد , وهو أنَّ القرآنَ وحيٌ من عند اللَّه الذي يعلَمُ الغيب , ويعلمُ أنَّ أبا لَهب لَنْ يُسلِم .
ومن بين الأمور التي أدهشتْ Gary أيضًا : أسلوب القرآن في سَرْد الأحداث الغيبيَّة . فهو يَسْرد الحدَث , ثمَّ يُعقِّبُ عليه قائلاً : لَم تكن تَعلمه من قبل .
مثال ذلك : يقول اللَّه تعالى في قصَّة مريم عليها السَّلام : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ 44 } (3- آل عمران 44) . ويقول تعالى في قصَّة النَّبيّ نوح عليه السَّلام : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ 49 } (11- هود 49) . ويقول تعالى في قصَّة النَّبيّ يوسف عليه السَّلام : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ 102 } (12- يوسف 102) . 
يقول Gary : لا يُوجَد كتابٌ مِمَّا يُسَمَّى بالكُتب المقَدَّسة , يتكلَّم بهذا الأسلوب . فالأناجيل المحرَّفة الموجودة لَدى النَّصارى مثلاً , عندما تسردُ قصص القُدامَى تقول : الملِكُ فلان عاش هنا , والقائد فلان خاضَ المعركة الفلانيَّة هناك , وفُلان كان له عدد كذا من الأبناء , أسماءهم فلان وفلان , إلخ . بينما القرآنُ يَسردُ المعلومة , ثمَّ يقول لك : إنَّها معلومة جديدة , بل ويطلبُ منك أن تتأكَّد من صِحَّتها إن كنتَ في شَكٍّ من ذلك ! وقد كان قومُ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يسمعون هذا التَّحدِّي وقتَ نزوله , ولَم يَحدثْ أبدًا أن قالُوا أنَّهم يَعرفون هذه المعلومات أو أنَّهم يعرفُون مصدرها .
هذه إذًا بعض التَّأمُّلات في القرآن الكريم , والتي دَعت السَّيِّد Gary إلى التَّحوُّل من المسيحيَّة إلى الإسلام , فالحمدُ للَّه ربّ العالمين أن شرح صدرهُ لهذا الدّين العظيم . (نقلاً , مع تصرّف بسيط في سرد القصّة , عن موقع طريق الإسلام www.islamway.com) .

القصّة الثَّانية في إسلام السَّيِّدة Mary Watson , وكانت من كبار الدُّعاة إلى المسيحيّة في الفيلبِّين . 
تقول Mary : أحمد اللَّه على نعمة الإسلام . وُلِدْتُ بأمريكا , وعشتُ مُعظَم شبابي بين لوس أنجلوس والفيلبِّين . لَدَيَّ سبعة أطفال , بنين وبنات , مِن زوج فيلبِّيني . بعد إسلامي والحمد للَّه , تسمَّيتُ بخديجة . وقد اخترتُ هذا الاسمَ لأنَّ السَّيِّدة خديجة رضي اللَّه عنها كانت أرملَة , وكذلك أنا أرملَة , وكان لديها أولاد , وأنا كذلك , وكان عُمرها أربعين سنة عندما تزوَّجت من النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وآمنتْ به , وكذلك أنا كنتُ في الأربعينات عندما اعتنقتُ الإسلام . كما أنَّني مُعجَبَةٌ جدًّا بشَخصِيَّتها , لأنّها عندما نزلَ الوحْيُ على محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , آزرَتْهُ وشجَّعَتْهُ دون تردُّد .
كنتُ لاهوتيَّة , وأستاذة محاضرة , وراهبة , ومُنَصِّرة , وعملتُ في محطَّة إذاعيَّة في الوَعْظ المسيحي , وكنتُ ضيفةً على برامج تلفزيونيَّة , وكتبتُ مقالات ضدَّ الإسلام قبل توبتي , أسألُ اللَّهَ أن يغفر لي , فقد كنتُ مُتعصِّبة جدًّا للمسيحيَّة .
نقطةُ التَّحوُّل بدأَتْ عندما كنتُ مرَّةً مدعوَّة لإلقاء بعض المحاضرات في الفيلبِّين في إطار الحملات التَّنصيريَّة , فاسترعَى انتباهي وجود مُحاضِر فيلبِّيني جاء من إحدى الدُّول العربيَّة . لاحظتُ عليه أمورًا غريبة , فألححتُ عليه بالسُّؤال حتَّى عرفتُ أنَّه أسلمَ هناك , ولا أحد يعرفُ بإسلامه .
عند ذلك راودَتْني أسئلة كثيرة : لماذا استبدل دينَه بالإسلام ؟! وما الذي وجدهُ في هذا الدِّين الجديد ؟! فتذكَّرتُ صديقةً لي فيلبِّينيَّة كانتْ تعمَلُ في السّعوديَّة وأسْلَمَتْ , فذهبتُ إليها وبدأتُ أسألُها عن وضعيَّة المرأة في الإسلام , لأنَّني كنتُ أعتقد أنَّ المرأة المسلمة مُضْطَهَدة , وأنَّها تتعرَّض للضَّرب من طرف زوجها , وأنّها تختبئُ في منزلها ولا تخرجُ منه أبدًا ! ارتحتُ كثيرًا لإجاباتها , فسألتُها عن اللَّه عزَّ وجلّ , وعن النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . ثمَّ عرضَتْ عليَّ أن أذهبَ إلى المركز الإسلامي , فتردَّدتُ , ثمَّ ابتهلْتُ إلى " الرَّبِّ " أن يَهديني , ثمَّ ذهبت إلى المركز . فاندهشُوا جدًّا من معلوماتي الغزيرة عن المسيحيَّة , ومعتقَداتي الخاطئة عن الإسلام ! فصحَّحوا لي هذه الأخطاء , وأعطَوْني بعض الكُتيِّبات . فحمَلْتُها معي , وأخذتُ أقرأ فيها كلَّ يوم , وأتحدَّثُ معهم بالهاتف . وكانت هذه أوَّل مرَّة أقرأ فيها كُتبًا كَتبها مُسلِمُون , فاكتشفتُ أنَّ الكُتبَ التي كنتُ قرأتُها لِكُتَّاب نَصارى , كانت مملوءة بالمغالطات عن الإسلام والمسلمين !
بعد أسبوع واحد , عرفتُ أنَّ الإسلام هو الدِّينُ الحقُّ , وأنَّ اللَّهَ إلهٌ واحدٌ لا شريك له , وأنَّه هو الذي يغفرُ الذُّنوبَ والخطايا , وهو الذي يُنقِذُنا من عذاب الآخرة . ولكنَّني لَم أُسلِمْ وَقْتها , لأنَّ الشَّيطان كان يَزرعُ في نفسي الشُّكُوك والمخاوف . فكثَّف لي المركزُ الإسلامي مِن المحاضرات , وابتهلتُ إلى اللَّه أن يهديني إلى الدِّين الحقِّ . 
وذاتَ ليلَة , كنتُ مُستلقِيَةً على فراشي , لَمْ أنَم بعدُ , فشعرتُ بشيء غريب يستقرُّ في قلبي . فاعتدلتُ بسُرعة , وقلتُ : يا ربّ , أنا مؤمنة بك وحدك , ثمَّ نطقتُ بالشَّهادتَيْن , وشعرتُ بعدها باطمئنان وراحة يعُمَّان كلَّ بَدَني . فالحمدُ للَّه على نعمة الإسلام , ولَمْ أندمْ أبدًا على ذلك اليوم الذي يُعتَبرُ يوم ميلادي .
بعد إسلامي , أصبحتُ أعملُ بالمركز الإسلامي بالفيلبِّين , فكنتُ أُحْضِرُ للبيت بعضَ الكُتَيِّبات والمجلاَّت الإسلاميَّة , وأضعُها مُتعمِّدة على الطَّاولة , عسَى اللَّهُ أن يَهدي ابني Christopher إلى الإسلام , إذ أنَّه الوحيد الذي يعيش معي . فبدأَ بالفعْل , هو وصديقه , يَقْرآنها ثمّ يَتْركانها كما هي تمامًا . وكان لَدَيَّ مُنَبِّه أذان , فكان يستمعُ إليه وأنا بالخارج . ثمَّ أخبرني بعد ذلكَ برغبته في الدُّخول في الإسلام , ففرحتُ جدًّا وشجَّعتُه , وجاء بعضُ الأخوة من المركز الإسلامي لِلحديث معه , وعلى إثْر ذلك نطقَ بالشَّهادتَيْن , وسَمَّى نفسَهُ عُمر . هو ابني الوحيد الذي اعتنقَ الإسلام , وأدعُو اللّهَ أن يَهدي البقيَّة . (نقلاً , مع تصرّف بسيط في سرد القصّة , عن موقع اللّجنة العالميّة لنصرة خاتم الأنبياء www.icsfp.com) .

---------------------- 5

هذا الكون .. حقًّا , ما أوسعه !


نعم , هذا ما وصلتْ إليه آخرُ الأبحاث العلميَّة . فالأرضُ التي نعيش فوقها تُمثِّل قطرة ماء في محيط عظيم , أو حبَّة رمل في صحراء شاسعة ! وقبل أن نغوص في أسرار هذا الكون الفسيح , لا بُدَّ لنا أن نختار وحدةً لقياس مسافاته الهائلة . في ظنِّك , ما هي هذه الوحدة ؟ هل هي الكيلومتر ؟ الألف كيلومتر ؟ المليون كيلومتر ؟ 
أبدًا ! إنَّ المسافات بين النُّجوم لا يكفي لقياسها حتَّى المليون كيلومتر , بل لا بُدَّ من مليون المليون ! ذلك أنَّ أقرب نجمٍ إلينا بعد الشَّمس , وهو ما يُسمَّى بالفرنسيَّة Proxima Centauri والذي ينتمي إلى النِّظام المتعدِّد النُّجوم Alpha du Centaure , يَبعدُ عنّا حوالي 41 ألف مليار كيلومتر !!
نعم , هذا أقرب نجم ! فَما بالُك ببقيَّة النُّجوم ؟! لذلك , اتّجهَ العلماء في حساب المسافات الفلكيّة إلى استعمال سُرعة الضّوء التي تبلغ 300 ألف كلم في الثَّانية . لكنّ هذا الرَّقم , على كِبَره , غير كافٍ أيضًا ! فوقع الاتِّفاقُ إذًا على السَّنة الضَّوئيَّة , وهي المسافة التي يقطعُها الضَّوءُ في سَنة من الزَّمن , كَوحْدة للقياس .
السَّنة الضَّوئيّة = 9.5 ألف مليار كيلومتر .
وعلى هذا , فَعِوَضًا أن نقول أنَّ المسافة التي تَفصلُنا عن النَّجم Proxima Centauri هي 41 ألف مليار كلم , نقول أنَّها تساوي حوالي 4.3 سَنة ضوئيَّة , أي أنَّ هذا النَّجم يبعد عنَّا مسيرة 4.3 سَنة بسرعة الضَّوء , أي أنَّه لو أرسلَ إلينا شُعاعًا من نُوره لَوَصل إلينا هذا الشُّعاع بعد 4 سنوات وثلاثة أشهر ونصف تقريبًا !

أين تقع أرضنا في هذا الكون الفسيح ؟
الأرضُ هي كوكب ينتمي إلى المجموعة الشَّمسيَّة , وهذه المجموعة تتكوَّن من : 
- الشّمس , طبعًا , وهي نجم , وهي المركز الذي تدور حوله الكواكبُ والأقمار التَّابعة لها . 
- ثمَّ تِسْع كواكب , وهي , ابتداء من أقربها إلى الشَّمس : عُطارد Mercure , ثمَّ الزّهرة Vénus , ثمَّ الأرض Terre , ثمَّ المرِّيخ Mars , ثمَّ المشتري Jupiter , ثمَّ زُحل Saturne , ثمَّ أورانس Uranus (اكتُشف سنة 1781 م) , ثمَّ نبتيون Neptune (اكتُشف سنة 1846 م) , ثمَّ بلوتو Pluton (اكتُشف سنة 1930 م) .
وتنتمي المجموعة الشَّمسيَّة إلى مجموعة أخرى أكبر منها بكثير تسمَّى مَجَرَّة دَرْب التّبَّانة (Voie Lactée) , ويُسمِّيها البعضُ مَجَرَّة طريق اللَّبن , وهي تضمُّ حوالي 100 مليار نجم !
ويبلغ طولُ هذه المجرَّة حوالي 100 ألف سنة ضوئيَّة , وارتفاعها حوالي 10 آلاف سنة ضوئيَّة ! وتقع المجموعة الشَّمسيَّة , بما فيها الأرض , على بُعد 30 ألف سنة ضوئيَّة من مركز هذه المجرَّة , وعلى بُعد 20 ألف سنة ضوئيَّة من أقرب طَرف لها , وحوالي في وسط ارتفاعها !
لا شكَّ سيِّدي الكريم أنَّك مندهش لهذه الأرقام التي لا يستطيع العقلُ البشري أن يَستَوْعبها لِضَخامتها ! ولكنَّها حقائق , أكَّدها علماء الفلك في مختلف بلدان العالم . 
وسوف تزداد دهشتك إذا علمتَ أنَّ مجرَّتنا , درب التّبَّانة , ليست هي كلّ الكون ! أبدًا , فالجزءُ مِن الكون الذي تَوصَّل العلماءُ اليوم إلى اكتشافه بواسطة مَراصدهم العملاقة , يحتوي على حوالي 100 مليون مجرَّة ! ولكن بَقِيَ جزءٌ أكبر لم تطُلْهُ أعيُنُ المراصد , ومِن المحتمل أنَّه يحتوي أيضًا على عدد أكبر من المجرَّات !
والمدهش أكثر أنَّ المسافة بين هذه المجرَّات تُقدَّر بملايين السِّنين الضَّوئيَّة ! وهذا يعني أنَّ الكون , بالرَّغم من احتوائه على مليارات المليارات من النُّجوم , إلاَّ أنَّه فارغٌ بأتمِّ معنى الكلمة ! وأنتَ عندما تَستلقي على ظهرك تتأمَّلُ السَّماء , في ليلةٍ ظلماء لا يَشوبُها سحاب , تُشاهد حشدًا هائلا من النُّجوم , فتظنُّ أنَّ الكون مُزدحم . لكنَّ الحقيقة أنّك لو ركبتَ مثلا مركبةً فضائيَّة لِتَنْقُلَكَ من نجم لآخر , لَبقيَتْ تسير بك ملايين السِّنين في فراغ مُوحش وسواد شديد , لا يعترضُكَ فيه أيُّ شيء حتَّى تصل إلى النَّجم المقْصُود !
فهل عرفتَ الآن سيِّدي الفاضل كم هو فسيح جدًّا هذا الكون , وكم هي صغيرةٌ جدًّا جدًّا جدًّا .. هذه الأرض التي نعيشُ فوقَها ؟!

---------------------- 5

الكلُّ يجري بسرعات خياليَّة !


إذا كنتَ سيِّدي أُصبتَ بالدَّهشة والذُّهول مِن سعة هذا الكون وكثرة كواكبه ونجومه , فلتعلَمْ أيضًا أنَّ كلّ ما فيه يَجري ويَدور ! 
إليك هذه الأرقام التي وصلَ إليها علماءُ الفلَك : 
تدور الأرضُ حول محورها مرَّةً كلَّ 23 ساعة و56 دقيقة و4.1 ثانية , وذلك بسُرعةٍ تزيد قليلاً عن 1600 كلم في السَّاعة بالنِّسبة لِنُقطةٍ عند خطِّ الاستواء . نعم , إنَّ الأرض تدور بنا بهذه السُّرعة المجنونة , ونحن لا نشعر بِدَوَرانِها على الإطلاق ! 
وليس هذا فقط , فهي في نفس الوقت تدورُ , ومعها القمر , حول الشَّمس في مَدار إهليلي مرَّةً كلَّ 365 يومًا وربع اليوم , بسرعة 105 ألف كلم في السَّاعة , ونحنُ لا نشعُرُ أيضًا بأيِّ شيء ! في حين أنَّنا لو ركِبْنَا مثلاً سيَّارةً تجري بنَا بسرعة 300 كلم في السَّاعة , لَأصابَنا الدُّوار , ولَكادَ قلبُنا أن يَسقط من الخوف . فكيف يكون حالُنا لو أنَّنا كنَّا نُحسُّ فعلا بحركة الأرض , وهي تدور بنا حول نفسها بأكثر من خمسة أضعاف سرعة هذه السَّيَّارة , وفي نفس الوقت تجري بنا حول الشّمس بأكثر من ثلاثمائة ضعف هذه السُّرعة ؟! 
وتدور الشَّمسُ حول مركز مجرَّة درب التّبَّانة بسرعة 69500 كلم في السّاعة , بالنّسبة لِمَا حولها من النُّجوم , حاملةً معها الأرض وبقيَّة المجموعة الشَّمسيَّة !
وتدور مجرَّة درب التّبَّانة في مدار حلزوني حول مركزها الهندسي بسرعة 972 ألف كلم في السَّاعة , حاملةً معها الأرض والشَّمس وبقيَّة نجوم المجرَّة ! 
شيء أقرب للخيال منه للواقع , ومع ذلك فهو واقع , أكَّدَتْهُ الدِّراساتُ الفلكيَّة في مختلف البلدان .
وهنا , اسمحْ لي أن أسألكَ سيِّدي الكريم : هل يَقبَلُ عقلُكَ أنَّ هذا الكون الفسيح , بِما فيه من مليارات الكواكب والنُّجوم والمجرَّات , وبِما فيه من بَشَر ودوابّ , وُجِدَ عن طريق الصُّدفة , وكُلُّ ما فيه يَتحرَّكُ بالصُّدفة ؟!
أليس الأقرب إلى المنطق أن يكون وراء وُجُوده وحركَته صانعٌ أو خالق , على أكمل قَدْر من العظمة والقُدرة ؟

---------------------- 5

الكون في اتّساع مستمرّ !


في بداية القرن العشرين , كانت نتائج بحوث علماء الفلك تُشير إلى أنَّ أكثر المجرَّات تتباعد عن مجرَّتنا درب التّبَّانة . ولكن لم يتمَّ التَّأكُّد من ذلك إلاَّ سنة 1929 م , عندما تمكَّن عالم الفلك الأمريكي Edwin Hubble من إثبات أنَّ كلَّ المجرَّات تتباعد عن بعضها البعض , وأنَّ الكون في اتِّساعٍ دائم ! ووضعَ هذا العالِمُ قاعدةً لحساب سرعة تباعد المجرَّات .
وهذا الاكتشاف يدعُونا لِأَن نقف للمرَّة الأولى مع القرآن الكريم , الكتاب المقدَّس للمسلمين , المنزَّل من اللَّه تعالى على النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , عن طريق الملَك جبريل عليه السَّلام , لأنَّ فيه إشارة إلى هذا الموضوع . يقول اللّه تعالى : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ 47 } (51- الذّاريات 47) . ففي هذه الآية أعلنَ اللَّهُ تعالى أنَّه هو الذي بَنَى السَّماء , ثمَّ أضاف قائلاً : { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } . فهل جاءت هذه الجملةُ اعتباطًا ؟
مستحيل ! فكلُّ مَنْ يبحثُ في القرآن يعرف أنَّ كلَّ كلمة فيه لها معناها الدَّقيق , ولو أُبدِلَتْ بغيرها لَضاع المعنى الصَّحيح للآية . 
لعلَّ اللَّهَ إذًا أراد فعلاً الإِشارة إلى الحقيقة التي تَوصَّل إليها العلماء حديثًا , مِن أنَّ الكون يتَّسع ويتَّسع , دون توقُّف !

---------------------- 5

لماذا أقسم اللَّهُ تعالى بمواقع النُّجوم ؟


يقول علماءُ الفلك أنَّ كلَّ النُّجوم تجري في السَّماء دون توقُّف ! فهي تدور باستمرار حول مركز المجرَّة التي تنتمي إليها , وفي نفس الوقت تجري مع هذه المجرَّة , مبتعدة بذلك عن نجوم وكواكب المجرَّات الأخرى . ونظرًا إلى أنَّ المسافات بين الأرض التي نعيش فوقها والنُّجوم التي نراها في السَّماء تُقدَّر بآلاف السِّنين الضَّوئيَّة (أي ملايين المليارات من الكيلومترات) , فإنَّ الذي نراه نجمًا في السَّماء هو في الحقيقة ضوء ذلك النَّجم الذي بَدأ سفَرهُ إلينا من ذلك المكان منذ آلاف السِّنين ! 
نعم , فالنَّجم الذي يبعد عنَّا مثلاً ألف سنة ضوئيَّة , ونراه الآن في السَّماء , نحن نرى في الحقيقة ضوءَه الذي أرسلَه إلينا منذ ألف سنة من ذلك الموقع , فلم يصلْنا إلاَّ الآن فقط ! أمَّا النَّجم نفسُه , فقد انتقل منذ ذلك الزَّمن إلى موقع آخر , ثمَّ إلى مواقع أخرى , بسبب جريانه المستمِرّ !
وهنا , أجدُ من الضَّروري أن نقف وقفة أخرى مع القرآن الكريم , لأنَّ فيه إشارة إلى هذه الحقيقة ! يقول اللَّه تعالى : { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ 75 وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ 76 إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ 77 فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ 78 لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ 79 تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ 80 } (56- الواقعة 75-80) . 
فلو أقسَمَ اللَّهُ تعالى في الآية 75 بالنُّجوم , لَكان القسَمُ عاديًّا . لكنَّه أقسَمَ بِمَواقعها , رُبَّما لِيَلْفِتَ انتباهنا إلى أنَّ النُّجوم تجري في الفضاء , وأنَّ ما نراه في السَّماء نجمًا , هو في الحقيقة مَوْقعه .
وإذا كان هذا الاستنتاجُ صحيحًا , فإنَّ بقيَّة الآيات , التي أعلنتْ أنَّ القرآن الكريم تنزيلٌ من ربِّ العالَمين , لا بُدَّ أن تكون صحيحة أيضًا . هذا ما يقوله المنطق ! أم أنَّ لك رأيًا آخر ؟!

---------------------- 5

ولكن , كيف بدأ هذا الكون ؟


يقول علماءُ الفلك أنَّ الكون , بكلِّ ما فيه من نجوم وكواكب وغيرها , كان قبل حوالي 13 مليار سنة خليطًا من جُسَيْمات أوَّليَّة وإشعاعات , أي كان خليطًا من مادَّة وطاقة منضغطة في حَيِّز صغير . وكان هذا الخليط شديد الكثافة , وعالي الطَّاقة جدًّا , تزيد درجة حرارته على 100 مليار درجة ! 
ثمَّ انفجر هذا الخليط انفجارًا عظيمًا , يسمِّيه علماء الفلك Big Bang , وتفرَّقت أجزاءُه مبتعدة عن بعضها البعض . ثمَّ , وبعد ملايين السِّنين , تحوَّلت هذه الأجزاء إلى دخان .
وتُنسَب هذه النَّظريَّة إلى عالم الفيزياء النَّوويَّة , الأمريكي George Gamow , الذي نشرها سنة 1948 م , واعتمد في التَّدليل عليها على ظاهرة تباعد المجرَّات عن بعضها البعض , مِمَّا يُؤكِّد حدوث الانفجار . وقد شاهد علماء الفلك فعلاً سنة 1965 م صورة دخان , كأثَرٍ للانفجار العظيم , أتتْهُم من بُعْد أكثر من 10 مليار سنة ضوئيَّة (أي أنَّ هذه الصُّورة حدثتْ منذ أكثر من 10 مليار سنة) !
هكذا إذًا بدأ الكون : خليطٌ من مادَّة وطاقة انفجر انفجارًا عظيمًا , ثمَّ نشأ دخانٌ من هذا الانفجار , ثمَّ تكوَّنت النُّجومُ والكواكب والأقمار من هذا الدُّخان .
وهنا , اسمحي لي يا ابنتي الفاضلة أن أتوقَّف عند آيتين في القرآن الكريم , ربَّما فيهما إشارة إلى هذه الحقائق !
الآية الأولى ذكَرتْ أنَّ السَّماء , بما فيها من نجوم وأجرام أخرى , كانت دُخانًا قبل أن تُصبح على الصُّورة التي هي عليها اليوم ! يقول اللَّه تعالى متحدِّثًا عن ذاته العليَّة : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ 11 } (41- فصّلت 11) .
وقد سُئل الأستاذ الياباني Yoshide Kozai , وكان مديرًا لِمَرصد ميتاكا بطوكيو , عن كيفيَّة بداية هذا الكون , فقال : لقد أصبح اليومَ واضحًا أنَّ كلَّ هذا الكون نشأ من دخان . فقيل له : ولكنَّ بعض العلماء يستعملون كلمة ضباب . فأجاب بأنَّ هذه التّسمية لا تصحُّ , وأنَّ الوصفَ الأكثر دقَّة هو دخان , لأنَّ الضَّباب بارد بينما الدُّخان الكوني يُخفي حرارة عالية .
فإذا كان محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قد أتى بالقرآن من عنده , فكيف علم أنَّ السَّماء كانت دخانًا ؟!
الآية الثَّانية فيها إشارة إلى أنَّ السَّماوات والأرض نشَأتَا من مصدر واحد ! يقول اللَّه تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ 30 } (21- الأنبياء 30) . والرَّتقُ في اللُّغة : ضدّ الفَتْق . وبالتَّالي , فإنَّ هذه الآية تُشير إلى أنَّ السَّماوات والأرض كانتا مُلْتصقَتَين , ثمّ انفصلتَا بأمْر خالقهما . وقد أكَّد العلماء فعلاً أنَّ السَّماوات والأرض نشأتَا من خليط واحد .
وقد عُرضت هذه الآية على الأستاذ الأمريكي Alfred Kroner , أحد علَماء الجيولوجيا البارزين وأستاذ ورئيس سابق لقسم الجيولوجيا في جامعة ألمانيَّة , فقال : إنَّ رجلاً جاء منذ حوالي 1400 سنة , لا يعرف شيئًا عن الفيزياء النَّوويَّة , لا يستطيع في نظري أن يكتشف ولو بعقله ومنطقه فقط أنَّ السّماوات والأرض خُلِقتَا من مصدر واحد ‍‍.
ثمَّ عُرضت عليه آيات قرآنيّة أخرى عن تكوين الأرض , فقال : إنِّي مندهشٌ جدًّا لِوُجود هذه الحقائق العلميَّة في القرآن ! 

من أين جاءت المادَّة الأولى ؟ 
إذا كان كلُّ الكون انبثق عن خليط من جُسَيْمات أوَّليَّة وإشعاعات , فكيف جاء هذا الخليط الأوَّل ؟
جوابُ العلماء : لا أحد يدري !
جوابُ بعض النّاس من غير العلماء : جاء عن طريق الصُّدفة ! وطبعا هذه الإجابة لا يقبلُها العقلُ ولا المنطق .
لكنّ القرآن له جوابٌ واضح عن هذا السُّؤال . يقول اللَّه تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 40 } (16- النّحل 40) . ويقول تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ 73 } (6- الأنعام 73) . ويقول تعالى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ 81 إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 82 فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 83 } (36- يس 81-83) .
فالمادّة الأولى للكون , خلَقها اللَّهُ تعالى الذي يقول للشَّيء كُن فيكون . نعم , فالذي قَدَر على خَلْق هذا الكون بكلِّ ما فيه , له أيضًا القدرة على أن يخلق الشَّيءَ مِنْ لا شيء ! 
أليس هذا التَّفسير هو الأقرب للمنطق ؟!

---------------------- 5

ماذا لو سقطت السَّماء على الأرض ؟!


اطمئنِّي سيِّدتي ! فلن يحدث هذا الأمر طالَما لم تَحِنْ نهايةُ العالَم . إنَّ الذي خلَق هذا الكونَ سَنَّ فيه قوانينَ دقيقة , تكفي وحدها للتَّدليل على وجود هذا الخالق وعلى عظمته المطلقة ! 
من بين هذه القوانين : قانون الجاذبيَّة الذي اكتشفه وصاغَه عالِمُ الرِّياضيَّات والفيزياء الإنجليزي Isaac Newton . وقصّة هذا العالم مشهورة , وهي أنَّه كان يومًا مستلقيًا تحت شجرة تفّاح , فسقطت تفَّاحة على الأرض , فتساءل في نفسه : لماذا نزلت التُّفَّاحة إلى الأسفل ولم تصعد إلى فوق ؟ ثمَّ قام ببحوث واكتشف قانون الجاذبيَّة .
وقد استنتج الكثير من النَّاس من هذه القصَّة أنَّ الجاذبيَّة هي من خاصِّيَّات الأرض فقط . لكنَّ الحقيقة هي غير ذلك , فكلُّ الأجرام السَّماويَّة لها جاذبيَّة , وكلُّها تتجاذب فيما بينها , غير أنّ هذه الجاذبيّة تختلف قوَّتُها من جِرْم لآخر .
ولم يكن Newton لِيَستطيع أن يَصوغ قانون الجاذبيَّة بسهولة ودقَّة , لو اقتصر في حساباته على الأرض فقط . لذلك اعتمد في بحوثه على ما وصل إليه مَن سَبقه من علماء الفلك , مثل الألماني Johannes Kepler الذي صاغ القوانين التي تحكُم دوران الكواكب حول الشَّمس . وبذلك تَوَصَّل Newton إلى اكتشاف قانون الجاذبيّة الشّامل الذي نشره في كتابه Philosophiae Naturalis Principia Mathematica سنة 1687 م . 
وهنا لا بُدَّ من ملاحظة شيء هامّ : وهو أنَّ علماء الفلك قد اكتشفوا منذ بداية القرن السَّادس عشر أنَّ النُّجوم والكواكب في السَّماء , بالرَّغم من عددها الذي لا يُحصى , وبالرَّغم من المسافات الخياليَّة التي تفصل بينها , إلاَّ أنَّها في الأخير تخضع كلُّها لِقَوانين وسُنَن واحدة ! 
وهذا ما ساعدَهم في الوصول ببحوثهم إلى ما وصلوا إليه اليوم . وأصبح عالِمُ الفلك في عصرنا هذا يحسِبُ حركةَ الأجرام السَّماويَّة على الوَرق , بناءً على القوانين التي وقعَتْ صياغتها , ثمَّ يَطلُعُ علينا ليقول أنّه بعد ثلاثين سنة مثلاً , في يوم كذا , على السّاعة كذا , سيحدث كسوفٌ للشَّمس . وتَمُرُّ السِّنين , ويأتي اليوم الموعود , ويحدث الكسوف فعلاً ! فيكون ذلك دليلاً قاطعًا على صحَّة القوانين التي اعتمدها في حساباته .
وقد ذكَر الدّكتور أحمد زكي في كتابه القيّم : مع اللَّه في السَّماء , قصَّة طريفة في هذا المجال , مُلَخَّصها أنَّه سنة 1781 م , بينما الفلكي الإنجليزي William Herschel يَرصد جانبًا من السَّماء بمرصده , إذ به يكتشف كوكبًا جديدًا في المجموعة الشَّمسيَّة , فأسماه العلماء أورانس Uranus . وحسبُوا حركتَه ومدارَه معتمدين على قوانين الحركة والجاذبيَّة , ولكنَّهم حارُوا في أمرهم : إنَّ مَداره المرصود بالعين ليس كمداره المحسوب على الورق ! فأعادُوا حساباتهم بالاعتماد على قوَّة جاذبيَّة الشَّمس وقوَّة جاذبيَّة الكواكب الأخرى لهذا الكوكب الجديد . غير أنَّ المدار الواقعي والمدار المحسوب لم يتطابقَا . 
وهنا , بما أنَّ قوانينَهم صحيحة , افترض عالم الفلك الفرنسي Urbain Le Verrier أنَّه لا بُدَّ أن تكون هناك قوَّة جاذبيَّة أخرى آتية من كوكب آخر أَبْعد . إنَّ أحدًا لم يَرَ هذا الكوكب , ولكن كان لا بُدَّ من وجوده إذا ما صدق قانونُ الجاذبيَّة ! وما أسرع ما كشف عنه Le Verrier بالحساب سنة 1846 م . وكتب إلى العاملين بمرصد برلين يخبرهم بذلك . فوَجَّهوا مراصدهم إلى الموضع المحدَّد , ورأوا الكوكب الذي يبحثون عنه رأي العين , كشَف عنه عالم الفلك الألماني Johann Galle , وسمّوه نبتيون Neptune .
وبَقي اختلاف صغير في مدار أورانس , فافترض العلماء من جديد أنَّه لا بُدَّ أن يكون هناك كوكب آخر أبعد من نبتيون مختبئ في السَّماء ! وأطلقوا وراءه مراصدهم تبحث , وما كان أبعده , ومع هذا اكتَشفوه أخيرًا سنة 1930 م , اكتشفهُ عالم الفلك الأمريكي William Tombaugh , وأسموه بلوتو Pluton .

فهل تريدين سيِّدتي الفاضلة دليلاً أقوى من هذا على أنَّ هذا الكون , بالرَّغم من اتِّساعه الهائل , يَسير وفْق نظام واحد , سطَّره خالق واحد ؟! وهل بعد هذا مبرّرٌ للحديث عن الصُّدفة في خلق السَّماوات والأرض ؟!

---------------------- 5

لكنَّ الجاذبيَّة وحدها لا تكفي لتماسك الكون


نعم , فلو كان الكون قائمًا فقط على قانون الجاذبيَّة , لَكَانت الغَلَبةُ للأقوى , ولَجَذبت الشَّمسُ كلَّ الكواكب والأقمار التَّابعة لمجموعتها , فارتطمت بها واحترقت فيها !
لذلك , سَنَّ خالقُ هذا الكون قانونًا آخر , وهو قانون الحركة , لكي لا تصطدم الكواكبُ والنُّجوم ببعضها . ولكي تفهم هذا القانون , خُذْ سيّدي حبلاً قصيرًا , اربطْ في أحد طَرفَيْه حجرًا صغيرًا , وامسك الطَّرف الآخر بِيَدك . ارفعْ يدكَ إلى فوق , وابدأ في إدارة الحبل فوق رأسك شيئًا فشيئًا . عندما يكتسب الحجرُ سرعة معيَّنة , أوقِفْ يَدك عن الدَّوران , واترك الحجر يدور مع الحبل . ماذا تلاحظ ؟
ستلاحظ أنَّ الحبل يجذب على يدك , وكأنَّ الحجر يريد أن يهرب وينطلق بعيدًا عن الدَّائرة التي يدور فيها . لماذا ؟ 
لأنَّ الحجر لَمَّا أصبح يدور بسرعة معيَّنة , أكسبهُ هذا الدَّورانُ قوَّة دَفْع (أو طَرْد) , أخذت تحاول طَرْدَ الحجر بعيدًا عن مركز الدَّوران , أي بعيدًا عن يدك . غير أنَّ الحجر لا يستطيع الهروب , لأنَّ هناك قوَّة مضادَّة تمنعه من ذلك , وهي قوَّة الجذب التي تُحْدِثُها يدك .
مثال آخر : ربَّما دخلتَ في صغرك حديقة ألعاب , وجلستَ فوق حصان خشبي يدور حول مركز , ومشدود إلى هذا المركز بواسطة عصًا معدنيَّة غليظة . عندما بدأ الحصانُ في الدَّوران وازدادت السُّرعة , شعرتَ ولا شكَّ كأنَّ قوَّةً مَا تريد أن تَطْرُدك من مكانك وتقذف بك بعيدًا . ذلك أنَّ الدَّوران حول مركز يُحْدث قوَّة طَرْد , مضادَّة لقوَّة الجذب .
وهذا هو السِّرُّ الكبير في تماسك الكون . فنحن نعلم أنَّ الأرض تدُور حول الشَّمس بسرعة كبيرة جدًّا . وهذا الدَّورانُ يُكْسبها قوَّةَ طَرْد تحاول دَفْعَها خارج مدارها . غير أنَّ الشَّمس لها قوَّة جذب مُضادَّة ومُساوية لقوَّة الطَّرْد , تجذب الأرض إليها وتمنعها من الهروب .
فلَولا جاذبيّة الشّمس , لهربت الأرض وتاهت في السَّماء . ولولا دوران الأرض حول الشَّمس الذي يُكسبها قوَّة دَفْع مُضادَّة للجاذبيَّة , لَجَذَبت الشَّمسُ الأرضَ إليها فتحطَّمتْ فوقها !
وهذا هو الحال بالنِّسبة لكلِّ الأجرام السَّماويَّة , من كواكب ونجوم وأقمار وغيرها . كلٌّ منها يدور بسرعة هائلة في مدار خاصٍّ به , لا يمكن أن يحيد عنه أبدًا , لأنَّه خاضع لجاذبيَّة نجم أو كوكب آخر تمنعه من الهروب .
وهذا هو الحال أيضًا بالنِّسبة لِمَجموعتنا الشَّمسيَّة التي نعرفها أكثر . فهل سمعتَ يومًا أنَّ الأرض اصطدمت عبر تاريخ البشريَّة بكوكب عطارد مثلاً أو الزّهرة , أو أنَّ القمر سقط على الأرض ؟! 
لا , فالكلُّ يسير وفق نظام دقيق .
وهنا , لا أستطيع أن أتابع قبل أن أذكر لك آيتين في القرآن الكريم , أشارتا بوضوح إلى هذه الحقائق !
يقول اللّه تعالى في الآية الأولى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ 33 } (21- الأنبياء 33) . واللَّيلُ والنَّهار هنا يشيران إلى الأرض , لأنَّه لو كان المقصود بالسِّباحة الشَّمس والقمر فقط , لقال تعالى : يَسْبَحان . ولكنَّه قال : يسبحُون , أي الأرضُ والشّمسُ والقمر . ولَفْظ السّباحة يعني الانتقال من مكان لآخر . وقد ذكرْنا فعلاً أنّ كلّ الأجرام السّماويّة تجري .
ويقول تعالى في الآية الثّانية : { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ 40 } (36- يس 40) . وفي هذا إشارةٌ إلى أنّ الشّمس والقمر والأرض لا يمكنُ أن يصطدم أحدُها بالآخر , لأنّ كلّ واحد منها يجري في مَداره الخاصّ به , لا يمكن أن يحيد عنه . 
فكيف جاء محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بهذه المعلومات الدّقيقة , إن لم يكن خالقُ الأرض والسّماء هو الذي أخبره بذلك ؟!

---------------------- 5

نظام واحد يدلُّ على خالق واحد


إنَّ الذي سَنَّ قانُونَي الجاذبيَّة والحركة في السَّماء , حَسَبَ كلَّ شيء حسابًا دقيقًا يعجزُ عن تصوُّره العقل , فجعل قُوَى الجاذبيَّة تتوازن مع قُوَى الطَّرْد ليتماسك الكون ! بل , ووضع كلَّ شيء في المكان الذي يجب أن يكون فيه بالضَّبط ! فلو أنَّ الأرض مثلاً كانت أقرب إلى الشَّمس مِمَّا هي عليه الآن , لاحترقَتْ بِمَن عليها ! ولو أنّها كانت أبْعَد منها ممَّا هي عليه الآن , لَتَجمَّد كلُّ شيء فوقها !
والذي سَنَّ هذين القانونَين عَلِم أنَّ الأرض ستمارسُ جاذبيَّتها على كُلِّ مَن فَوقها من أحياء وجماد , فيَلتصقُوا بها , لا يستطيعون حراكًا . لذلك , جعلها تدور حول نفسها لِتَكْتسب قوَّة طَرْد مضادَّة لجاذبيَّتها , فيحصلُ التَّوازن , ويستطيع الأحياءُ المشيَ والحركة !
وهذا الدَّورانُ محسوب أيضا بدقّة , بحيث لو كان أسرع مِمَّا هو عليه الآن , لَتَناثر كلُّ مَن على الأرض مِن بَشَر ودوابّ وغير ذلك , ولو كان أقلَّ مِمَّا هو عليه الآن , لَوَجد النَّاسُ صعوبة كبيرة في الحركة !
ولأنَّ الكونَ يسيرُ وفْقَ نظام واحد , فقد سَنَّ خالقُه سُنَّةَ الدَّوران أيضًا على كلِّ الكواكب والنُّجوم والأقمار الأخرى , فجعلها كلُّها تدور حول نفسها ! 
والأعجب من هذا أنَّها كلُّها تدور من الغرب إلى الشَّرق , على عكس دَوران عقارب السَّاعة إذا نظرنا إليها من فوق , سواء عندما تدور حول نفسها , أو عندما تجري في مدارها حول النَّجم أو المركز الذي تدور حولَه !
فالأرض تدور حول نفسها من الغرب إلى الشَّرق , وتدور في مدارها حول الشَّمس , أيضًا من الغرب إلى الشَّرق ! والقمر يدور حول نفسه من الغرب إلى الشَّرق , ويدور مع الأرض حول الشَّمس , أيضًا من الغرب إلى الشَّرق ! وكلُّ كواكب المجموعة الشَّمسيَّة تدور حول نفسها من الغرب إلى الشَّرق , ويدور كلٌّ منها في مداره حول الشَّمس , أيضًا من الغرب إلى الشَّرق ! والشَّمس تدور حول نفسها من الغرب إلى الشَّرق , وتدور في مدارها حول مركز مجرَّة درب التّبَّانة , أيضًا من الغرب إلى الشَّرق !
والأعجب من العجب أنَّنا إذا انتقلنا من المجرَّة , التي هي أكبر شيء في هذا الكون , ونظرنا في أصغر شيء فيه , وهو الذَّرَّة التي هي أَصْل كلِّ مادَّة , لَوَجدناها تتكوَّن من نَواةٍ في الوَسط , تدور حولها إلكترونات , أيضًا من الغرب إلى الشَّرق , في مداراتٍ كما تدور الكواكب حول الشَّمس ! فالنَّواة هي شمس هذه الإلكترونات , و "من الغرب إلى الشَّرق" هي قاعدة ثابتة في هذا الكون !
ومن اللاّفت للانتباه حقًّا أنَّ المسلمين عندما يؤدُّون فريضة الحجّ , يقومون بالطَّواف بالكعبة , فيدُورون حولها من الغرب إلى الشَّرق ! نعم , مثل الكواكب والنُّجوم والإلكترونات !
أفلا يدعو هذا الأمر إلى التَّساؤل : أيكونُ المسلم هو الإنسان الوحيد الذي ينسجم مع هذه القاعدة الكونيَّة , فيدور مع كلِّ شيء في هذا الكون , من الغرب إلى الشَّرق ؟!
أيكون الإسلام هو الدِّينُ الحقُّ الذي اختاره خالقُ هذا الكون لعباده , فبعثَ به كلَّ أنبيائه , وسنَّ لكلِّ نبيٍّ تشريعات تُناسب عصره , حتَّى اكتمل الإسلامُ ببعثة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , آخر الأنبياء والمرسلين ؟!
حقًّا إنّه أمرٌ مهمٌّ , لا بُدَّ من الوقوف عنده !

---------------------- 5

ماذا لو كانت مكَّة هي مركز الأرض ؟!


في شهر يناير 1977 م , نَشر الدُّكتور المصري حسين كمال الدِّين , دكتور في المساحة التَّصويريَّة (أو الطُّوبوغرافيا) , نتيجة أبحاث قام بها في السّعوديَّة .
يقول الدُّكتور أنَّه كان يبحث عن اكتشاف وسيلة تُساعد المسلمَ في أيِّ مكان من العالم على تحديد اتِّجاه مكَّة , حيث توجد الكعبة , قِبْلة المسلمين في الصَّلاة . فبدأ بحثَه برَسْم خريطة تَشملُ المسافات التي تفصلُ كلَّ مدينة على وجه الأرض , عن مدينة مكَّة . واستعان في بحثه هذا بالكمبيوتر , لِرَسم خطوط الطُّول والعرض للكرة الأرضيَّة , ولحساب المسافات والانحرافات . فكانت دهشتُه عظيمة عندما اكتشف أنَّه يستطيع أن يرسم دائرة , مركزُها مدينة مكَّة , ومحيطُها يدور مع حدود (أو أطراف) جميع القارَّات . وتأكَّد بذلك أنَّ مكَّة المكرَّمة هي مركز الأرض اليابسة , وأنَّ كلَّ مُدُن العالَم مُوَزَّعة حولها توزيعًا منتظمًا !
يقول الدُّكتور حسين : حينئذ استطعتُ أن أفهم بعض آيات القرآن فهمًا جديدًا , مثل قوله تعالى : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } (6- الأنعام 92) . والمقصود هنا بأُمّ القرى : مكَّة . أي لتُنذِر مكّة ومَن حولها , وكأنّ في هذا إشارة إلى أنّ مكّة في الوسط , وكلّ مدن العالَم محيطة بها .
فهل يكون موقعُ مكَّة المركزي هو السَّبب في اختيار خالق هذا الكون لها لِتُبنى فيها الكعبةُ المشرَّفة , بيته الحرام , ولتنطلقَ منها دعْوةُ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , خاتم الأنبياء والمرسلين والمبعوث إلى النَّاس كافَّة , ولتكون مَقْصد كلِّ المسلمين يأتون إليها من كلِّ بقاع العالم للحجِّ والعمرة ؟! وهل أراد خالقُ الكون بِجَعْل مكَّة مركز الأرض , أن تكون فعلاً قلْبَ العالَم النّابض , تهفو إليها قلوبُ المسلمين في جميع أنحاء الأرض إلى يوم القيامة ؟!
وماذا لو كانت الكعبة المشرَّفة , التي توجد وَسَط مكَّة , هي بالتَّحديد مركز الأرض ؟! يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ 96 فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ 97 } (3- آل عمران 96-97) . والمقصود هنا ببَكَّة : مكَّة . 
يقول العالم الثِّقَة إسماعيل ابن كثير , صاحب التّفسير المشهور للقرآن الكريم , تعليقًا على هاتين الآيتين , ما مُلَخَّصُه أنَّ في السَّماء السَّابعة بيتًا يُسمَّى البيت المعمور , يُعتَبر بالنِّسبة لأهل تلك السَّماء بمثابة الكعبة الشَّريفة لأهل الأرض . وموقعُه في السَّماء السَّابعة هو قُبالة كعبة الأرض من فوق , بحيثُ لو سقط لسقط عليها ! وكذلك الحال بالنِّسبة لِبَقيَّة السَّماوات !
فإذا كانت الكعبة الشَّريفة هي أوَّل بيت بُنِيَ للنَّاس , واختارها اللَّهُ تعالى لتكون بيتَه الحرام فوق الأرض , فليس غريبًا أن يكون اختارها أيضًا لتكون مركز الأرض اليابسة .
أفلا يدعو هذا الأمر أيضًا إلى الوقوف عنده مليًّا ؟!

---------------------- 5

وماذا لو كان الأذان يدور حول الأرض ؟!


يُعْتَبر الأذانُ بالنّسبة للمسلمين إعلامًا بدُخُول وقت واحدةٍ من الصَّلوات الخمس المفروضة عليهم في اليوم واللَّيلة . ودخولُ الوقت هذا مُرتبطٌ بحركة الشَّمس الظَّاهرة حول الأرض .
فوَقْتُ صلاة الفجر يبدأ عند طلوع الفجر الصَّادق , وهو الضَّوء الأبيض الذي يُعْلِن انتهاءَ اللّيل وبداية النَّهار ويسبق شروق الشَّمس .
ويبدأ وقتُ صلاة الظُّهر مباشرة بعد زوال الشَّمس , أي حالَمَا تنحرف الشَّمس عن وَسط السَّماء .
ويبدأ وقتُ صلاة العصر عندما يَصلُ ظِلُّ كلّ شيء مثلَه ويبدأ في الزِّيادة .
ويبدأ وقتُ صلاة المغرب عندما يغيب قُرْصُ الشَّمس كاملاً .
ويبدأ وقتُ صلاة العشاء عند مغيب الشَّفق الأحمر .
وبما أنَّ الأرض تدور حول نفسها , فإنَّ ضوء الشَّمس يَبقى ينتقل من خطِّ طولٍ على الكرة الأرضيَّة لِخَطِّ طول آخر . ونتيجةً لذلك , فإنَّ غروب الشَّمس مثلاً لا يتمُّ على كامل الأرض في نفس اللَّحظة , وإنَّما تغربُ الشَّمس على بعض المناطق على خطِّ طولٍ مُعيَّن , ثمَّ تغرب بعد بضع دقائق على مناطقَ مجاورة على نفس خطِّ الطُّول , ثمَّ على مناطق أخرى على خطِّ الطُّول الموالي , ثمَّ الذي يليه , وهكذا . وكلُّنا يعرف أنَّ هناك فارقًا في التَّوقيت من بلد لآخر , وأنَّ النَّهار يطلعُ في بلد ليبدأ اللَّيلُ في نفس الوقت في بلد آخر . 
نعودُ إلى قضيَّة الأذان , ونأخذُ مثلاً صلاة المغرب التي يبدأ وقتها بغروب الشَّمس . فبِناءً على ما فَصَّلْنا سابقًا , فإنَّ وقت صلاة المغرب لا يحين في نفس اللَّحظة في كلِّ بلدان العالم , وإنَّما يحين في بعض المدن على نفس خطِّ الطُّول , ثمَّ يحين في المدن المجاورة على خطِّ الطُّول المجاور , ثمَّ الذي يليه , وهكذا . وهذا ينطبق أيضًا على صلوات : العشاء والفجر والظُّهر والعصر .
وبما أنَّ دخولَ الوقت يتمُّ الإعلان عنه بالأذان , والذي يستغرق بضع دقائق , فإنَّه ما أن ينتهي المؤذِّن من الأذان لصلاةٍ مَا في بلدٍ مَا , حتَّى يرتفع صوت مؤذِّن آخر في بلد مُجاور ليؤذِّن لنفس الصَّلاة ! ويبقى الأذان يدور هكذا حول الأرض التي مركزها الكعبة , مِن خطِّ طولٍ لِخَطِّ طولٍ آخر , دون توقُّف إلى قيام السَّاعة !
وبِما أنَّ الصَّلوات الخمس المفروضة مُوَزَّعة على ساعات اللَّيل والنَّهار , فيمكن الجزم بأنَّه في كلِّ لحظةٍ من ليلٍ أو نهار , يرتفع صوت مؤذِّنٍ في بقعة من بقاع العالم , لينادي للصَّلاة !
هل تدري يا ابني الكريم ماذا يقول المؤذِّن ؟
إنَّه يقول : اللَّه أكبر , اللَّه أكبر .
أشهد أن لا إله إلاَّ اللَّه , أشهد أن لا إله إلاَّ اللَّه .
أشهد أنَّ محمَّدًا رسول اللَّه , أشهد أنَّ محمَّدًا رسول اللَّه .
حيّ على الصَّلاة , حيّ على الصَّلاة . 
حيّ على الفلاح , حيّ على الفلاح .
اللَّه أكبر , اللَّه أكبر .
لا إله إلاَّ اللَّه .
إنَّه توحيدٌ مُطلَقٌ للَّه , وشهادةٌ بأنَّ محمَّدًا رسول اللَّه , ودعوةٌ إلى إقام الصَّلاة في وقتها . هذه الصَّلاة التي هي موعدٌ يومي مع خالق هذا الكون , لِطَلب العون والهداية والتَّوفيق منه , والاستغفار والتَّوبة من الذُّنوب والخَطايا .

أفلا تجد يا بُنَيَّ بعد كلِّ هذا رغبةً مُلِحَّة في التَّعرُّف على الإسلام , بعيدًا عن التَّشويهات والأكاذيب ؟‍
واللَّهِ الذي لا إله غيره , لو تابعتَ قراءة بقيَّة الأجزاء بنِيَّة البحث عن الحقيقة , لَأَخذَ اللَّهُ بِيَدك , بفضله ورحمته , ولَهَداكَ إلى ما تبحثُ عنه .

---------------------- 5

وماذا لو كان الإسلام دين كلّ الأنبياء ؟!


لو قرأتِ سيِّدتي الكريمة القرآنَ من أوَّله لآخره , لَوجدتِ فيه ذكْرًا للعديد من الأنبياء والرُّسُل , مثل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وسليمان وموسى وعيسى ومحمَّد , عليهم الصَّلاة والسَّلام , غير أنَّكِ لن تجدي آيةً واحدة تذكُر أنَّ موسى عليه السَّلام دعا بني إسرائيل إلى الدِّين اليهودي , أو أنَّ عيسى عليه السَّلام دعا قومه إلى الدِّين المسيحي ! هل تعرفين لماذا ؟
لأنَّ الدِّين عند اللَّه , منذ خلَقَ البشريَّة , هو دينٌ واحدٌ , وهو الإسلام ! وكلُّ الأنبياء والرُّسُل كانوا مسلمين , ودعَوْا أقوامهم إلى الإسلام ! إنَّما فقط اختلفت التَّشريعاتُ من نبيّ لآخر , حتَّى اكتملت بشريعة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , خاتم الأنبياء والمرسلين . 
لِنستمعْ لما يقول القرآن في هذا الموضوع : يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ 19 فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ 20 } (3- آل عمران 19-20) . وهذا إعلانٌ صريحٌ بأنَّ الدِّين عند اللَّه هو الإسلام .
ويقول تعالى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 130 إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ 131 وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 132 أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 133 تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ 134 وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 135 قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 136 } (2- البقرة 130-136) . وهذا إعلانٌ آخر , واضحٌ وجليٌّ , بأنَّ إبراهيم عليه السَّلام (أبو الأنبياء) , ويعقوب (وهو إسرائيل , وإليه ينتسبُ اليهودُ فيُقال لهم بَنُو إسرائيل) , هذان النَّبيَّان كانَا مُسلِمَيْن , وأَوْصَيَا أبناءهما أن يموتُوا على الإسلام ! 
ويقول تعالى : { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 140 } (2- البقرة 140) . وهذا إعلانٌ ثالثٌ , لا لُبْس فيه , بأنَّ إبراهيم وإسماعيل والأسباط عليهم السَّلام لم يكونوا يهودًا ولا نصارى ! بل حتَّى إسحاق ويعقوب عليهما السَّلام , وهما أوَّل أنبياء بني إسرائيل , نَفَى اللَّهُ تعالى عنهما أنَّهما كانا يهوديَّيْن ! لقد كانوا كلُّهم مسلمين كما ذكَرْنا ! 
ويقول تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 67 } (3- آل عمران 67) .
ويخبرنا تعالى عن النَّبيِّ يوسف عليه السَّلام أنَّه قال : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ 101 } (12- يوسف 101) .
ويقول تعالى عن النَّبيِّ نوح عليه السَّلام : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ 71 فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ 72 } (10- يونس 71-72) . كلُّ هذه الآيات تُعلنُ إذًا بوضوح أنَّ كلَّ الأنبياء كانُوا مسلمين .
فلَمَّا بعثَ اللَّهُ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , جعله خاتم الأنبياء والمرسلين , فلا نَبيَّ بعده إلى يوم القيامة . يقول اللَّه تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا 40 } (33- الأحزاب 40) . 
وأرسلَه إلى كلِّ النَّاس , في حين أنَّ الأنبياء قبلَه كانُوا يُبعثون إلى أقوامهم فقط . فهو نبيُّ البشريَّة جمعاء إلى يوم القيامة . يقول تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 28 } (34- سبأ 28) . 
وأكملَ له الدِّين , فأصبح الإسلامُ ببعثته أكمل الشَّرائع السَّماويَّة . يقول تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا } (5- المائدة 3) . وقد نزلتْ هذه الآية , والنَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم فوق جبل عرفات بمكَّة , في حجَّة الوداع . فلم يلبث بعد ذلك إلاَّ ثلاثة أشهر ثمّ تُوُفِّي .

ربَّما يكون تعليقكِ سيِّدتي على ما ذكرتُه لكِ , أنَّني اعتمدتُ فقط على آيات قرآنيَّة , والقرآنُ لا يُعتَبَرُ مرجعًا موثوقًا منه بالنِّسبة لك . 
كلامكِ مقبول ! لهذا سأحاول في الصَّفحات القادمة أن أبيِّن لكِ علميًّا أنَّ هذا القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة إلى قيام السَّاعة , وأنَّه وحيٌ من خالق هذا الكون , وبالتَّالي فإنَّ كلَّ ما جاء فيه حقٌّ لا ريب في ذلك . 
تابعي القراءة , وستفهمين كلَّ شيء !

---------------------- 5

فكسَونا العظام لحمًا !


تحدَّثنا سيِّدي الكريم عن كيفيَّة خلق هذا الكون , وسنتحدَّث الآن عن خَلْقِنَا نحن , وكيف جئنا لهذا الوجود .
نقطةُ البدء هي طبعًا جماعٌ بين الرَّجل وزوجته , فيقذفُ ماءَه في عنق رَحِمِها . فهل تعلم سيِّدي كم يحتوي هذا الماء من حيوان منوي ؟ 
مائة ؟ ألف ؟ مليون ؟
إنَّه يحتوي على حوالي أربعمائة مليون حيوان منوي , كلُّها تمضي في سباقٍ نحو بُوَيْضة المرأة لِتَلْقيحها , فلا يصلُ في الأخير إلاَّ حيوانٌ منوي واحد فقط , الأقوى والأفضل , ويموتُ كلُّ الباقين !
ويتمُّ التَّلاقح , ويبدأ الجنين رحلَته في التَّخلُّق . فيكون في البداية عَلَقة , قيل لأنَّه يتعلَّق ويلتصق بجدار الرَّحِم , وقيل لأنَّه على شكل العَلَقة , وهي دودة صغيرة تعيش في بركة الماء وتمتصُّ دماء كائنات أخرى . وفي هذه المرحلة تتكوَّن المشيمة , ويتكوَّن معها معلاق يتعلَّق فيه الجنين . هذا المعلاق يتحوَّل فيما بعد إلى حَبْل سُرِّي , يستمدُّ الجنينُ عَبْرَه الغذاءَ والأكسيجين وموادّ المناعة ضدَّ الأمراض , ويَطرد المخلَّفات الضَّارَّة . 
ثمَّ يتحوَّل الجنين إلى مرحلة المضغة , فَيبدو فعلاً وكأنَّه مُضغة مَضَغها إنسانٌ وقَذفها , فبدَتْ فيها أسنانُه . وتبدأ عمليَّة التَّخلُّق في الطَّبقة الباطنيَّة للمضغة , بينما تبقى الطَّبقة السَّطحيَّة غير مخلَّقة بعد .
وهنا , لنا وقفةٌ مع القرآن الكريم . يقول اللَّه تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ 5 ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 6 وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ 7 } (22- الحجّ 5-7) . 
انتبه سيِّدي الكريم ! إنَّ هذه الآيات نزلَتْ منذ حوالي أربعة عشر قرنًا , وتتحدَّث عن معلومات دقيقة عن مراحل تطوُّر الجنين , لم يتمَّ اكتشافها إلاَّ خلال القرن العشرين بواسطة آلات غاية في الدِّقَّة !
بل إنَّها ذكَرتْ أيضًا أنَّ الإنسان مخلوق من تراب ! وقد أثبت العلم الحديثُ فعلاً أنَّ جسم الإنسان يتركَّب من عدَّة عناصر موجودة في التُّراب , مثل : الحديد والكالسيوم والماغنسيوم , وغيرها .
أليس في هذا إذًا دليلٌ علمي قويّ على أنَّ هذه الآيات ليست من صُنع بَشر , وإنَّما هي كلامُ اللَّه الذي خَلَقني وخلَقك ؟
وإذا كان الأمر كذلك , أليس من المنطق أن نُصدّق كلَّ ما جاء فيها , أي أنَّ اللَّه قادرٌ على كلِّ شيء , وأنَّه سوف يُحيينا بعد موتنا لِيُحاسبنا على أفعالنا ؟

نعود إلى مراحل تطوُّر الجنين : 
فبَعْد المضغة , ينتقل الجنين إلى مرحلة العظام , ليأخذ شكل الهيكل العظمي . ثمَّ تبدأ العضلات بالظُّهور , ويبدأ اللَّحم يُحيط بالعظام ويكْسُوها كما يكسو الثَّوبُ البَدَن . وهنا لا بُدَّ من ملاحظة أنَّ علماء الأجنَّة كانُوا إلى وقت قريب مُجْمِعين على أنَّ المضغة تتحوَّل إلى لحم , ثمَّ تبدأ العظامُ بالظُّهور . لكنَّهم , وبعد دراسات مخبريَّة طويلة ودقيقة جدًّا , اكتشفُوا أنَّ العكس هو الصَّحيح , أي أنَّ العظام تتكوَّن قبل اللَّحم ! 
فهل تعلم سيِّدي أنَّ القرآن سَبَقهم إلى الإعلان عن هذه الحقيقة منذ حوالي أربعة عشر قرنا ؟!
استمع معي : يقول اللَّه تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ 12 ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ 13 ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ 14 ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ 15 ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ 16 } (23- المؤمنون 12-16) . 
لقد سمع أحد علماء الأجنَّة الغربيّين هذه الآيات , فبُهتَ ثمَّ قال : لو كان هذا القرآن عندنا , نحن النَّصارى , لأقَمْنا الدُّنيا ولم نُقعدها ! 
حتَّى العبارات التي تَفرَّد بها القرآنُ لِتَسميَة الجنين في كلِّ مرحلة (علقة , مضغة , فكسونا العظام لحمًا , ثمَّ أنشأناه خلقًا آخر) هي من الدِّقَّة العلميَّة بحيث أدهشَتْ عُلماء هذا العصر !
وقد عُرضتْ هذه الآياتُ القرآنيَّة وغيرها على Keith Moore , أستاذ في الجراحة وعلْم الأجنَّة في جامعة تورنتو بكندا , وصاحب كتاب The Developing Human الذي يُعتبر من أفضل المراجع العلميَّة في هذا الميدان , فكانت دهشة الأستاذ كبيرة , عبَّر عنها قائلاً في المؤتمر الطِّبِّي السَّابع بالدَّمَّام بالسّعوديَّة سنة 1981 م : كيف أمكن لمحمَّد أن يصف منذ حوالي 1400 سنة تطوُّر الجنين بدقَّة تامَّة , بينما لم يتوصَّل العلماء إلى اكتشافه إلاَّ منذ 30 سنة فقط ؟!
ثمَّ إنَّه أخذ صورةً لِجَنين في مرحلة العلَقة ووضعها بجانب صورة علَقة , وهي الدُّودة التي تعيش في الماء , فوَجَد بينهما تشابُهًا تامًّا في الشَّكْل ! وأخذ صورة ثانية لِجَنين في مرحلة المضغة ووضعها بجانب قطعة عجين مَضغها في فَمه حتَّى بدتْ فيها أسنانُه , فوَجَد أيضًا بينهما تشابُهًا كبيرًا في الشَّكْل !
وقد نشرت بعضُ الجرائد الكنديّة مقالات لـ Keith Moore عن توافق الآيات القرآنيَّة مع آخر الاكتشافات العلميَّة , وخصَّصت له التَّلفزة عدَّة حصص من برامجها للحديث عن هذا الأمر . ولَمَّا سُئِل : هل تعتقد أنّ القرآن كلام اللّه ؟ أجاب : لم أجدْ أيّة صعوبة في الإقرار بذلك .
فقيلَ له : كيف , وأنت تؤمن بالمسيح ؟!
فقال : أعتقد أنَّهما ينحدران من مدرسة واحدة .
ثمَّ إنَّه سَمحَ لِلَجنة من العلماء المسلمين أن يُضيفوا الآيات القرآنيَّة وأحاديث النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم الخاصَّة بتطوُّر الجنين , إلى الأماكن المناسِبَة في كتابه عن تطوُّر الإنسان , وطُبع الكتابُ في إصدار جديد مشتملاً على هذه الإضافات . (ويمكن الرُّجوع في هذا الموضوع إلى شريط فيديو This is the Truth وكتاب Editions IQRA – Ceci est la Vérité) .
نعم , أنَّى لِمُحمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أن يأتي بهذه المعلومات , إن لم يكن اللَّهُ تعالى هو الذي أوحى له بذلك ؟!

ولم ينسَ القرآنُ ذكْر مرحلتين أساسيَّتين بعد الولادة , وهما :
- الموت , وهي الحقيقة التي لا يستطيع أحدٌ إنكارها . 
- والبعث يوم القيامة , الذي ينقسم فيه النَّاس إلى مؤمن , وشاكّ , ومُنكِر .
فهل يقبلُ العقلُ أن نُقرَّ بإعجاز الآيات التي تحدَّثتْ عن مراحل تطوُّر الجنين , ثمَّ نُنكر الآيات التي ذكرتْ أنَّ بعد الموت بعثًا ونشورًا ؟!

---------------------- 5

الرَّحم , قرار مكين !


ذكَرْنا أنَّ الجنين يبدأ نُطفة , ثمَّ يَمرُّ بمراحل عديدة في التَّخلُّق إلى أن يُصبح كامل الخِلْقة قبل الولادة . وهذا التَّخلُّق لا يمكن أن يتمَّ بسلام إلاَّ إذا تَوَفَّر لهذا المخلوق الضَّعيف مكانٌ أمين , معزول عن كلِّ المخاطر . هذا المكان تكفَّل الخالقُ بتوفيره , فكان فِعْلاً قرارًا مكينًا !
يقول تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ 12 ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ 13 } (23- المؤمنون 12-13) . هذا القرار هو طبعًا رَحِمُ المرأة . وقد جعله الخالقُ في تجويف الحَوْض , محاطًا بالعظام من كلِّ جانب , حتَّى لا يكون مُعرَّضًا مباشرة للصَّدمات .
والأعجب من هذا أنَّ علماء الأجنَّة اكتشفوا مؤخَّرا أنَّ الجنين داخل الرَّحم يكون محاطًا بثلاثة أغشية تجعله في معزل تامٍّ عن العالَم الخارجي , هي :
- الغشاء الذي يُحيط بسائل الأمْنِيُوم (liquide amniotique) الذي يسبح فيه الجنين . وهذا السَّائل , كما هو معلوم , يَقِي الجنينَ من الصَّدمات المباشرة التي يمكن أن يتلقَّاها الرَّحم , ويسمح له بالحركة , ويُسهِّل خروجه عند الولادة .
- يَلِيه جدارُ الرَّحم . 
- يَلِيه جدارُ البطن . 
وبهذا يكونُ الجنين في ظُلُمات ثلاث , خالية من الضَّوء , وفي قرار مكين , بعيداً عن الصَّدمات .
وإذا كانت الآية السَّابقة قد تعرَّضت للقرار المكين , فإنَّ هناك آية أخرى أشارت إلى الظُّلُمات الثَّلاث . يقول اللَّه تعالى متحدِّثًا عن ذاته العليَّة : { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ 6 } (39-الزّمر 6) . 
وقد عُرضت هذه الآية أيضًا على الأستاذ Keith Moore , فأثبتَ توافُقها مع آخر الاكتشافات العلميَّة . وهذا يدعُونا إلى الجزم بأنَّ كلَّ ما جاء فيها حقٌّ , أي أنَّ اللَّه هو ربُّنا , وأنَّ له مُلْك كلّ شيء , وأنَّه إله واحد لا شريك له . أم أنَّ لك رأيًا آخر ؟!
بقيتْ ملاحظة هامَّة : لم ينسَ الخالق سبحانه أنَّ الجنين ينمو داخل الرَّحم , وأنَّ طولَه سوف ينتقلُ من أقلّ من ملِّيمتر إلى عشرات السّنتيمترات , وأنَّ وزنه أيضًا سوف ينتقلُ من أقلّ من ملِّيغرام إلى بضع كيلوغرامات , فخَلَق للمرأة رَحِمًا مَرنة , تتمدَّد وتتَّسع بحسب متطلَّبات الجنين , حتَّى تصل إلى حوالي ثلاثة آلاف ضِعْف حَجْمها العادي , وجعَلَها مَتِينة بحيث تستطيع تحمُّل وزن الجنين والمشيمة الذي يصل إلى بضع كيلوغرامات ! والأعجب من هذا أنَّ الرَّحم تعود لحجمها الطَّبيعي مباشرة بعد الولادة ! فماذا لو نَسي الخالقُ هذه الجزئيَّة , وبقيت المرأة بعد الوضع منتفخة البطن بقيَّة حياتها ؟!
أخيرًا , يقول الأطبَّاء أنَّ للرَّحم تقلُّصات قويَّة من حين لآخر قبل الحمل , ولو تمادت هذه التَّقلُّصات في فترة الحمل أيضًا لأدَّتْ إلى قتل الجنين أو دفعه خارجًا ‍! لكنَّ الخالق العليم أَمَر أن ترتفع نسبة هرمون البروجسترون Progestérone في بَدن المرأة مباشرةً بعد تلقيح بُوَيْضتها , فلا يتقلَّص الرَّحم بعد ذلك إلاّ بما يُريح الجنيَن ويعدّلُ وَضعه !

أفلا يدعو كلُّ هذا إلى الاعتقاد يقينًا بأنَّنا لم نأت إلى هذه الدُّنيا عن طريق الصُّدفة , وإنَّما خلقَنا اللَّهُ تعالى , القادر على كلِّ شيء , والذي يعلم بالتَّدقيق ما ينفعُنا وما يضرُّنا ؟!

---------------------- 5

نطفة الرَّجل هي التي تحدِّد جنس المولود !


ذكَرْنا أنَّ الرَّجلَ عندما يُجامع زوجته ويقذف ماءه في عنق رحمها , تنطلق الحيواناتُ المنويَّة في سباقٍ نَحْوَ البُوَيضة , ولا يصل في الأخير إلاَّ حيوان منوي واحد فقط , ويموت كلُّ الباقين . ويتمُّ التَّلاقح بأن يُدْخِل الحيوانُ المنوي رأسَه في جدار البُوَيْضة , فتتَّحدُ كْرُوموزومات Chromosomes الحيوان المنوي , وعددها 23 , بِكْرُوموزومات البُوَيْضة , وعددها 23 أيضًا , لِتَتكوَّنَ الخليَّةُ الأولى للجنين , وتسمَّى الزِّيجوت Zygote , وعدد كْرُوموزوماتها 46 . هذه الكْرُوموزومات هي التي تحمل البرنامج الوراثي , وهي بالتَّالي المسؤولة عن نقْل الصِّفات الوراثيَّة للجنين , مثل لون الشَّعر والجلد . 
وقد كانت دهشةُ علماء الأجنَّة كبيرة عندما اكتشفوا , فقط خلال القرن العشرين , أنَّ نطفة الرَّجل هي وحدها التي تُحَدِّد جنْسَ المولود , ذكرًا أم أنثى , وليس لِبُوَيْضة المرأة أيّ دَخْل في هذا الأمر !
ذلك أنَّ نطفة الرَّجل تحتوي على نَوعين من الحيوانات المنويَّة :
- النَّوع الأوَّل يحتوي على 22 كْرُوموزوم جسمي + 1 كْرُوموزوم جنسي يُشار إليه بحرف x .
- والنّوع الثّاني يحتوي على 22 كْرُوموزوم جسمي + 1 كْرُوموزوم جنسي يُشار إليه بحرف y . 
أمّا بُوَيْضة المرأة فهي من نوع واحد , وتحتوي على 22 كْرُوموزوم جسمي + 1 كْرُوموزوم جنسي يُشار إليه بحرف x . 
فإذا التقَى حيوان منوي من النَّوع الأوَّل ببُوَيْضة المرأة , تكُون الصِّبغة الجنسيَّة للزِّيجوت xx , فيأتي المولود أنثى . وإذا التقَى حيوان منوي من النَّوع الثَّاني ببُوَيْضة المرأة , تكُون الصِّبغة الجنسيَّة للزِّيجوت xy , فيأتي المولود ذكرًا . فنَوعُ الحيوان المنوي للرَّجل هو الذي يُحدِّد إذًا جنْسَ المولود . 
وهنا لا بُدَّ من الوقوف عند بعض الآيات في القرآن الكريم , فيها إشارة إلى هذه الحقيقة . يقول اللّه تعالى : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى 36 أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى 37 ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى 38 فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى 39 أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى 40 } (75- القيامة 36-40) . 
ويقول تعالى : { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى 42 وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى 43 وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا 44 وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى 45 مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى 46 } (53- النّجم 42-46) . ففي هذه الآيات ذكَر اللَّه تعالى أنَّه خلَق الذَّكر والأنثى من نطفة إذا تُمنَى (وفي الآيات السَّابقة : من نُطفة من منيّ يُمنَى) , أي من ماء الرَّجل , أي أنَّ جنس المولود , ذكرًا أم أنثى , حدَّده ماءُ الرَّجل فقط !
ويقول تعالى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ 223 } (2- البقرة 223) . وفي هذه الآية أيضًا إشارة إلى أنَّ جِنْس المولود , ذكرًا أم أنثى , يحدِّدهُ مَنِيُّ الرّجل فقط , وأنَّ رَحِمَ المرأة هو بِمَثابة حَرْث , إذا بذَر فيه الرَّجلُ حيوانًا مَنَويًّا من نوع x كانت الثَّمرة أنثى , وإذا بَذَر فيه حيوانًا مَنَويًّا من نوع y كانت الثَّمرة ذكرًا .
أليس في هذا دليلٌ علميّ آخر قويّ على أنَّ القرآن وحيٌ من عند اللَّه تعالى؟!

---------------------- 5

عندما ينضج الجلد يتوقّف الإحساس بالألم !


يتكوَّن جلدُ الإنسان من طبقة سطحيَّة رقيقة تُسمَّى البشرة Epiderme , تحتها طبقة أخرى تُسمَّى الأدَمة Derme . وقد كانت دهشة الباحثين في مجال الطِّبِّ والجراحة كبيرة عندما اكتشفوا أنَّ الأعصاب المسؤولة في الجسم عن الإحساس بالحرارة والبرودة والألم , تنتهي أطرافُها في الأدَمة . ووجدوا تحت البشرة شبكة هائلة جدًّا من الألياف العصبيَّة , مُهمَّتُها نَقْل هذه الأحاسيس إلى الدِّماغ . 
معنى هذا أنَّ كلَّ أنواع الإحساس في الجسم , يستقبلُها الجلد , ثمَّ ينقُلُها بسرعة هائلة عبر الأعصاب إلى الدِّماغ , فيُترجمها , ويشعر عندئذ الإنسان بالإحساس المعيَّن . وإذا حدث أن تمزَّقت أنسجةُ الجلد بسبب تعرُّضها لاحتراق شديد , فإنَّ الأعصاب الموجودة في هذا الجلد تموت , فينقطع بذلك الاتِّصال بمراكز الإحساس في الدِّماغ , ويَختفي عندها الشُّعور بالألم بعد أن كان قد بلَغ ذرْوَته !
نعم , قد تعجبين سيِّدتي لهذا الأمر , لكنَّ هذا ما يحدث فِعْلاً !
وستزداد دهشتك إذا قلتُ لك أنَّ للقرآن الكريم كلمة في هذا الموضوع ! يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا 56 وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً 57 } (4- النّساء 56-57) . 
فقد ذكر اللَّه تعالى هنا أنَّ الكفَّار سيَصلَون نارًا , كلَّما نضجتْ فيها جلُودُهم (وليس لُحومُهم) أُبدِلُوا جلودًا أخرى لِيَذوقوا العذاب ! ذلك أنّ نُضج الجلد يُؤدِّي إلى موت الأعصاب , وبالتَّالي إلى تَوقُّف الشُّعور بالألم , فوَجب عند ذلك إبدال الجلد المحترق بجلد جديد , لِيَتواصل العذاب ! وهذه الآية 56 تُعتَبر دليلاً صريحًا وواضحًا على أنَّ الذين يكْفرون باللَّه وآياته , سوف يَصلَوْن نارًا حقيقيَّة , ويشعرون فيها فعْلا بعذاب جسدي محسوس , شديد ومتواصل .
انتبهي سيِّدتي ! إنَّ الذين سيَصْلَوْن هذه النَّار حتَّى ينضجُوا فيها , هم بشرٌ مثلي ومثلك , غير أنَّهم لَم يكُونُوا على الدِّين الحقّ ! أفهذَا النُّزل خيرٌ , أم جنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهار وأزواج مُطهَّرة , أعدَّها اللَّه تعالى للَّذين آمنُوا وعملُوا الصَّالحات , خالدين فيها أبدًا ؟!
وقد عُرضتْ هذه الآية على Tejatat Tejasen , رئيس سابق لقسم الجراحة وعلْم الأجنَّة في جامعة Chiang Mai بتايلاندا , فقال : إنَّ الإحساس بالألم ينبعثُ فِعْلاً من الجلد , ويتوقَّف في حالة الاحتراق الشَّديد . ثمَّ سُئل إن كان يعرف الأستاذ Keith Moore , فأجاب : طبعًا أعرفه , إنَّه من رجال العلم البارزين في العالم ‍. وبعد ذلك , عُرضت عليه آيات قرآنيّة وأحاديث نبويَّة عن تطوُّر الجنين , فزادت دهشتُه وقال : من المستحيل أن تكون هذه المعلومات من عند محمَّد أو من عند بَشر آخر !
وبعد سنوات قليلة , استُدعي هذا الأستاذ لحضور المؤتمر الطِّبِّي الثَّامن في الرِّياض (بالسّعوديَّة) , حيث استمع لمحاضرات عن الإعجاز الطِّبِّي في القرآن الكريم وأحاديث النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فما كان منه إلاَّ أن أخذ الكلمة في آخر يوم في المؤتمر , وكان من جملة ما قال : أنا على يقين أنَّ كلَّ ما جاء في القرآن الكريم صحيحٌ , ويمكن التَّدليل على ذلك بالوسائل العلميَّة . وبما أنَّ محمَّدًا كان لا يعرف القراءة ولا الكتابة , فمِنَ الواضح أنَّنا بحضرة رسولٍ يأتيه الوَحيُ من عند الخالق العليم , وهذا الخالق هو اللَّه . لهذا , حان الوقت لي أن أشهد أن لا إله إلاَّ اللَّه وأنَّ محمَّدًا رسول اللَّه !

---------------------- 5

معجزة البصمات , دليل آخر على قدرة الخالق !


من المعروف اليوم أنَّ بصمات الأصابع هي خاصِّيَّةٌ مميَّزة لكلِّ إنسان . فهي لا تُورَث من الوالدين , بالرَّغم من أنَّ الأبناء يَرثون صفات كثيرة من أبَوَيْهم . ولا يُوجد اثنان فوق الكرة الأرضيَّة لهما نفس البصمات , حتَّى التَّوأمان من بطن واحدة ! ثمَّ إنَّ الطَّفل ينمو ويكبر , ولا تتغيَّر بصماتُ أصابعه !
وهذه الحقيقة لم يتمَّ اكتشافها إلاَّ في القرن التَّاسع عشر , وكان أوَّل من أشار إليها العالم التِّشيكوسلوفاكي Purkinje المختصّ في وظائف الأعضاء , والذي اقترح سنة 1823 م نظامًا لترتيب البيانات على أساس بصمات الأصابع . ومنذ ذلك الوقت , اعتُمِدت البصماتُ في بطاقات التَّعريف وفي سجلاَّت الشُّرطة , كدليل قاطع على شخصيَّة الإنسان . 

فهل أشار القرآن لهذا الأمر أيضا ؟! 
نعم ! يقول اللَّه تعالى : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ 3 بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ 4 } (75- القيامة 3-4) . فقد ذكَر اللَّهُ تعالى في الآية 4 قُدْرته على إعادة تركيب البَنَان , بينما كان بإمكانه مثلاً أن يذكُر قدرته على إعادة تركيب المخِّ أو الجهاز العصبي , الذيْن هما , بالنِّسبة لنا , أصعب وأَدقّ في الصُّنع من أطراف الأصابع . فما السِّرُّ في ذلك يا تُرى ؟
لعلَّ اللَّه تعالى أراد إذًا أن يُشير بهذه الآية إلى معجزة البصمات , أي أنَّه قادرٌ على إحياء كلِّ النَّاس بعد موتهم , وإعادة بَنان كلّ واحد منهم ببصماته المميَّزة . 
وأيًّا كانت الإجابة , فإنَّ هذه المعجزة هي في حدِّ ذاتها دليلٌ قاطع على أنَّ اللَّه واحد لا شريك له , وأنَّ قدرته مطلَقة . وإلاَّ , فكيف لا يتشابه اثنان في بصماتهما , والنَّاس يُعدّون بمئات المليارات منذ بدء الخليقة ؟!

---------------------- 5

ماذا لو لم يقبل اللَّه غير الإسلام ؟!


أرجوك أيُّها القارئ الكريم , ركِّز اهتمامك معي في هذا العنصر بالخصوص , لأنَّه هامٌّ جدًّا جدًّا بالنّسبة لك !
لقد ذكرتُ لك أنَّ إبراهيم وموسى وعيسى ومحمَّدًا , وكلَّ الأنبياء عليهم السَّلام , دَعَوْا إلى عبادة إلهٍ واحد , وهو اللَّهُ سبحانه وتعالى , وإلى اعتناق دين واحد , وهو الإسلام . وكلّ نبيٍّ دعَا قومه إلى الإيمان بجميع الأنبياء الذين سبَقُوه , وبالكُتُب التي أُنْزلَتْ عليهم , وهذا بدليل القرآن .
وبِحُكْم تَغَيُّر الأزمان وازدياد عدد سكَّان الأرض , كان لا بُدَّ , عند إرسال نبيٍّ جديد , من إدخال بعض التَّعديلات على التَّشريعات التي قبلَه , حتَّى تكون أكثر ملاءمة لاحتياجات النَّاس في الزَّمن الجديد . فكان التَّشريعُ الجديد ينسخ بعض التَّشريع الذي قبْله , والكتابُ الجديد ينسخ بعض ما جاء من تشريعاتٍ في الكتاب الذي سَبقه .
طبعًا , أصولُ العقيدة , مثل وحدانيَّة اللَّه تعالى , والإيمان بالملائكة والرُّسُل واليوم الآخر والحساب والجنَّة والنَّار , بقيَتْ ثابتة . 
فلمَّا بعثَ اللَّهُ تعالى محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم نبيًّا للنَّاس جميعًا , وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين , كان من المنطقي أن يُمِدَّه بتشريع يكون ملائمًا , ليس لِزَمانه فقط , وإنَّما لكلِّ الأزمان التي ستأتي بعده . لهذا , أكملَ له دينَ الإسلام ونسخَ كلَّ الشَّرائع التي قبْله , وأَنزلَ عليه القرآن ونسخَ كلَّ الكتُب السَّماويَّة التي سَبَقَتْه . فتشريعاتُ الإسلام هي أكملُ الشَّرائع , والقرآنُ الكريم هو معجزة كلّ الأزمان . وعلى هذا , فلن يقبلَ اللَّهُ بعد بعثة النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وحتَّى قيام السَّاعة , غير الإسلام دينًا والقرآن منهاجًا .
ولِتَوضيح هذا الأمر , لِنأخُذْ مثالاً مِمَّا هو معمولٌ به في مختلف بلدان العالم : المعروف أنَّ إدارة التَّعليم تقوم كلَّ بضع سنوات بإدخال بعض التَّعديلات على البرامج الدِّراسيَّة , آخذةً بعَيْن الاعتبار اكتشافاتٍ علميَّة جديدة أو طُرُق تعليم حديثة , لِتكُون البرامجُ الجديدة أكْثَر ملاءمة لاحتياجات الجيل الجديد من الطَّلَبة والمدرِّسين .
وبالطَّبع , يصدر على إثر ذلك كتابٌ جديد خاصّ بالمادَّة المنَقَّحة , ويُلْغَى العملُ بالكتاب القديم . وفي العادة , يتفهَّمُ كلُّ الأطراف هذا التَّجديد لأنَّ الغرض منه هو مصلحتهم جميعًا .
ولو نظرْنَا في كلِّ الميادين تقريبًا , لَوَجدنا أنَّ القوانين تُنَقَّح , والأوراق النَّقديَّة تُبدَّل , فيُلْغى العملُ بالنِّظام القديم ويحلُّ محلَّه النِّظامُ الجديد . وحتَّى إن وُجد بعضُ المعارضين , فإنَّهم لا يعارضون التَّجديد إطلاقًا , وإنَّما تجد لهم بعض الاعتراضات على القانون الجديد لأنَّه ليس بالضَّبط كما أرادوه أن يكون .
هذا تقريبًا ما فعله الخالقُ سبحانه مع خَلْقه , ولِلَّه المثَلُ الأعلى . فقد اختار الإسلامَ دينًا لِكُلِّ البشريَّة منذ بداية الخليقة , ثمَّ سَنَّ لِكُلِّ نبيٍّ جديد تشريعات جديدة تُناسِبُ المجتمع الذي بعثه إليه , وربَّما أنزلَ عليه كتابًا جديدًا . فلمَّا بعث محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم خاتمًا لكلِّ الأنبياء , أكملَ له الدِّين , يقول تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا } (5- المائدة 3) . وببعْثَة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , ألْغَى اللَّهُ تعالى العملَ بالتَّشريعات التي قبْله , وبالكُتب التي قبله . فلَنْ يقبلَ بعد ذلك , وحتَّى قيام السَّاعة , غيْرَ الإسلام الذي أكملَه لمحمَّد , ولن يقبل غيْرَ القرآن الذي أنزله على محمَّد . وهذا بِنَصَّ القرآن : يقول اللَّه تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ 83 قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 84 وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ 85 } (3- آل عمران 83-85) . 
الآية 85 إذًا واضحة وصريحة : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ 85 } .
طبعًا , اليهودُ الذين عاشُوا مِن زَمن موسى عليه السَّلام إلى قبل مجيء عيسى عليه السَّلام , والنَّصارى الذين عاشُوا من زَمن عيسى عليه السَّلام إلى قبل مجيء محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وكلُّ مَن تبع نبيَّ زمانه قبل أن يأتيه نبيٌّ آخر , كلّ هؤلاء , إذا اتَّبعُوا نَبيَّهُم واستقامُوا على شريعته ولَم يُبَدِّلُوا ولَم يُحرِّفُوا بعده شيئًا , فإنَّهم يُعتبَرُون مسلمين وماتوا على الإسلام , وإن شاء اللَّه يدخلُوا جنَّة الرَّحمن . يقولُ اللَّه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 62 } (2- البقرة 62) . فاليهُود والنَّصارى والصَّابئين (يُقال أنَّهم أتباعُ النَّبيِّ إدريس عليه السَّلام) المذكُورون في هذه الآية , هم فقط الذين عاشُوا قبل نُبوَّة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , لأنَّ القرآن لا يُناقض نفسَه . 
أمَّا بَعد نُبوَّة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وحتَّى قيام السَّاعة , فلَن يقبل اللَّهُ غير الإسلام الذي أكملَه لمحمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . وكلُّ مَنْ بلَغَتْه دعوةُ الإسلام , مِن نَصارَى ويهود وغيرهم , مِن بَعد نُبوَّة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وحتَّى قيام السَّاعة , فلم يقبلْها ومات على ذلك , سيُحرَم من دخول الجنَّة , ومن رؤية اللَّه عزَّ وجلَّ , وسيكون مصيرُه إلى النَّار خالدًا فيها ! هذا ما ذكَره القرآن : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ 85 } .
وأرجوكَ أيُّها القارئ الكريم , لا يكن ردّ فِعْلك على هذا الكلام أن تقول أنَّ هذا تعصُّبٌ للإسلام , وعدم اعتراف بالدِّيانات الأخرى ! بل فكِّرْ بهدوء , بعقلك وبمنطقك ! ارْجع إلى المثال الذي أخذناه فيما يخصّ التَّنقيحات في البرامج الدِّراسيَّة , واسمح لي أن أسألك : لو أنَّ إدارة التَّعليم في بَلَدك أدْخَلَتْ على مادَّة مُعيَّنة تعديلات تخدم مصلحة الطَّلَبة والمدرِّسين , وأصدرتْ بهذه المناسبة كتابًا جديدًا , ثمَّ أعلنتْ أنَّه ابتداءً من ذلك اليوم , سوفَ يقع العَمَل بالبرنامج الجديد وبالكتاب الجديد , ويُلغَى بالتَّالي العملُ بالكتاب القديم , هل ستَعتبر أنَّ قرار الإدارة ظالِم , أم بالعكس حكيمٌ وعادل ؟ 
بالطَّبع ستقول أنَّه قرارٌ حكيمٌ لأنَّه يتماشَى مع احتياجات الجيل الجديد , ويخدم مصلحتهم . 
حسنًا ! فماذا لو رفض بعضُ الطَّلبة والمدرِّسين البرنامج الجديد , لا لشيء إلاَّ لأنَّهم يُريدون أن يتشبَّثوا بالكتاب الذي درسَ به آباءُهم ؟
أغلبُ الظَّنِّ أنَّك ستقول أنَّ هؤلاء مُتَزمِّتون لأنَّهم يَرفضون ما فيه منفعتهم ! أليس كذلك ؟
فلماذا تجد إذًا صعوبة في قبول ما ذكرْتُه لَك , من أنَّ اللَّه عندما أنزل القرآن ألْغَى العملَ بالتَّوراة والإنجيل وغيرهما من الكُتب المقدَّسة , وعندما أكملَ الإسلامَ للنَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ألْغَى العملَ بالشَّرائع التي جاء بها موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء , عليهم السَّلام ؟ هل لأنَّ الأمر يتعلَّق بالدِّين ؟!
وإذا كنت تظُنُّ أنَّ إلغاء العمل بالكُتب السَّابقة يعني عدم الاعتراف بها وبِمَنْ جاء بها , فهذا غير صحيح ! فالمسلمُ يُؤمنُ حقيقةً , وليس مجرَّد كلام , بجميع الأنبياء السَّابقين , ويعتبرُهم أشْرف النَّاس , ويُؤمنُ بكلِّ الكُتب التي أُنزلتْ عليهم , ويعتبرها كُتبًا مقدَّسة . ويؤمنُ أيضًا أنَّ كلَّ مَنْ تَبِعَ نَبيَّ زمانه يكونُ إن شاء اللَّه من الفائزين برضاء اللَّه وجنَّته يوم القيامة . 
فأين المشكلة إذًا ؟! ومَنْ هو المتعصِّب في هذه الحالة : الذي امتثلَ لِقَرار اللَّه , فقَبِلَ التَّشريع الجديد وعملَ بالكتاب الجديد , أم الذي أصرَّ على العَمَل بالتَّشريع القديم وبالكتاب القديم ؟!
أخيرًا , لا تَنسَ أنَّ الآيات التي ذكرتُها لك في هذا العنصر , والتي أعلنتْ أنَّ اللَّه لَنْ يقبل غير الإسلام , مأخوذةٌ من القرآن الكريم , الكتاب الذي تحدَّثَ عن حقائق علميَّة لم يتمَّ اكتشافُها إلاَّ حديثًا , مِمَّا يدلُّ على أنَّه مُنزَّلٌ من عند اللَّه . فهذه الآيات هي إذًا كلامُ اللَّه , لا شكَّ في ذلك . فهل لديك اعتراضٌ على كلام خالِقِك ؟!
أسأل اللَّه أن يُزيل الغشاوة عن قلبك ويهديك إلى الإسلام . فربَّما تكون هذه أوَّل مرَّة تسمع فيها هذا الكلام , وربَّما لن تتوفَّر لك فرصة سماعه مرَّة أخرى , فتنشغل بأمور الدُّنيا , وتموت على غير الإسلام , فتخسر كلّ شيء ! نعم , تخسر كلّ شيء ! هذا ما ذكَرتْهُ الآية بكلِّ وضوح : { وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ 85 } .

---------------------- 5

ما يجب معرفته بخصوص التّوراة والإنجيل


ذكَر اللَّهُ تعالى في القرآن الكريم أنَّه أنزل التَّوراة على موسى والإنجيل على عيسى , عليهما السَّلام , وأنَّه أَوْكَلَ إلى أتباعهما حِفْظَ الكتابَيْن من أن تقع فيهما زيادة أو نقص أو تحريف .
يقول تعالى بخصوص التَّوراة : { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ 44 } (5- المائدة 44) . 
فاللَّهُ تعالى جعلَ إذًا الأحبارَ حَفَظَةً على التَّوراة . لكنَّهم لم يُحافِظوا عليها , وحرَّفُوها وبدَّلُوا فيها حَسْب أهوائهم , فأصبحتْ خليطًا مِن حَقّ وباطل . ففضَحهم اللَّه تعالى بقوله : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ 79 } (2- البقرة 79) . 
وقال أيضًا عنهم : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 78 } (3- آل عمران 78) . 
وقال أيضًا : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ 44 وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا 45 مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً 46 } (4- النّساء 44-46) .
وقال : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 71 } (3- آل عمران71) . 
وقال : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 75 } (2- البقرة 75) . 
وقال : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ 91 } (6- الأنعام 91) . 
وقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 174 } (2- البقرة 174) .
وقال : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ 15 } (5- المائدة 15) . 
كلُّ هذه الآيات إذًا تُبَيِّنُ أنَّ أحبار اليهود لَم يُحافِظُوا على التَّوراة التي أُنزِلَتْ على موسى عليه السَّلام , وحذفُوا منها وزادُوا مِن عندهم كما طاب لهم ! وعليه , فإنَّ التَّوراة الموجودة اليوم بين أيدي اليهود مُحَرَّفة بشهادة اللَّه في القرآن . 
ولِلْعلم , فإنَّ هذه التَّوراة , والتي ينسبُها اليهودُ إلى موسى عليه السَّلام , تتكوَّن من خمسة أسفار , هي : سفْر التَّكوين , وسفْر الخروج , وسفْر اللاَّويِّين , وسفْر العدد , وسفْر التَّثنية .
ولكن هناك أسفارٌ أخرى ينسبُها اليهود إلى أنبياء بني إسرائيل :
- منها أسفار تاريخيَّة , وعددُها اثنَا عشر , وهي : سفْر يشوع , سفْر القضاة , سفْر راعوث , سفْر صموئيل الأوَّل , سفْر صموئيل الثَّاني , سفْر الملوك الأوَّل , سفْر الملوك الثَّاني , سفْر أخبار الأيَّام الأوَّل , سفْر أخبار الأيَّام الثَّاني , سفْر عزرا , سفْر نحميا , سفْر أستير .
- ومنها أسفار الشِّعر والحكمة , وتُنسَبُ أغلبُها إلى داوُد وسليمان عليهما السَّلام , وعددها خمسة , وهي : سفْر أيُّوب , سفْر المزامير , سفْر الأمثال , سفْر الجامعة , سفْر نشيد الإنشاد .
- ومنها الأسفار النَّبويَّة , وعددها سبعة عشر , وهي : سفْر أشعياء , سفر أرمياء , سفْر مراثي أرمياء , سفْر حزقيال , سفْر دانيال , سفْر هوشع , سفْر يوئيل , سفْر عاموس , سفْر عوبديا , سفْر يونان , سفْر ميخا , سفْر ناحوم , سفْر حبقوق , سفْر صفينا , سفْر حجي , سفْر زكريَّا , سفْر ملاخي .
هذا إذًا بخصوص التَّوراة . 

أمَّا عن الإنجيل , فيقول اللَّه تعالى : { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ 46 } (5- المائدة 46) . 
ويُصرِّح اللَّهُ تعالى في آية أخرى أنَّ مجيء النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مذكُورٌ في التَّوراة التي أُنزلتْ على موسى وفي الإنجيل الذي أُنزل على عيسى , عليهما السَّلام , فيقول تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 157 } (7- الأعراف 157) . 
فالرَّسولُ النَّبيُّ الأُمِّيُّ المذكور هنا , هو محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . وحتَّى لا يترُكَ اللَّهُ تعالى لنا مجالاً للشَّكِّ في هذا الأمر , ذكَر في آية أخرى أنَّ عيسى عليه السَّلام بَشَّر أتباعَه أنَّه سيأتي من بعده نبيٌّ يُسمَّى أحمد (وهو محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم) . يقول تعالى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ 6 } (61- الصّفّ 6) . 
لكنَّ النَّصارى لم يتحدَّثُوا أبدًا بهذه البشارة , وعندما جاء النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم كَفَرُوا بِنُبُوَّته !
وإذا كان أحبارُ اليهود قد حرَّفُوا توراة نبيِّهم , فإنَّ النَّصارى أضاعُوا الإنجيل الذي أُنزِلَ على عيسى عليه السَّلام , ثمَّ كتبُوا من عندهم كُتُبًا عديدة أسْمَوْها أناجيل , وضمَّنُوها عقائد مُحرَّفَة بعيدة كُلَّ البُعد عن شريعة عيسى عليه السَّلام ! بل ووصل بهم الأمر أن ادَّعَوْا أنَّ عيسى ابنُ اللَّه , تعالى اللَّه عن قولهم عُلُوًّا كبيرًا ! 
فردَّ اللَّهُ تعالى على ادِّعائهم هذا ردًّا عنيفًا في مواضع عديدة من القرآن الكريم , من ذلك قوله تعالى : { وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ 30 اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 31 } (9- التّوبة 30-31) . 
وسنتحدَّثُ عن هذا الأمر بالتّفصيل , في عناصر لاحقة من هذا الكتاب بإذن اللَّه . 
هذا إذًا بعض ما ذكَره القرآنُ عن التَّوراة والإنجيل . 

أمَّا الباحثون في تاريخ الدِّيانات , فيقولون أنَّ التَّوراة الأصليَّة التي أُنزِلتْ على موسى عليه السَّلام أُتْلِفَت بعد موته خلال حرُوب بني إسرائيل مع بعض الملوك الطُّغاة , مثل بُخْتنصر Nabuchodonosor II سنة 586 قبل ميلاد المسيح . فحاولوا فيما بعدُ كتابتَها من جديد بالاعتماد على ذاكرتهم , فخلَطوا فيها كثيرًا من المعتقدات البعيدة عن شريعة نبيِّهم ! 
والتَّوراةُ الموجودة عند اليهود اليوم منقولة عن مخطوطات مختلفة , كَتَبَها كُتَّاب مختلفون , ليس في حياة موسى عليه السَّلام , وإنَّما بعد وفاته بأكثر من خمسة عشر قرن .. فقط ! فهي إذًا , بشهادة المؤرِّخين , ليست التَّوراة الأصليَّة .
وبالنِّسبة للإنجيل الذي أُنزلَ على عيسى عليه السَّلام والمذكُور في القرآن الكريم , فلَم يَجِد المؤرِّخون له أثَرًا ! ولكنَّ الذي ثَبتَ لَدَيْهم أنَّ بعضَ تلاميذ عيسَى عليه السَّلام , وبعضَ مَن جاء بعدَهم , كتَب كلّ واحد منهم كتابًا عن سيرة هذا النَّبيِّ الكريم وأقواله وتعاليمه , ولم يَقصد أبدًا من كتابته أن تُصبح مقدَّسة . فكانت هذه الكُتب تُسَمَّى "موعظة" , ثمَّ أُطلِقَ عليها اسم "مذكّرات الرُّسُل" , وذلك حوالَيْ سنة 150 م , ثمَّ سُمِّيَت أناجيل , وذلك عندما شعُرت الكنيسة بضَرورة أن يكون لديها أسفارٌ مُقَدَّسة مثل التي عند اليهُود ! ثمَّ بدأت الخلافات بين الكنائس في اختيار الأناجيل التي يُمكنُ اعتمادها , وفي ترتيبها في الكتاب المقدَّس ! 
وفي سنة 325 م , عُقِد أوَّل مجمع للكنائس 1er Concile de Nicée بِطَلب من إمبراطور روما قسطنطين الأوَّل , وكان الهدف منه الفصل في الخلاف الحاصل حول حقيقة عيسى عليه السَّلام . وانفضَّ المجمع بإقرار أنَّ عيسى ابنُ اللَّه ! وتَمَّ اختيار أربعة أناجيل فقط من بين حوالي سبعين إنجيلاً ! وهذه الأناجيل الأربعة هي المعتَمَدة اليوم عند مختلف فِرَق النَّصارى , وهي : إنجيل متى Saint-Matthieu , وإنجيل مرقس Saint-Marc , وإنجيل لوقا Saint-Luc , وإنجيل يوحنَّا Saint-Jean .
ومَنْ تأمَّل فيها , وجدَ بينها اختلافات جوهريَّة كثيرة , وهذا باعتراف النَّصارى أنفُسهم ! ويمكن الرُّجوع في هذا الأمر إلى أيّة موسوعة غربيَّة عن الدِّيانات .
ويُضيف المسلمون أنَّ هذه الأناجيل ليس هناك ما يُثبتُ صحَّة نسبتها إلى أصحابها , وأنَّها ليست مقدَّسة لأنَّها عملٌ بَشَري , وأنَّ فيها أقاويل مغلوطة لا يمكن أبدًا نِسْبَتها إلى اللَّه تعالى ولا إلى نبيِّه الكريم عيسى عليه السَّلام . وسنذكر في العناصر الموالية أمثلة عن ذلك , وسنذكر أيضًا أمثلة عن التَّحريفات الموجودة في توراة اليهود . 
ثمَّ إنَّ أيَّ باحث عن الحقيقة بإخلاص , يستطيع بفطرته السَّليمة وبعقله أن يتفطَّن , من خلال قراءته لهذه الكتب , إلى أنَّ فيها أقاويل لا يمكن أن تصدر عن خالق هذا الكون أو عن أحد أنبيائه الكرام .

---------------------- 5

لو كان موسى بيننا لتبرَّأ من توراة اليهود !


لِماذَا ؟! لِأنَّها ببساطة ليست هي التَّوراة المذكورة في القرآن , والتي أنزلَها اللَّهُ عليه ! وسأعرض عليك , سيِّدتي الكريمة , سيِّدي الكريم , فيما يلي العديد من الأدلَّة على ذلك , مع ملاحظة أنَّ التّرجمة العربيَّة لِنُصوص الكتاب المقدّس التي سنَستشهدُ بها في هذا الكتاب , مأخوذة كلُّها من موقع www.Bible.com , أي ترجمة النَّصارى أنفُسهم لِكِتابهم المقدَّس :

جاء في سفْر التَّثنية : فَماتَ هناكَ موسَى عَبْدُ الرَّبّ في أرض مُوآب حَسبَ قَوْل الرَّبِّ . ودفَنَه في الجِوَاء في أرض مُوآب مُقَابل بَيْت فَغُور , ولَمْ يَعرفْ إنسانٌ قَبْرَه إلى هذا اليَوم . وكان مُوسَى ابنَ مائة وعشرين سنة حينَ ماتَ , ولَم تَكِلْ عَينُه ولا ذهبتْ نَضارتُه . فَبَكَى بَنُو إسرائيل مُوسَى في عَربات مُوآب ثلاثينَ يومًا , فكملتْ أيَّامُ بُكاء مَناحة مُوسَى . (سفْر التّثنية – الإصحاح الرّابع والثّلاثون 5 – 8) . 
المعروفُ أنَّ التَّوراة أُنزلتْ على موسَى عليه السّلام في حياته . فهل يُعقَل إذًا أن يكون فيها خبرٌ , في الماضي وليس تنبُّؤ في المستقبل , أنَّك يا موسى قد مُتَّ ابن مائة وعشرين سنة , ودُفنتَ في أرض مُوآب , وبَكَى عليكَ بَنُو إسرائيل ثلاثين يَومًا ؟!
طبعًا لا يُعقَل ! وإنّما الأقرب إلى العقل أنَّ هذا الكلام كتبهُ إنسانٌ بعد وفاة موسى عليه السَّلام ودَفْنه وبُكَاء بني إسرائيل عليه . ولو كان هذا الأمر معقولاً , لَأصبح إذًا من المعقول أيضًا أن تكتبَ أنت في مذكِّراتك الشَّخصيَّة مثلاً : أنا متُّ عن سنِّ مائة سنة , ودُفنتُ في مكان كذا , وسنة 7000 م وقع كذا وكذا !! 

وجاء في سفْر العدد : وأمَّا الرَّجلُ مُوسَى فكانَ حليمًا جدًّا , أكثر من جميع النَّاس الذين على وجه الأرض . (سفْر العدد – الإصحاح الثّاني عشر 3) .
فهذا الثَّناءُ على موسى عليه السَّلام جاء بصيغة الماضي , وبالتَّالي ليس من المعقول أن يكون قد أوحيَ إليه في حياته من طرف اللَّه عزَّ وجلَّ ! وإنَّما المنطقُ يقول أنَّ هذا الكلام كتبه إنسانٌ بعد وفاة موسى عليه والسّلام , يَمدحُ فيه حِلْمَه .

وجاء في سفْر التّكوين : فلمَّا سمع أبرامُ أنَّ أخاه سُبِيَ , جَرَّ غِلْمانَه المتمرِّنين ولْدانَ بيته ثلاث مائة وثمانية عشر وتَبعَهُم إلى دان . (سفْر التّكوين – الإصحاح الرّابع عشر 14) .
وهذا الكلام لا يُمكنُ أن يكون أوحيَ على موسى عليه السَّلام , لأنَّ مدينة دان لم تُسَمَّ بهذا الاسم إلاَّ في عهد القُضاة , أي بعد وفاة موسى بأكثر من قرن ! والدَّليل على ذلك ما ذُكِر في سفْر القُضاة : ولَم يكُنْ مَن يُنقِذُ لأنَّها بعيدةٌ عن صيدُون , ولَم يكُن لهم أمرٌ مع إنسان وهي في الوادي الذي لِبَيْت رَحُوب . فَبَنَوا المدينة وسكَنُوا بها . ودَعوا اسمَ المدينة دانَ , باسْم دان أبيهم الذي وُلِدَ لإسرائيل . ولكنَّ اسمَ المدينة أوَّلاً لاَيش . (سفْر القضاة – الإصحاح الثَّامن عشر 28 – 29) .

وجاء في سفْر التّكوين , في قصَّة نوح عليه السّلام , أنَّ اللَّه أمَره أن يحمل معه في السَّفينة مِن كلِّ حَيٍّ زوجَيْن اثنين , ذكرًا وأنثَى : ولكن أقيمُ عهدي معكَ , فتدخلُ الفُلكَ أنتَ وبَنُوكَ وامرأتُكَ ونساءُ بنيكَ معكَ . ومن كلِّ حَيٍّ من كلِّ ذي جَسَدٍ اثْنَيْن من كُلٍّ تُدخِلُ إلى الفُلْك لاسْتِبْقائها معكَ , تكونُ ذكرًا وأنثَى . منَ الطُّيُور كأجْناسها ومنَ البهائم كأجناسها ومن كلِّ دبَّابات الأرض كأجناسه , اثْنَيْن من كُلٍّ تُدخِلُ إليكَ لِاسْتِبْقائها . (سفْر التّكوين – الإصحاح السّادس 18 – 20) .
ولكن جاء في نفس السِّفْر أنّ اللّهَ أمرَ نوحًا أن يحمل معه في السَّفينة من الطُّيور والبَهائم سبعة أزواج , وليس زوجَيْن اثنين : وقالَ الرَّبُّ لِنُوح : ادخُلْ أنتَ وجميع بيتكَ إلى الفُلْك لِأنِّي إيَّاكَ رأيتُ بارًّا لَديَّ في هذا الجيل . من جميع البَهائم الطَّاهرة تأخذُ معكَ سبعةً سبعةً , ذكَرًا وأنثَى , ومن البهائم التي ليستْ بطاهرَة اثْنَيْن : ذكَرًا وأنثَى . ومن طُيُور السَّماء أيضًا سبعةً سبعةً : ذكَرًا وأنثَى , لِاسْتِبْقاء نَسْلٍ على وَجْه كُلِّ الأرض . (سفْر التّكوين – الإصحاح السّابع 1 – 3) .
وهذا تناقض واضحٌ بين النُّصوص !

وجاء في سفْر الخروج أنَّ الإنسان لا يقدرُ أن يرى اللّه تعالى : وقال (أي اللَّهُ تعالى لِمُوسَى) : لا تقدر أن تَرَى وَجْهي لِأنّ الإنسانَ لا يَراني ويَعيش . (سفْر الخروج – الإصحاح الثّالث والثّلاثون 20) .
ولكن جاء في نفس السِّفْر أنَّ موسى وشيُوخ إسرائيل رأوا اللّه : ثمَّ صعدَ موسَى وهارونُ ونادابُ وأبيهُو وسبعُون من شُيُوخ إسرائيل . ورأوا إلَهَ إسرائيلَ وتحتَ رجْلَيْه شِبْهُ صَنعةٍ من العقيق الأزرق الشَّفَّاف وكذَاتِ السَّماء في النَّقاوة . (سفْر الخروج – الإصحاح الرّابع والعشرون 9 – 10) .
فأيُّ النَّصَّين أصحّ ؟!

حتَّى الأسفار التي ينسبُها اليهود إلى بعض أنبيائهم , تضمَّنتْ أيضًا تناقضات بين النُّصوص !
فقد جاء مثلاً في سفْر حزقيال : لِأجْل ذلك هكذا قال السَّيِّدُ الرَّبُّ : من أجْل أنَّكم ضججْتُم أكثر من الأمَم التي حَوالَيْكُم ولَم تسلُكُوا في فرائضي , ولَم تعملُوا حسبَ أحكامي ولا عملْتُم حسبَ أحكام الأمَم التي حوالَيْكُم . (سفْر حزقيال – الإصحاح الخامس 7) .
ولكن جاء في نفس السِّفر : فتعلَمُون أنِّي أنا الرَّبُّ الذي لَم تسلُكُوا في فرائضه ولَم تعملُوا بأحكامه , بل عملتُم حسبَ أحكام الأمَم الذين حولَكُم . (سفْر حزقيال – الإصحاح الحادي عشر 12) .
فهل عملَ بَنُو إسرائيل حسب أحكام الأمَم المجاورة أم لم يعملُوا ؟!

وجاء في سفْر صموئيل الثّاني : ولَم يَكُنْ لِميكالَ بنْتِ شاوُل وَلدٌ إلى يَوم موتها . (صموئيل الثَّاني – الإصحاح السَّادس 23) .
ولكن جاء في نفس السِّفْر : فأخذَ الملِكُ ابْنَيْ رصْفَة ابنَة أيَّة اللَّذَيْن ولَدَتْهُما لِشَاوُل : أرموني ومَفِيبُوشَث , وبَنِي مِيكالَ ابنَة شَاوُل الخمسَة الذين وَلَدَتْهُم لِعَدْرئيلَ بن بَرزلاّي المحوليّ . (صموئيل الثّاني – الإصحاح الحادي والعشرون 8) .
فهل كان لِميكالَ بنت شاوُل أولاد أم لا ؟! 

وتضمَّنت هذه الأسفار أيضًا ذكْر أحداثٍ , بصيغة الماضي , وقعَتْ بعد وفاة النَّبيِّ الذي يُنسبُ إليه السِّفْر ! 
فقد جاء مثلاً في سفْر النَّبيِّ يشوع بن نون , وصيّ موسى , عليهما السَّلام : وكانَ بعدَ هذا الكلام أنّه ماتَ يَشُوع بن نُون عبدُ الرَّبِّ ابن مائة وعَشر سنين . فدفنُوه في تُخُم مُلْكه , في تِمْنَة سارح التي في جَبَل أفْرايم شمالي جَبَل جاعش . (سفْر يشوع – الإصحاح الرّابع والعشرون 29 – 30) .
فكيف يمكنُ أن يكتُبَ يَشُوع عن نَفْسه أنّه ماتَ وعمرُه مائة وعشر سنين , ودُفِنَ في مكان كذا ؟!

وجاء في سفْر صموئيل الأوَّل : وماتَ صموئيلُ , فاجتمعَ جميعُ إسرائيل ونَدبُوه ودفنُوه في بَيْته في الرَّامَة , وقامَ داوُد ونزلَ إلى بَريَّة فارَان . (سفْر صموئيل الأوَّل – الإصحاح الخامس والعشرون 1) .
فكيف يُعقل أن يَكتُب النَّبيُّ صموئيل عن نفسه أنَّه مات ودُفن ؟! وإذا كان خبرُ موته قد ذُكِر في السِّفر الأوَّل , فمَن أَكملَ كتابة هذا السِّفْر ؟! ومَن كتبَ السِّفْر الثّاني الذي يُنسبُ أيضًا لهذا النَّبيّ ؟!
وتبقى الأمثلة كثيرة في هذا المجال . 

ولو أنَّكَ سيِّدي سألتَ اليهود عن مصدر التَّوراة التي بين أيديهم اليوم , لَقالُوا جميعًا أنّها كلامُ اللَّه أنزلهُ على موسى عليه السَّلام ! لكن لو سألتَهُم كيف شقَّتْ طريقها عبر آلاف السِّنين حتّى وصلَتْ إليهم بأمانة , دون أيِّ تحريف ؟ ومَن الذي نسخَها عن مَن , حتَّى نصل إلى موسى عليه السَّلام ؟ وما ردُّكم على التّناقضات الواضحة التي تحتوي عليها ؟ لَما وجدتَ أحدًا يُجيبُك عن هذه الأسئلة ! وإن أجابك البعضُ , فستجد إجاباتهم متناقضة جدًّا , ولا ترتكز على عقل ولا منطق ‍‍!

---------------------- 5

ولو كان موسى بيننا لتبرَّأ من اليهود !


لِماذَا ؟! لأنَّهم نسبُوا النّقائص إلى اللَّه سُبحانه , واتَّهموا أنبياءه بالزِّنا وشُرب الخمر , وحرَّفُوا التّوراة وأضافُوا إليها أكاذيب تقشعرّ منها الأبدان , وادَّعَوا أنَّ كلّ ذلك وحيٌ من عند اللَّه ! وسأعرض عليك , سيِّدتي الكريمة , سيِّدي الكريم , فيما يلي العديد من الأدلَّة على ذلك :

أمَّا الأكاذيب على أنبياء اللَّه , فقد جاء في سفْر التّكوين : وصَعدَ لُوط من صُوغَر , وسكنَ في الجبَل وابْنَتاه معه لأنَّه خافَ أن يسكُنَ في صُوغَر . فسكنَ في المغَارة هو وابْنتاهُ . وقالت البكْرُ للصَّغيرة : أبُونا قد شاخَ وليسَ في الأرض رجلٌ لِيَدخُلَ علينا كعادة كلِّ الأرض . هلُمَّ نَسْقِي أبانَا خَمْرًا ونَضْطجع معه فَنُحْيِي مِنْ أبينَا نَسْلاً . فَسَقَتَا أبَاهُما خَمْرًا في تلكَ اللَّيلة , ودخلَت البِكْرُ واضْطَجَعَتْ مع أبيها ولَمْ يَعْلَمْ باضْطِجاعِها ولا بقِيَامها . وحدثَ في الغَد أنَّ البكْرَ قالتْ للصَّغيرة : إنِّي قد اضْطَجَعتُ البارحةَ مع أبي , نَسْقِيه خَمْرًا اللَّيلَة أيضًا , فادْخُلي اضْطَجِعِي معه فَنُحْيِي مِنْ أبينَا نَسْلاً . فَسَقَتَا أباهُما خَمْرًا في تلكَ اللَّيْلَة أيضًا , وقامَت الصَّغِيرة واضْطَجعَتْ معه ولَم يَعْلَم باضْطِجاعِها ولا بِقِيَامِها . فحَبَلَت ابْنَتَا لُوطٍ مِنْ أبيهِما . فوَلَدَت البكْرُ ابْنًا ودَعَت اسْمَهُ مُوآب , وهو أبُو الموآبِيِّين إلى اليَوم . والصَّغيرةُ أيضًا ولَدَت ابْنًا ودَعَت اسْمَهُ بنْ عَمِّي , وهو أبُو بَني عَمُّونَ إلى اليَوم . (سفْر التّكوين – الإصحاح التّاسع عشر 30 - 37) .
سُبحان اللّه ! هل تُصدِّق سيِّدي الكريم أنَّ النَّبيَّ لوطًا عليه السَّلام الطَّاهر العفيف , يشربُ خمرًا ثمَّ يزني بابْنَتَيْه , فيُنجِبان له ولَدَين , ثمَّ يفضحُ اللَّه تعالى نبيَّه هذا في التَّوراة المقدَّسة !!
واللَّهِ إنَّ هذا لكذبٌ وافتراءٌ على اللَّه تعالى وعلى نبيِّه الطَّاهر الشَّريف . ويكفي لوطًا فخرًا أنَّ اللَّهَ تعالى شهد له في القرآن الكريم بأنَّه كان من الصَّالحين , يقول تعالى : { وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ 74 وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ 75 } (21- الأنبياء 74-75) . 

وجاء في سفْر التّكوين : فأُخْبِرَتْ ثَامار : هُوَ ذَا حَمُوكِ صاعدٌ إلى تِمْنَة لِيَجُزَّ غَنَمَهُ . فخَلعَتْ عنها ثِيَابَ تَرَمُّلِها وتَغطَّتْ ببُرْقُع وتلَفَّفَتْ , وجلَسَتْ في مَدْخَل عَيْنَايم التي على طريق تِمْنَة , لِأنَّها رأتْ أنَّ شِيلَة قَد كَبُرَ وهي لَم تُعْطَ له زوجة . فنَظَرها يَهُوذَا وحَسِبَها زانِيَة لِأنَّها كانتْ قد غَطَّتْ وَجْهها . فَمالَ إليْها على الطَّريق وقال : هاتِي أدخُلْ علَيْكِ , لِأنَّه لَم يَعلَمْ أنَّها كنَّته , فقالتْ : ماذا تُعْطِيني لِكَيْ تَدْخُلَ علَيَّ ؟ فقالَ : إنِّي أُرْسلُ جَدْيَ مِعْزَى مِنَ الغَنَم , فقالتْ : هلْ تُعْطيني رَهْنًا حتَّى تُرْسِلَه ؟ فقالَ : ما الرَّهْنُ الذي أعْطِيكِ ؟ فقالتْ : خاتمكَ وعِصابتك وعصاكَ التي في يَدِك , فأعطاها , ودخلَ عليْها , فحَبَلَتْ منه . (سفْر التّكوين – الإصحاح الثّامن والثّلاثون 13– 18) .
فهل يُعقَل سيِّدتي الكريمة أن يحكي اللَّه تعالى على صفحات كتابه المقدَّس كيف يزني الأبُ بزوجة ابنه ؟!! هل يُعقل أن تكون هذه هي التَّوراةُ التي وصفها اللَّهُ في القرآن الكريم بأنَّ فيها هُدًى ونُورًا ؟! 
أبدًا , لا يُعقل ! ولا يُمكنُ لأيِّ عاقل أن يُصدِّق أنَّ هذا الكلام وحيٌ من عند اللَّه .

وجاء في سفْر التّكوين : وابتدأ نُوح يكونُ فلاَّحًا وغرَسَ كَرْمًا . وشربَ من الخمْر فسَكرَ وتَعرَّى داخلَ خبائه . فأبصرَ حامٌ أبُو كَنْعان عَوْرةَ أبيه وأخبرَ أخَوَيْه خارجًا . فأخذَ سامٌ ويافَثُ الرِّداء ووضعاهُ على أكتافهما , ومَشَيَا إلى الوراء وسَتَرَا عَوْرةَ أبيهما ووجهاهُما إلى الوراء , فلم يُبصِرا عَوْرةَ أبيهما . فلمَّا استيقظَ نوحٌ من خَمره علمَ ما فعلَ به ابنهُ الصَّغير . فقالَ : مَلعونٌ كَنعانُ , عبدُ العبيد يكونُ لإخوته . وقال : مُباركٌ الرَّبُّ إلهُ سام , ولْيَكُنْ كنعانُ عبدًا له . (سفْر التّكوين – الإصحاح التّاسع 20 – 26) .
فهل يُعقل أن يَشرب نوحٌ عليه السَّلام الخمر ويتعرَّى , ثمَّ يفيقُ ويعلمُ بِمَا فعل ابنُه حام , فيصُبُّ غضبه على كنعان (ابن حام) , الذي ليس له أيّة علاقة بالأمر ؟!!
واللَّهِ إنَّ كلّ هذا لَكذبٌ وافتراء على نبيّ اللَّه نوح عليه السَّلام ! وأين هذا من تكريم اللَّه سُبحانه لِنُوح في القرآن الكريم , حيث يقول تعالى : { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ 75 وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ 76 وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ 77 وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ 78 سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ 79 إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 80 إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 81 ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ 82 } (37- الصّافّات 75-82) . 

وجاء في سفْر العدد : فلمَّا سمع موسَى الشَّعبَ يبكونَ بعشائرهم , كلُّ واحد في باب خَيمته وحَميَ غضبُ الرَّبِّ جدًّا , ساء ذلكَ في عَيْنَيْ موسَى . فقال موسَى للرَّبّ : لِماذَا أسأتَ إلى عبدِكَ , ولِماذَا لَم أجِدْ نِعمَة في عَيْنَيْكَ حتّى أنَّكَ وضعتَ ثِقْلَ جميع هذا الشَّعب عَلَيَّ ؟ ألَعَلِّي حبلْتُ بجميع هذا الشّعب أو لَعَلِّي ولدتُه حتَّى تقولَ لي احْمِلْهُ في حِضنكَ كما يحملُ المربِّي الرَّضيعَ إلى الأرض التي حلفْتَ لِآبائه ؟ من أينَ لي لَحمٌ حتَّى أعطي جميعَ هذا الشّعب لأنَّهم يبكونَ عَليَّ قائلين : أعطِنَا لَحمًا لِنأكُلْ . لا أقدرُ أنا وحدي أن أحملَ جميعَ هذا الشّعب لأنَّه ثقيلٌ علَيَّ . فإن كنتَ تفعلُ بي هكذَا فاقْتُلْني قتلاً إن وجدتُ نِعْمَة في عَيْنَيْكَ فلا أرى بَلِيَّتي . (سفْر العدد – الإصحاح الحادي عشر 10 - 15) .
حتَّى موسَى عليه السَّلام , أعظم أنبياء بني إسرائيل , لَفَّق له اليهودُ هذا الكلام الذي فيه إساءة أدَب في الحديث إلى اللَّه , وهو منه براء !! 

وجاء في سفْر الخروج : ولَمَّا رأى الشَّعبُ أنَّ موسَى أبطأ في النُّزول من الجبل , اجتمع الشَّعبُ على هارون وقالُوا له : قُم اصنعْ لنا آلهةً تسيرُ أمامنا لأنَّ هذا موسَى الرَّجل الذي أصعَدَنا من أرض مَصْر لا نعلمُ ماذا أصابَه . فقالَ لهم هارون : انزعُوا أقراطَ الذَّهب التي في آذان نسائكُم وبَنيكُم وبناتكُم وأتُونِي بها . فنزعَ كلُّ الشّعب أقراطَ الذَّهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون . فأخذ ذلكَ من أيديهم وصَوَّره بالإزميل وصَنعه عِجْلاً مَسْبُوكًا , فقالُوا : هذه آلِهتُكَ يا إسرائيلُ التي أصعدتكَ من أرض مصر . (سفْر الخروج – الإصحاح الثّاني والثّلاثون 1 – 4) .
فهل يُعقَل أن يُتَّهَم هارون عليه السَّلام بأنَّه هو الذي صنع لِبَني إسرائيلَ عجلاً من الذَّهب لِيَعبُدوه ؟!! حاشَى له وكلاَّ أن يفعل ذلك !

ونكتفي بمثال واحد من الأسفار التي ينسبُها اليهود إلى أنبيائهم : جاء في سفْر صموئيل الثَّاني : وكانَ في وقْت المساء أنَّ داوُد قامَ عن سريره وتَمشَّى على سطح بيت الملِك , فرأى مِنْ على السَّطح امرأةً تَستحِمُّ , وكانت المرأةُ جميلَةَ المنظر جدًّا . فأرسلَ داوُد وسألَ عن المرأة , فقال واحدٌ : أليسَتْ هذه بَتْشَبَع بِنْت أليعَام امرأةَ أوريَّا الحِتِّي . فأرسلَ داوُد رُسُلاً وأخذَها , فدخلتْ إليه فاضطجعَ معها وهي مُطَهَّرةٌ من طَمْثِها , ثمَّ رجعتْ إلى بيتها . وحبلَت المرأةُ , فأرسلَتْ وأخبرتْ داوُد وقالتْ : إنِّي حُبْلَى . فأرسلَ داوُد إلى يُوآب يقول : أرسلْ إلَيَّ أوريَّا الحِتِّي , فأرسلَ يُوآب أوريَّا إلى داوُد . فأتَى أوريَّا إليه , فسألَ داوُد عن سلامة يُوآب وسلامة الشَّعب ونَجاح الحرْب . وقالَ داوُد لِأوريَّا : انزلْ إلى بيتكَ واغسلْ رجْلَيكَ . فخرجَ أوريَّا من بيت الملِك , وخرجتْ وراءهُ حِصَّة من عند الملِك . ونامَ أوريَّا على باب بيت الملِك مع جميع عبيد سيِّده , ولَم ينزلْ إلى بيته . فقالُوا لِداوُد : لَم ينزلْ أوريَّا إلى بيته . فقالَ داوُد لِأوريَّا : أمَا جئتَ من السَّفر ؟ فلماذَا لَم تنزلْ إلى بيتكَ ؟ فقال أوريَّا لِداوُد : إنَّ التَّابُوتَ وإسرائيل ويَهُوذا ساكنُون في الخيام , وسيِّدي يُوآب وعبيدُ سيِّدي نازلُون على وجه الصَّحراء , وأنا آتي إلى بيتي لِآكُلَ وأشربَ وأضطجع مع امرأتي ! وحياتِكَ وحياة نفسكَ لا أفعلُ هذا الأمر . فقال داوُد لِأوريَّا : أقِمْ هنا اليومَ أيضًا , وغدًا أطْلقُك . فأقامَ أوريَّا في أورشَليم ذلكَ اليومَ وغَده . ودعاهُ داوُد فأكلَ أمامه وشربَ وأسْكَره . وخرج عند المساء لِيَضطجعَ في مَضجعه مع عبيد سَيِّده , وإلى بيته لَم ينزلْ . وفي الصَّباح كتبَ داوُد مكتوبًا إلى يُوآب وأرسلهُ بيد أوريَّا . وكتب في المكتوب يقول : اجعلُوا أوريَّا في وَجه الحرب الشّديدة , وارجعُوا من ورائه فيُضرب ويَموت . وكان في مُحاصرة يُوآب المدينة أنَّه جعلَ أوريَّا في الموضع الذي علِمَ أنَّ رجالَ البأس فيه . فخرج رجالُ المدينة وحاربُوا يُوآب , فسقطَ بعضُ الشَّعب من عبيد داوُد , ومات أوريَّا الحِتِّي أيضًا . (سفْر صموئيل الثّاني – الإصحاح الحادي عشر 2 – 17) .
نعم , هكذا يجترِئُ أحبارُ اليهود على أنبياء اللَّه , ويُلْصِقُون بهم أكبر الفواحش , وهم منها بَراء , ويَنشرون هذه الفضائح على صفحات كتابهم المقدَّس , ويدَّعون أنَّ كلَّ ذلك وحيٌ من عند اللَّه !!
فهل يُعقَل أن يزني النَّبيُّ داوُد عليه السَّلام بزوجة أحد جنوده الذي خرج للحرب , ثمَّ يُدبِّر مكيدة لِقتل هذا الجنديّ حتَّى لا يفتضح الأمر ؟!
هل يُعقَل أن تكون هذه أخلاقُ أنبياءٍ اصطفاهُم اللَّهُ من بين خلْقه ليحملُوا رسالاته ويكونُوا قُدوة للنَّاس ؟!!
أبدًا , لا يُعقل ! فالأنبياء جميعُهم , بدون استثناء , هم صَفْوةُ البَشَر , وكانُوا على أفضل خُلُق , وقد شهد اللَّه تعالى لهم بذلك في آيات عديدة من القرآن الكريم .

وأمَّا الأكاذيبُ على اللَّه تعالى , فقد جاء في سفْر التّكوين : وفرغَ اللَّهُ في اليوم السَّابع من عَمَله الذي عَمل . فاستراح في اليوم السَّابع من جميع عَمَله الذي عَمل . وباركَ اللَّهُ اليومَ السَّابع وقدَّسهُ لأنَّه فيه استراح من جميع عَمَله الذي عمل اللَّهُ خالقًا . (سفْر التّكوين – الإصحاح الثّاني 2 – 4) .
فهل يُعقَل أنَّ خالق هذا الكون بِما فيه , يتعبُ مثل البشَر ويحتاج إلى الرَّاحة بعد ستَّة أيَّام من العمل المتواصل ؟!! أبدًا , لا يُعقل ! 

وجاء في سفر التّكوين أيضًا : ورأى الرَّبُّ أنّ شَرَّ الإنسان قد كثُر في الأرض , وأنّ كلَّ تَصَوُّر أفكار قَلبِه إنَّما هو شِرِّيرٌ كلَّ يوم . فحزنَ الرَّبُّ أنَّه عملَ الإنسانَ في الأرض وتأسَّف في قلبه . فقال الرَّبُّ : أمْحُو عن وجه الأرض الإنسانَ الذي خَلَقْتُه : الإنسان مع بهائم ودبَّابات وطيور السَّماء لأنِّي حزنتُ أنِّي عملْتُهم . (سفْر التّكوين – الإصحاح السّادس 5 – 7) .
فهل يُعقَل أنَّ خالق هذا الكون بِما فيه , والعليم بما كان وما سيكون , يحزن ويتأسَّف ويندم أنَّه خلق الإنسان ثمَّ يُقرِّر مَحوه عن وجه الأرض ؟!! أبدًا , لا يُعقل !

وجاء في سفْر الخروج : وقالَ الرَّبُّ لِمُوسى وهارون في أرض مصر ... فإنِّي أجتازُ في أرض مصر هذه اللَّيلة , وأضربُ كلَّ بكْر في أرض مصر من النَّاس والبهائم , وأصنعُ أحكامًا بكلِّ آلهة المصريِّين , أنا الرَّبّ . ويكونُ لكم الدَّمُ علامة على البُيُوت التي أنتم فيها , فأرى الدَّمَ وأعبُر عنكم , فلا يكونُ عليكم ضربة للهلاك حينَ أضربُ أرضَ مصر . (سفْر الخروج – الإصحاح الثّاني عشر 1 – 13) .
أي أنَّ اللّهَ , حسبَ زعم اليهود , يحتاج أن يرى علامةَ الدَّم على بيوت بني إسرائيل , لكي لا يُخطئ ويُعاقبهم أيضًا عندما ينزل لمعاقبة المصريِّين ! تعالى اللَّهُ عَمَّا يقولون عُلُوًّا كبيرًا !!

وجاء في سفْر الخروج أيضًا : وقالَ الرَّبُّ لِموسَى : رأيتُ هذا الشَّعبَ وإذا هو شعبٌ صُلبُ الرّقَبة . فالآن اتْرُكني لِيَحمَى غضَبي عليهم وأُفنيهم فأصَيِّرَك شعبًا عظيمًا . فتضرَّع موسَى أمام الرَّبِّ إلَهه , وقال : لِماذا يا رَبّ يَحْمَى غَضَبُكَ على شعبكَ الذي أخرجْتَهُ من أرض مصر بقُوَّة عظيمة ويَدٍ شديدة ؟ لِماذا يَتكلَّمُ المصريُّون قائلين : أخرجَهُم بِخُبْث لِيَقتُلَهم في الجبال ويُفنيهم عن وجه الأرض ؟ ارجعْ عن حُمُوِّ غَضَبك وانْدَم على الشَّرِّ بشَعبك . واذكُرْ إبراهيمَ وإسحاقَ وإسرائيل عبيدَك الذين حلفْتَ لهم بنَفْسِكَ وقلتَ لهم أكَثِّرُ نسلَكُم كنُجُوم السَّماء وأعطي نسلَكُم كلَّ هذه الأرض التي تكلَّمتُ عنها فيَملكُونَها إلى الأبَد . فندمَ الرَّبُّ على الشَّرِّ الذي قال إنَّه يَفعلُه بِشَعْبه . (سفْر الخروج – الإصحاح الثّاني والثّلاثون 9 – 14) .
فهل يُعقل أنَّ اللَّه الحكيم العليم فكَّر في فعل شيء , فوَعظهُ موسَى وطلب منه العدول عن ذلك , فاتَّعظ اللَّهُ وندم على ما كان سيفعلُه ؟!! بل , هل يُعقل أن يَنسبَ اللَّهُ تعالى إلى نفسه كلَّ هذه النَّقائص , ثمَّ يُنزلُها في توراته المقدَّسة لكي يقرأها موسى على بني إسرائيل , ثمَّ تتناقلُها الأجيالُ من بعده ؟!!
طبعًا لا يُعقل ! ومع ذلك فإنَّ اليهود اليوم يقرأون هذه الأكاذيب , ويُصرُّون على أنَّها كلام اللَّه !!

وجاء في سفْر اللاَّويِّين : وقالَ الرَّبُّ لِمُوسَى : قُل لِهارون : إذا كان رجُلٌ من نَسْلِكَ في أجيالِهم فيه عيبٌ فلا يتقدَّم لِيُقَرِّبَ خُبْزَ إلَهه , لأنَّ كُلَّ رجُل فيه عيبٌ لا يتقدَّم . لا رجُلٌ أعمَى ولا أعرج ولا أفطَس ولا زوائدي . ولا رجُل فيه كَسْرُ رِجْلٍ أو كَسْرُ يَد . ولا أحدَبُ ولا أكثم ولا مَنْ في عينه بياض ولا أجْرب ولا أكْلَف ولا مَرضُوض الخصَى . كلُّ رجُل فيه عَيْبٌ مِن نَسْل هارون الكاهن لا يتقدَّم لِيُقرِّب وَقَائِدَ الرَّبّ , فيه عيبٌ لا يتقدَّم لِيُقرِّب خُبْزَ إلَهه , خُبْز إلَهه مِنْ قُدس الأقداس , ومنَ القُدْس يأكُل , لكن إلى الحجاب لا يأتي , وإلى المذبح لا يقتربُ , لأنَّ فيه عَيْبًا لِئلاَّ يُدنِّسَ مَقدسي لأنِّي أنا الرَّبُّ مُقدِّسُهم . (سفْر اللاَّويِّين – الإصحاح الحادي والعشرون 16 – 23) .
فهل يُعقل أنَّ اللَّه العادل الرَّحيم , لا يقبلُ ذبائح أصحاب الإعاقات الجسديَّة , ويَمنعهُم حتَّى من الاقتراب من المذبح بدعْوى أنَّهم نَجَس ؟!! هل يُعقل أنَّ اللَّه الحليم الكريم , ينظرُ إلى الأعمى والأعرج والأحدب ومكسور اليد أو الرِّجْل , على أنَّهم نَجَس ؟!! أيُّ افتراء هذا على اللَّه سُبحانه وأيُّ اجتراء على جلاله وعظمته ؟!!

وتضمَّنت الأسفار التي ينسبُها اليهود إلى بعض أنبيائهم أكاذيبَ أيضًا على اللَّه لا يقبلُها عقلٌ ولا منطق ! ونكتفي بذكر ثلاثة أمثلة فقط حتّى لا نُطيل :
جاء في سفْر ميخا أنَّ اللَّه تعالى قال عن نفسه : من أجل ذلكَ أنُوحُ وأُوَلْوِلُ , أمشِي حافيًا وعريانًا , أصنعُ نَحيبًا كبنات آوى , ونَوحًا كرعال النَّعام . (سفْر ميخا – الإصحاح الأوّل 8) .
وجاء في سفْر المزامير : فاستيقظَ الرَّبُّ كَنائِم , كجبَّار مُعَيِّط من الخمْر , فضربَ أعْداءَه إلى الوراء , جعلَهم عارًا أبديًّا . (سفْر المزامير – المزمور الثّامن والسّبعون 65) . 
فهل يُعقل أن يُوصَف خالقُ السَّماوات والأرض وكلّ شيء في هذا الكون , بأنَّه يَنوح ويُوَلْولُ ويمشي حافيًا عريانًا , ويستيقظ مثل المخمور ؟!! تعالى اللّه عن قول الظّالمين عُلُوًّا كبيرًا !! 

وجاء في سفر صموئيل الثّاني : هكذا قال الرَّبّ : هائَنَذَا أُقيمُ عليك الشَّرَّ من بيتكَ , وآخُذُ نساءَكَ أمام عَيْنَيْكَ وأُعطيهنَّ لِقَريبِكَ , فيَضْطجع مع نِسائكَ في عَيْن هذه الشَّمس . (سفْر صموئيل الثّاني – الإصحاح الثّاني عشر 11) .
فهل يُعقل أنَّ اللَّه تعالى يُعاقبُ داوُد عليه السَّلام بأن يأخذَ نساءَه ويُعطيهنَّ لِقَريبه لِيَزني بهنَّ !! أيّة وقاحة هذه وأيُّ بُهتان عظيم على اللَّه سبحانه ؟!! 

وبالإضافة إلى الافتراءات على اللَّه تعالى وعلى أنبيائه الكرام , فقد تضمَّنت هذه الأسفار أيضًا قصصًا جنسيَّة يندَى لها جبينُ الحياء خجلاً !! وواللَّهِ إنَّ أيَّ إنسان عاقل لَيستطيع فقط بمجرَّد قراءتها أن يتيقَّن أنّها يستحيلُ أن تكون نصوصًا مُقدَّسة , وأنَّ مكانها الحقيقي هو .. كتُب الجنس !! وسأنقلُ لك سيّدي الفاضل بعض الأمثلة , وأرجو المعذرة لِقُبح ما ستقرأه , ولولا اضطراري للاستشهاد بها لَما سمحتُ لِنَفسي أن أنقلها في هذا الكتاب :
جاء في سفْر حزقيال : وكان إلَيَّ كلامُ الرَّبّ : يا ابنَ آدم , كانت امرأتَان ابْنَتَا أمٍّ واحدة , زَنَتَا بِمصْر في صِبَاهما , هناك دُغْدِغَتْ ثُدِيُّهُما , وهناك تزغْزَغَتْ ترائبُ عُذْرَتهما . واسمُها أهُولة الكبيرة وأهُوليبة أخْتُها ... ولَم تترُكْ زِنَاها من مصر أيضًا لأنّهم ضاجعُوها في صِبَاها وزغزغُوا ترائبَ عُذرتها وسكبُوا عليها زِنَاهُم ... فأتاها بَنُو بابل في مَضْجع الحُبِّ ونَجَّسُوها بزِنَاهُم , فتنجَّستْ بهم وجفَتْهُم نَفْسُها . وكشفَتْ زناها وكشفتْ عورَتها , فجَفَتْها نَفْسي كما جفتْ نَفْسي أخْتَها ... وعشقَتْ مَعشُوقيهم الذين لَحْمُهم كلَحْم الحمير ومَنِيُّهم كَمَنِيِّ الخَيْل ... (سفْر حزقيال – الإصحاح الثّالث والعشرون 1 – 21) .
فهل يُعقَل أن تأتي هذه الجُمل القذرة من اللَّه سُبحانه وتعالى ؟!!
أبدًا , لا يُعقَل !
وهل يجرؤُ رجالُ الدِّين على قراءة هذا الكلام الفاضح في المناسبات الدِّينيَّة , أمام الرِّجال والنِّساء والأطفال ؟!! 
طبعًا لا يَجرؤون على فعل ذلكَ !

وجاء في سفْر الأمثال المنسُوب إلى النَّبيِّ سُلَيْمان عليه السَّلام : هَلُمَّ نَرْتَوِ وُدًّا إلى الصَّباح , نتلذَّذُ بالحبِّ لِأنَّ الرّجُلَ ليس في البيت , ذهبَ في طريق بعيدة . (سفْر الأمثال – الإصحاح السّابع 18 – 19) .
وجاء في سفْر نشيد الأناشيد المنسُوب أيضًا إلى النَّبيِّ سُلَيْمان عليه السّلام : ما أجملَ رِجْلَيْكِ بالنَّعلَيْن يا بنتَ الكريم , دوائرُ فَخذَيْكِ مثل الحليِّ صَنْعَة يَدَيْ صنَّاع , سُرَّتكِ كأسٌ مُدَوَّرة لا يُعْوِزُها شرابٌ ممزوجٌ . بَطْنُكِ صُبرةُ حِنْطَة مُسَيَّجة بالسَّوسن . ثَدْيَاكِ كَخِشْفَتَيْن تَوْأمَيْ ظَبْيَة ... (سفْر نشيد – الإصحاح السّابع 1 – 4) .
باللّه عليكِ سيِّدتي الفاضلة , كيف يُمكنُ لِأمٍّ أن تقرأ هذا الكلام الفاضح على بَنيها وبناتها , دون أن تشعُر بالخجل والاشمئزاز ؟!! بل كيف يمكنُ أن تحتفظَ في بيتها بكتابٍ يحتوي على هذه العبارت الجنسيَّة المخزيَة ؟!!

وجاء في سفْر إشعيا أنَّه قال لبني إسرائيل : أمَّا أنتم فتقدَّمُوا إلى هنا يا بَني السّاحرة , نَسْلَ الفاسق والزَّانية . (سفْر إشعياء – الإصحاح السّابع والخمسون 3) .
وجاء في سفْر حزقيال : فلذلكَ يا زانيَة اسمعي كلامَ الرَّبّ . هكذَا قال السَّيِّدُ الرَّبّ : من أجل أنَّه قد أُنفِقَ نُحاسُكِ , وانكشفَتْ عَورتُكِ بزناكِ بِمُحِبِّيك وبكلِّ أصنام رجاسَتِكِ , ولدماء بَنيكِ الذين بَذَلْتِهم لها , لذلك هائنذا أجمع جميع مُحِبِّيكِ الذين لذَذْتِ لهم , وكلّ الذين أحْبَبتهم مع كلِّ الذين أبْغَضْتِهم , فأجمعُهم عليكِ من حَولِكِ وأكشفُ عَوْرَتَكِ لهم لِيَنظُروا كلَّ عَوْرَتَك . (سفْر حزقيال – الإصحاح السّادس عشر 35 – 37) .
سبحان اللَّه وتعالى عمّا يفترون !! هل تدرين سيِّدتي كيف يُدافعُ الأحبار والرُّهبان عن هذه النُّصوص ؟ 
إنّهم يقولون بأنَّ هذه القصص الجنسيَّة المثيرة للشَّهوة , هي للعبرة والموعظة !!

وجاء في سفْر الملوك الأوَّل : وشاخَ الملِكُ داوُد , تقدَّم في الأيَّام , وكانُوا يُغَطُّونه بالثِّيَاب فلَم يَدفَأ , فقال له عَبيدُه : لِيُفَتِّشُوا لِسَيِّدِنا الملِك على فتاة عَذْراء , فَلْتَقِفْ أمامَ الملِك , ولتَكُن له حاضِنَة , ولْتَضْطَجِعْ في حِضْنِكَ فَيَدْفَأ سَيِّدُنا الملِك . (سفْر الملوك الأوّل – الإصحاح الأوّل 1- 2) .
وجاء في سفْر صموئيل الثّاني : وجرَى بعد ذلك أنَّه كان لِأبشالُوم بن داوُد أختٌ جميلةٌ اسمُها ثامار , فأحبَّها أمْنُون بن داوُد ... ثمّ قال أمْنُون لِثَامار : ائتِ بالطَّعام إلى المخدع فآكُل من يَدِك , فأخذتْ ثامارُ الكعكَ الذي عَمِلَتْه وأتَتْ به أمْنُون أخاها إلى المخْدَع , وقدَّمتْ له لِيَأكُل , فأمسكَها وقال لها : تعالَي اضْطَجِعي معي يا أختي , فقالتْ له : لا يا أخي , لا تُذِلَّني لأنَّه لا يُفعَلُ هكذا في إسرائيل , لا تعملْ هذه القباحة , أمَّا أنا فأينَ أذهبُ بِعَاري , وأمَّا أنتَ فتكُون كَواحد من السُّفهاء في إسرائيل , والآن كلِّم الملِكَ لأنَّه لا يَمنعُني منك , فلَم يَشأ أن يسمع لِصَوتها , بل تَمكَّن منها وقهرها واضطجعَ معها . (سفْر صموئيل الثّاني – الإصحاح الثّالث عشر 1 – 14) .
ألهذا الحدِّ يجترئ أحبار اليهود على أنبيائهم ويُدنِّسون شرفهم وشرف عائلاتهم ؟!! 
لا غرابة إذًا أن ينتشر الزِّنا وشرب الخمر في أُمَّة تقرأ في كتابها المقدَّس أنَّ أنبياءها كانُوا يشربُون الخمر حتَّى الثُّمالة , ويزنُون بأخواتهم وبناتهم وأزواج معارفهم , مِن غير أن يُعاقبهم اللَّه !!
ولا غرابة أن يلعنَ اللَّهُ تعالى اليهودَ في عدّة آيات من القرآن الكريم , ويَصِفهم بأنَّهم المغضوب عليهم ! من ذلك قوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ 64 } (5- المائدة 64) . 
ومن ذلك قوله تعالى : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ 112 } (3- آل عمران 112) .
ومن ذلك قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً 51 أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا 52 } (4- النّساء 51-52) .

فهل يمكنُ أن نصدِّق بعد هذا ما يَدَّعيه اليهود من أنَّهم شعبُ اللَّه المختار , وأنَّهم أحبَّاءُه , وأنَّهم أرفع درجة من الملائكة ؟!

---------------------- 5

هل هذه نصوص مقدّسة ؟!


إضافةً إلى الأكاذيب على اللَّه تعالى وعلى أنبيائه الكرام والقصص الجنسيَّة الفاضحة , تضمَّنت الأسفار التي ينسبُها اليهود إلى أنبيائهم , وأيضًا أسفار الأشعار , نصوصًا لو قرأها طفلٌ صغير لَما صدَّق أنَّها مقدَّسَة !! إليك بعض الأمثلة :
جاء في سفْر الجامعة : لِكُلّ شيء زَمان , ولِكُلّ أمْر تَحتَ السَّماوات وَقْت , للولادة وَقْت وللمَوْت وَقْت , للغَرس وَقْت ولِقَلْع المغْروس وَقْت , للقَتْل وَقْت وللشِّفاء وَقْت , للهَدم وَقْت وللبناء وَقْت , للبكاء وَقْت وللضّحك وَقْت , للنَّوح وَقْت وللرَّقص وَقْت , لِتَفريق الحجارة وَقْت ولِجَمع الحجارة وَقْت , للمعانَقة وَقْت وللانفصال عن المعانقة وَقْت , للكَسْب وَقْت وللخسارة وَقْت , للصّيانة وَقْت وللطَّرح وَقْت , للتَّمزيق وَقْت وللتَّخييط وَقْت , للسُّكوت وَقْت وللتَّكلُّم وَقْت , للحبِّ وَقْت وللبُغْض وَقْت , للحرب وَقْت وللصُّلح وَقْت . (سفْر الجامعة – الإصحاح الثَّالث 1 – 8) .
فهل يُعقَل أن يكون هذا الكلام وحيٌ من عند اللَّه ؟! وما الذي أفاد البشريَّة معرفة ذلك ؟!

وجاءت في سفْر القضاة حكايات خرافيَّة عن بطولات شمشون الجبَّار , لا يُصدِّقها أيُّ عاقل ! مِن ذلك : وذهبَ شَمشون وأمسكَ ثلاث مائة ابن آوَى , وأخذَ مَشاعل وجعلَ ذَنَبًا إلى ذَنَب , ووضعَ مَشعلاً بين كلّ ذَنَبَيْن في الوَسَط . ثمَّ أضرمَ المشاعل نارًا وأطلَقها بين زُروع الفلسطينيِّين , فأحرقَ الأكداسَ والزَّرع وكُرُوم الزَّيتون . (سفر القضاة – الإصحاح الخامس عشر 5 – 6) .
فكيف جمعَ شمشون هذه الثَّعالب , وكيف ربطها ؟!!

ومِن ذلك أيضًا : ووجدَ فَكَّ حِمار طَريًّا فأخذه وضرب به ألفَ رجُل , فقال شَمشون : بِفَكِّ حِمار كُومة كُومَتَيْن , بِفَكَّ حِمار قتلتُ ألْفَ رَجُل . (سفر القضاة – الإصحاح الخامس عشر 15 – 16) .
فماذا كان يحدث لو كان فَكُّ الحمار يابسًا وليس طريًّا ؟!!

وشبيهًا ببطولات شمشون , ما جاء في سفْر الأيَّام الأوَّل عن البطل يشبعام : وهذا هو عددُ الأبطال الذين لِدَاوُد : يَشُبْعام بن حكْمُوني رئيسُ التَّوالث , هو هزَّ رُمْحَه على ثلاث مائة , قتلَهُم دُفعةً واحدة . (الأيَّام الأوَّل – الإصحاح الحادي عشر 11) .
فكيف يا تُرى قتلَ ثلاث مائة بضربة واحدة ؟!! 

وجاء في سفْر اللاَّويِّين تشريعات غريبة بخصوص داء البَرَص ! مِن ذلك : وأمَّا الثَّوبُ , فإذا كان فيه ضَربةُ بَرَصٍ ثَوبُ صوف أو ثَوبُ كتَّان , في السّدى أو اللّحمة من الصّوف أو الكتَّان أو في جلد أو في كلِّ مَصنوع من جلد , وكانت الضَّربةُ ضاربة إلى الخضرة أو إلى الحمرة في الثَّوب أو في الجلد في السّدى أو اللّحمة في مَتاعٍ ما من جلد , فإنّها ضَربةُ بَرَص , فتُعرَضُ على الكاهن . فيرى الكاهِنُ الضَّربة ويَحجِزُ المضروبَ سَبْعة أيَّام ... هذه شَريعةُ ضَربة البَرَص في الصُّوف أو الكتَّان في السَّدى أو اللّحمة أو في كلِّ مَتاع من جلد , للحُكم بطَهارته أو نَجاسته . (سفر اللاَّويِّين – الإصحاح الثَّالث عشر 47 – 59) .
ومِن ذلك أيضًا : مَتَى جئتُم إلى أرض كَنْعان التي أعطيكُم مُلْكًا , وجعلْتُ ضَربةَ بَرَص في بيتٍ في أرض مُلْكِكُم . يأتي الذي له البيتُ ويقولُ للكاهن : قد ظهر لي شِبْهُ ضربةٍ في البيت . فيأمرُ الكاهنُ أن يُفرِغُوا البيتَ قبل دخول الكاهن لِيَرى الضَّربةَ لِئَلاَّ يتنجَّسَ كلُّ ما في البيت , وبعد ذلك يَدخلُ الكاهنُ لِيَرى البيت , فإذا رأى الضَّربةَ , وإذا الضَّربةُ في حيطان البيت نُقَرٌ ضاربةٌ إلى الخضرة أو إلى الحمرة ومَنظرُها أعمَقُ من الحائط , يَخرجُ الكاهنُ من البيت إلى باب البيت ويُغلِقُ البيتَ سبعة أيَّام , فإذا رجع الكاهنُ في اليوم السَّابع ورأى وإذا الضَّربةُ قد امتدَّتْ في حيطان البيت , يأمرُ الكاهنُ أن يَقلَعوا الحجارةَ التي فيها الضَّربةُ ويَطرحُوها خارج المدينة في مكانٍ نَجِس , ويُقَشِّرُ البيتَ من داخلٍ حَوالَيْه , ويَطرحون التّرابَ الذي يُقشّرونه خارج المدينة في مكانٍ نَجِس , ويأخُذون حجارةً أخرى ويُدخِلُونَها في مكان الحجارة , ويأخذُ ترابًا آخر ويُطيّنُ البيت , فإن رجعَتِ الضَّربةُ وأفرخَتْ في البيت بعد قَلْع الحجارة وقَشْر البيت وتَطْيينه , وأتى الكاهنُ ورأى , وإذا الضَّربةُ قد امتدَّتْ في البيت , فهي بَرَصٌ مُفْسِدٌ في البيت , إنَّه نَجِس , فيَهدمُ البيتَ : حجارتَه وأخشابَه وكلَّ تراب البيت ويُخرِجُها إلى خارج المدينة إلى مكانٍ نَجِس ... لكن إن أتى الكاهنُ ورأى وإذا الضَّربةُ لم تَمتدّ في البيت بعد تَطْيين البيت يُطهِّرُ الكاهنُ البيتَ لأنَّ الضَّربةَ قد بَرئَتْ , فيأخذُ لِتَطهير البيت عصفورَيْن وخَشَب أرْز وقِرْمِزًا وزُوفا , ويَذبحُ العصفورَ الواحد في إناء خَزَف على ماء حَيّ , ويأخذُ خشَب الأرْز والزّوفا والقِرْمِزَ والعصفورَ الحيّ , ويَغمسُها في دَم العصفور المذبوح وفي الماء الحيِّ ويَنضِحُ البيتَ سبعَ مرَّات , ويُطهِّرُ البيت بِدَم العصفور وبالماء الحيِّ وبالعصفور الحيِّ وبخشَب الأرْز وبالزُّوفا وبالقِرْمز . ثمَّ يُطلِق العصفورَ الحيّ إلى خارج المدينة على وَجه الصَّحراء ويُكَفّر عن البيت فيَطْهُر , هذه هي الشَّريعةُ لِكُلّ ضربةٍ من البَرَص وللقَرع , ولِبَرَص الثَّوب والبيت . (سفر اللاَّويِّين – الإصحاح الرَّابع عشر 34 – 55) .
فهل سمعتَ سيِّدي الكريم في حياتك بثيابٍ ومنازلَ تُصابُ بالبَرَص ؟! والمصيبة أنَّ هذا الدَّاء إذا انتشر في الحيطان , يُحكَم على البيت بالهدم ! وإذا لَم ينتشر , يُطَهَّرُ البيتُ بالدَّم , في حين أنَّ الدَّم , كما هو معروف اليوم , هو أفضل ناقل للأمراض والبكتيريا !!

وجاء في سفْر العدد تشريعات غريبة بخصوص النَّجاسة والطَّهارة ! مِن ذلك : مَن مَسَّ مَيِّتًا , مَيِّتةَ إنسانٍ مَا , يكونُ نَجِسًا سبعةَ أيَّام , يتطهَّرُ به في اليوم الثَّالث , وفي اليوم السَّابع يكونُ طاهرًا . وإن لم يتطهَّر في اليوم الثَّالث ففي اليوم السَّابع لا يكونُ طاهرًا , كلّ مَن مَسَّ مَيِّتًا , مَيِّتةَ إنسانٍ قد مات , ولم يتطهَّر يُنَجِّس مَسْكَن الرَّبّ . فتُقطَعُ تلكَ النَّفسُ من إسرائيل لأنَّ ماء النَّجاسة لم يُرَشَّ عليها تكونُ نَجِسَة , نجاستُها لم تَزَلْ فيها , هذه هي الشَّريعة : إذا مات إنسانٌ في خَيْمة , فكلّ مَن دخلَ الخيمة وكلّ مَن كان في الخيمة يكونُ نَجِسًا سبعة أيَّام . وكلّ إناء مفتوح ليس عليه سِدادٌ بعصابة فإنَّه نَجِس , وكلّ مَن مَسَّ على وَجْه الصَّحراء قتيلاً بالسَّيْف أو مَيِّتًا أو عَظْم إنسان أو قَبْرًا يكونُ نَجِسًا سبعةَ أيَّام ... وأمَّا الإنسانُ الذي يَتَنجَّسُ ولا يَتطهَّر , فتُبادُ تلك النَّفسُ من بين الجماعة لأنَّه نَجَّس مَقدس الرَّبِّ . ماءُ النَّجاسة لَم يُرَشَّ عليه . إنَّه نَجِس . (سفر العدد – الإصحاح التَّاسع عشر 11 – 20) .
حسب هذا التَّشريع إذًا , فإنَّ مَن ماتتْ له ابنةٌ مثلاً , فبكى عليها وقبَّل وجهها قبل أن تُدفَن أو لامَس يَدها , يُصبحُ نجسًا سبعة أيَّام , ويجبُ أن يتطهَّر في اليوم الثَّالث ! وإذا نسي أن يتطهَّر بسبب الحزن وصعوبة الوضع الذي يَمرُّ به , فإنَّه يُعاقَب بالإبادة والقتل !! وكذلك الحالُ بالنِّسبة لِكُلِّ مَن دخل خيمةً فيها مَيِّت , أو كان سائرًا في الصَّحراء ولامس عظم إنسان أو قبرًا !!
والأغربُ من هذا ما جاء في كيفيَّة التَّطهُّر من النَّجاسة : فيأخذون لِلنَّجِس مِن غُبار حريق ذَبيحة الخَطيَّة , ويجعلُ عليه ماء حيًّا في إناء , ويأخذُ رجُلٌ طاهرٌ زُوفَا ويَغمِسُها في الماء ويَنضحُه على الخيمة وعلى جميع الأمتِعَة , وعلى الأنفُس الذين كانُوا هناك وعلى الذي مَسَّ العظْمَ أو القتيل أو الميِّت أو القبر , يَنضحُ الطَّاهِرُ على النَّجِس في اليوم الثَّالث واليوم السَّابع . ويُطهّرُه في اليوم السَّابع فيغسلُ ثيابهُ ويَرحضُ بِماءٍ فيكونُ طاهرًا في المساء . (سفر العدد – الإصحاح التّاسع عشر 17 – 20) .
فالصُّعوبة هنا هي في إحضار غُبار حريق ذَبيحة الخَطيَّة الذي لا تحصلُ الطَّهارة إلاَّ به . فقد جاء في سفر العدد صفات هذه الذَّبيحة , والتي تجعل من الصَّعب جدًّا الحصول عليها : هذه فريضةُ الشَّريعة التي أمَر بها الرَّبّ : كَلِّمْ بَني إسرائيل أن يأخذُوا إليكَ بَقرةً حَمراء صحيحة لا عَيْب فيها ولَم يَعْلُ عليها نير , فتُعطونها لألِعازار الكاهن , فتُخرَجُ إلى خارج المحلة وتُذبَحُ قُدَّامه ... وتُحرَقُ البقرةُ أمام عَيْنيه , يُحرَقُ جِلْدُها ولَحْمُها ودَمُها مع فَرثِها , ويأخذ الكاهنُ خَشَب أرْز وزُوفا وقِرْمِزًا ويَطرحُهنَّ في وسط حريق البقرة ... ويجمعُ رجُلٌ طاهرٌ رمادَ البقرة ويَضعُه خارج المحلة في مكان طاهر , فتكونُ لِجماعة بَني إسرائيل في حِفْظٍ ماء نَجاسة , إنَّها ذَبيحةُ خَطيَّة . (سفر العدد – الإصحاح التَّاسع عشر 2 – 9) .
فماذَا لو قبَّل رجلٌ جبينَ أمّه الميّتة , ثمَّ لم يَجدْ بقرة حمراء للتَّطهُّر ؟ هل يُقتَل لهذا السَّبب ؟!!

نعم سيّدي الفاضل , سيّدتي الفاضلة , كلُّ هذا موجود في التَّوراة االمحرَّفة ! وبَدلَ أن تَحتوي هذه التَّوراة على نُصوص تحثُّ على فعل الخير والإحسان إلى الغير , نجدُها بالعكس تَحتوي على نصوص تُثير الغرائز الحيوانيَّة , وأخرى تُعلِّمنا كيف يقترفُ الأنبياء الفواحش العظيمة , وأخرى لا تُفيدُنا في أيِّ شيء ! 
والغريب أنَّنا لو بَحثنا في هذه التَّوراة عن ذِكْرٍ ليوم القيامة والحساب والجنةَّ والنَّار , لَما وجدنا فيها أيّ شيء من ذلك !! فما الهدف إذًا من إرسال الأنبياء إلينا , وما الفائدة من فعل الخير واجتناب الشَّرِّ إذا لم يكُن هناك بعد ذلك حساب وجزاء ؟!!

بقي أن نلاحظ أنَّ أسفار التَّوراة الخمسة والأسفار التَّاريخيَّة والأسفار الشِّعريَّة وأسفار الأنبياء , لا يُؤمن بها اليهودُ فقط , وإنَّما النَّصارى أيضًا الذين يعتقدون أنَّ أنبياءَ اللَّه هم الذين كَتبُوها بإلهامٍ من روح القدس ! وقد أقرَّ مجمع ترنت (Concile de Trente) الكاثوليكي ما بين سنة 1545 م وسنة 1563 م , ومجمع بيت المقدس الأرثودوكسي سنة 1672 م , شرعيَّة كلَّ هذه الأسفار ! معنى هذا أنَّ النَّصارى أيضًا يعتقدون أنَّ النُّصوص التي ذكَرْناها , والتي تصف اللَّه تعالى بما لا يليق به , وتجعل من أنبيائه زُناةً وشاربي خمر وقتَلَة , وتتحدَّث عن الجنس القذر , كلُّها نُصوص مُقدَّسة !!

---------------------- 5

لو كان عيسى بيننا لتبرَّأ من أناجيل النَّصارى !


لِماذَا ؟! لِأنَّها ببساطة ليست هي الإنجيل المذكور في القرآن , والذي أنزلَه اللَّهُ عليه . وسأعرض عليك , سيّدتي الكريمة , سيّدي الكريم , فيما يلي العديد من الأدلَّة على ذلك :
يعترفُ النَّصارى أنَّ الأناجيل التي بين أيديهم لَم يكْتُبها عيسى عليه السَّلام ولَم يُمْلِلْها على أتباعه , وإنَّما حرَّرها مُحرِّرُون من الجيل الأوَّل والجيل الثَّاني من النّصرانيَّة , فأصبحتْ تُنسَبُ إليهم ! فهي إذًا من تأليف بَشَر , وبالتَّالي لا يُمكنُ أن تكون هي الإنجيل الذي أنزلهُ اللَّهُ على عيسى عليه السَّلام .
ويعتمدُ النَّصارى اليوم على أربعة أناجيل , هي : إنجيل متى Saint-Matthieu , وإنجيل مرقس Saint-Marc , وإنجيل لوقا Saint-Luc , وإنجيل يوحنَّا Saint-Jean . وهي , مع الرَّسائل الملحَقَة بها , تُكَوِّنُ العهد الجديد Le Nouveau Testament . أمَّا أسفار التَّوراة الخمسة , مع الأسفار المنسُوبة إلى أنبياء بني إسرائيل , فتُسَمَّى العهد القديمAncien Testament . ويُكوِّنُ العهدُ القديم مع العهد الجديد ما يُسمَّى بالكتاب المقدَّس La Bible . 
وقد تتلْمذَ متى ويوحنَّا على السَّيِّد المسيح , أمَّا مرقس ولوقا فلَم يَريَاه . وتُنسَبُ الرَّسائلُ الملْحَقَة بالأناجيل إلى : بولس , وله أربعة عشر رسالة , وهو لم يَلْقَ المسيح , وإلى بطرس ويعقوب ويهوذا ويوحنَّا , وكلّهم صَحِبُوا المسيح عليه السَّلام .
ويعتقدُ النَّصارى أنَّ الأناجيلَ والرَّسائلَ هي كلمةُ اللَّه التي ألْهَمَها الرُّوحُ القدسُ إلى بعض تلاميذ المسيح وتلاميذهم , فكتَبُوها بأمانة , فأصبحتْ كتاباتُهم مُقدَّسة لهذا السَّبب . ويُوضِّحون هذا الأمر قائلين أنَّ اللَّه تعالى اختار هؤلاء التَّلاميذ , فألْهَمَهُم ما يُريد إبلاغه إلى عباده , وعَصَمَهُم من الخطأ في التَّحرير والكتابة , فكَتبُوا الإلهامَ في أناجيل ورسائل , وأصبحتْ هذه الكتابات مُقَدَّسة وتُنسب إلى اللَّه . 

فهل فعلاً هذه الكتابات مُقَدَّسة وخالية من الأخطاء ؟
يقول المؤرِّخُون أنَّ أقدم المخطوطات التي نُسِخَت عنها الأناجيلُ والرَّسائلُ , تعود إلى القرن الرَّابع الميلادي . وهذه المخطوطات ليستْ بِخَطِّ كُتَّاب الأناجيل , وإنَّما بِخَطِّ كُتَّابٍ جاءوا بعدَهم بأكثر من قَرنَيْن من الزَّمان , ولا يُعرَفُ أيّ سَنَد يَصِلُهم بالكُتَّاب الأصليِّين ! أيْ أنَّ إنجيل متى مثلاً , الذي يقرأه النَّصارى اليوم , ليس منسوخًا عن المخطوطة الأصليَّة التي كتبَها متى , وإنَّما منسوخًا عن مخطوطةٍ كتَبها إنسانٌ جاء بعده بأكثر من مائتي سنة , ولا تُعرفُ أيّة علاقة بين الرَّجُلَين !! 
وهذا الأمرُ يكْفي وحدهُ للتَّشكيك في صحَّة نسبة الأناجيل والرَّسائل إلى أصحابها . وحتَّى لو سلَّمْنا بأنَّها منسوبةٌ إليهم فعلاً , فلا أحد يستطيعُ أن يجْزِمَ بأنَّ المخطوطات التي تعود للقرن الرَّابع مُطابقة حرفيًّا للأناجيل التي كَتبها متى ومرقس ولوقا ويوحنَّا !
ويَردُّ النَّصارى على هذا التَّشكيك بأنَّ المخطوطات التي وُجِدتْ عن الأناجيل والرَّسائل تُعَدُّ بالآلاف , وبالتَّالي لا حاجة لِمُقارنتها بالكُتب الأصليَّة التي كَتبها تلاميذ المسيح . 
هذا ما يقولونه , ولكنَّ الذي يُخفُونه أنَّ هذه الآلاف من المخطوطات , على كَثْرتِهَا , ليس بينها مخطوطتان مُتَّفقتان في كلِّ النُّصوص ! نعم , فقد تعرَّضتْ جميعُها إلى الزِّيادة والنَّقص حسبَ مزاج النُّسَّاخ !! ثمَّ تراكمَ هذا التَّبديلُ على مَرِّ القرون حتَّى أصبحت الأناجيل والرَّسائل اليوم مملوءة بالأخطاء !!
وقد قام العديد من المحقِّقين النَّصارى في القرن العشرين بالبحث في كُتب العهد الجديد , فَوصلُوا إلى حقيقة خطيرة وهي أنَّه ليس ثَمَّة أيّ دليل واقعي على صحَّة نسبة الأناجيل إلى أصحابها ! بل إنَّ أكثر الأدلَّة تؤكِّد أنَّ الأناجيلَ الأربعة لا يُمكن أن تكون من تأليف تلاميذ المسيح !! 
نعم , فقد تَوصَّلوا مثلاً إلى أنَّ العديد من نصوص إنجيل متى مُقتَبَسة عن إنجيل مرقس . وهذا يستوجبُ أن يكون متى قد كتبَ إنجيلَه بعد مرقس . لكنَّ التَّاريخ يُثبت أنَّ متى قد عاصر المسيح وصحِبَه , بخلاف مرقس الذي كان عمره وقتها حوالي عشر سنوات ! فكيفَ يَنقُلُ الشَّاهدُ للأحداث عن الغائب الذي لَم يحضُرها ؟!
كذلك , جاء في إنجيل متى : وفيمَا يَسُوعُ مُجتازٌ من هناكَ رأى إنسانًا جالسًا عند مكان الجِبَايَة اسمُه مَتَّى , فقال له : اتْبَعْني , فقامَ وتَبِعَه . (إنجيل متى – الإصحاح التَّاسع 9) . وهذا يدلُّ على أنَّ متى ليس هو كاتب هذا الكلام , لأنَّه لو كان كذلك , لقال : وفيمَا يَسُوعُ مُجتازٌ من هناكَ رآني جالسًا عند مكان الجِبَايَة , فقال لي : اتْبَعْني , فقُمتُ وتَبِعْتُه !
لهذا , نجدُ اليوم العديد من الباحثين النَّصارى ينكرُون صحَّة نسبة إنجيل متى إليه , ويقولون : إنَّه ليس من تأليف الحواري متى , تلميذ المسيح عليه السَّلام , وإنَّما هو لِمُؤلِّفٍ مجهول أخفَى شخصيَّته !

وأمَّا الرَّسائل : فإنَّ أغلَبها يُنسبُ إلى بولس الذي يُعتَبر مؤسِّس النّصرانيَّة المحرَّفة ! وأجدُ من المهمِّ الوقوف قليلاً عند هذا الرَّجل . وُلِدَ بولس لِأبَوَيْن يهوديَّيْن , وكان اسمه شاول , ثمَّ سَمَّى نفسه بولس بعد أن تَنَصَّر . وسبب تنصُّره أنَّه , حسب زعمه , رأى المسيح عليه السَّلام (بعد رفعه إلى السَّماء بسنوات , ولَم يكن رآه من قبل) , فأعطاه حينئذ منصب النُّبوَّة !!
والحادثة رواها بنفسه في أعمال الرُّسل , يقول : ولَمَّا كنتُ ذاهبًا في ذلك إلى دمشق بسُلْطان ووصيَّة من رُؤساء الكَهَنة , رأيتُ في نصْف النَّهار في الطَّريق , أيُّها الملِكُ , نُورًا من السَّماء أفضَل من لَمعان الشَّمس قد أبرقَ حوْلي وحولَ الذَّاهبين معي , فلَمَّا سقَطنا جميعُنا على الأرض سمعتُ صَوتًا يُكَلِّمُني باللُّغة العبرانيَّة : شَاوُل شاوُل , لِماذَا تَضطهدُني ؟ صعبٌ عليكَ أن ترفُس مَناخس , فقلتُ أنا : من أنتَ يا سَيِّد ؟ فقال : أنا يَسُوع الذي أنت تضطَهِدُه , ولكن قُم وقِفْ على رجلَيْكَ , لأنِّي لهذا ظهرتُ لكَ لأنتَخِبَكَ خادِمًا وشاهِدًا بِمَا رأيتَ وبِمَا سأظْهرُ لكَ به , مُنقِذًا إيَّاكَ من الشَّعب ومن الأمَم الذينَ أنا الآن أرسِلُكَ إليهم , لِتَفتحَ عُيُونَهم كيْ يَرجعُوا من ظُلُماتٍ إلى نُور ومن سُلطان الشَّيطان إلى اللَّه حتَّى ينالُوا بالإيمان بي غُفرانَ الخَطايَا ونصيبًا مع المقَدَّسين . (أعمال الرّسل – الإصحاح السَّادس والعشرون 12 – 18) .
ولكنَّ اللاَّفت للانتباه أنَّ هذه الحادثة الهامَّة ذُكِرتْ في عدَّة مواضع من أعمال الرُّسل , لكن بتفاصيل متناقضة ! فقد جاء في هذه الرِّواية أنَّ نورًا أبرقَ حول بولس وحول الذَّاهبين معه , وأنَّهم سقطُوا جميعًا على الأرض , وأنَّه سمع وحده صوتًا .
ولكن جاء في رواية أخرى : وأمَّا الرِّجالُ المسافرُون معه , فوَقَفُوا صامتينَ يسمعُون الصَّوتَ ولا ينظُرونَ أحدًا . (أعمال الرّسل – الإصحاح التَّاسع 7) . فهل سمع بولس الصَّوت وحده أم سمعه الذين معه أيضًا ؟!
وذُكِر هنا أنَّ الذين معه لَم يرَوا شيئًا , ولكن جاء في رواية أخرى : والذين كانُوا معي نَظرُوا النُّور وارتَعَبُوا , ولكنَّهم لم يسمعُوا صوتَ الذي كلَّمَني . (أعمال الرّسل – الإصحاح الثَّاني والعشرون 9) . وهذا معاكسٌ تَمامًا لِمَا جاء في الرِّواية السَّابقة ! وحدثٌ بمثل هذه الأهمِّيَّة في تاريخ النّصرانيَّة لا يُقبَل أن تقع فيه مثل هذه الاختلافات !! 
ثمَّ إنَّ بولس كان قبل تنصُّره شديد العداوة للنَّصارى , وألحقَ بهم ألوانَ العذاب , وهذا بشهادته هو عن نفسه , حيث يقول : فأنا ارتأيتُ في نفسي أنَّه ينبغي أن أصنعَ أمورًا كثيرةً مُضادَّة لاسم يَسُوع النَّاصري . وفعلتُ ذلكَ أيضًا في أورشَليم , فحَبَسْتُ في سُجونٍ كثيرينَ من القِدِّيسينَ آخِذًا السُّلطانَ مِنْ قِبَل رُؤَساء الكَهَنَة , ولَمَّا كانُوا يُقْتَلُون ألقَيْتُ قُرْعَة بذلك , وفي كلِّ المجامع كنتُ أعاقِبُهم مِرارًا كثيرة وأضْطَرَّهم إلى التَّجديف , وإذ أفرَطَ حَنَقي عليهم كنتُ أطرُدُهم إلى المدُن التي في الخارج . (أعمال الرّسل – الإصحاح السَّادس والعشرون 9 – 11) .
فرُبَّما يَقبلُ العقلُ أن يَدخُل بُولس في النّصرانيَّة بعد أن كان شديد العداوة لها . لكن أن يُصبح قدِّيسًا ونبيًّا , فلا ! فجميع الأنبياء عليهم السَّلام لَم يكُونوا كفَّارًا أو معادين للرِّسالات السَّماويَّة الأخرى قبل نُبُوَّتهم .

ويُشَكِّكُ المحقِّقون من ناحية أخرى في نبوَّة بولس وقدِّيسيَّته لأنَّه يستبيحُ الكذب والنِّفاق للوصول إلى غايته , وهذا باعترافه هو حيث يقول : فصرْتُ لليهود كَيَهودي لِأربحَ اليهود , وللّذينَ تحت النَّاموس كأنّي تحت النَّاموس لِأربحَ الذين تحت النَّاموس , وللَّذين بِلا نامُوس كأنّي بِلا نامُوس , مع أنّي لستُ بِلا ناموس للَّه بل تحتَ نامُوسٍ للمسيح , لِأربح الذينَ بِلا ناموس . (كورنثوس 1 – الإصحاح التَّاسع 20 – 21) .
ويأخذه الغرور في موضع آخر , فيقول : ولكنَّها أكثرُ غبطةً إن لَبثَتْ هكذا بِحَسب رأيي . وأظنُّ أنِّي أنا أيضًا عندي روحُ اللَّه . (كورنثوس 1 – الإصحاح السَّابع 40) .
ويُسيء الأدبَ مع اللَّه في موضع آخر , فيقول : لأنَّ جهالةَ اللَّه أحْكَم من النَّاس , وضعفَ اللَّه أقوَى من النَّاس . ( كورنثوس 1 – الإصحاح الأوَّل 25) .
ويستحلُّ المحرَّمات , فيقول : كلُّ الأشياء تَحِلُّ لي لكن ليسَ كُلُّ الأشياء تُوافق . كلُّ الأشياء تَحِلُّ لي لكن لا يتسلَّطُ عَلَيَّ شيء . (كورنثوس 1 – الإصحاح السَّادس 12) .
وقد تَوقَّفنا هنا عند بولس لأنَّ النَّصارى اعتمدُوا على رسائله بالكامل لِبناء عقيدة الصّلب والفداء ! فهل يُعقَل أن يبني ملايينُ البشر عقيدتهم على أقوال شخص ادَّعَى النُّبوَّة وليس له شاهدٌ ولا دليل على ذلك , ولم يتتلمذ على السَّيِّد المسيح عليه السَّلام , ولم يأخُذ منه مبادئ النّصرانيَّة الصَّحيحة , وفوق كلِّ ذلك يكذب وينافق لِيَصل إلى مراده , ويُسيء الأدب مع اللَّه ؟!!
طبعًا , غير معقول ! ومع ذلك فإنَّ النَّصارى اتَّخذُوه مُشرِّعًا لهم !

هذا إذًا ما يقوله المؤرِّخون بخصوص الأناجيل والرَّسائل . أمَّا إذا حاولْنا التَّعمُّق في النُّصوص , فسنجدُ فيها العديد من الأخطاء والتَّناقضات والأقاويل التي لا يُمكن أبدًا نسبتُها إلى اللَّه تعالى , وإلى عبده ورسوله عيسى عليه السَّلام , ولا إلى الحواريِّين الذين صَحبُوا موسى عليه السَّلام وتتلمذُوا على يديه ونَصرُوه . وهذا ما سنبيِّنُه في العنصر الموالي بعون اللَّه .

---------------------- 5

هل هذا إلهامٌ أم قول بشر ؟!


ذكَرْنَا أنَّ النَّصارى يعتقدُون أنَّ متى ويوحنَّا ومرقس ولوقا , أصحاب الأناجيل الأربعة , كَتَبُوا أناجيلَهم بإلْهام من الرّوح القُدس , وعصَمهُم اللَّهُ تعالى من الخطأ في الكتابة . وكذلك الحال بالنِّسبة لِبولس وبطرس ويعقوب ويهوذا , أصحاب الرَّسائل . لكنَّ الغريب أنَّ كلَّ هؤلاء الكتَّاب , ما عدى بولس , لَم ينسبُوا الإلهامَ إلى أنفُسِهم ! بل الأغرب من ذلك : تحدَّثُوا عن أناجيلهم ورسائلهم على أنَّها مجهودٌ بشري بَحْت .
فقد كتب لوقا في مقدِّمة إنجيله : إذْ كان كثيرُون قد أخذُوا بتأليف قصَّةٍ في الأمور المتَيَقَّنَة عندنَا , كَما سلَّمَها إلينا الذينَ كانُوا منذُ البدْء مُعاينينَ وخُدَّامًا للكَلِمَة . رأيتُ أنا أيضًا , إذْ قد تَتبَّعْتُ كلّ شيء من الأوَّل بتَدقيقٍ , أن أكتبَ على التَّوالي إليكَ أيُّها العزيزُ ثاوُفيلُس لِتَعرفَ صحَّةَ الكلام الذي عُلِّمت به . (إنجيل لوقا – الإصحاح الأوَّل 1 – 4) .
فلم يذكُر لوقا في مقدِّمته شيئًا عن الإلهام الإلهي , وإنَّما ذكَر بالعكس أنَّ كتابهُ رسالةٌ شخصيَّة , كَتبها بِدَافع شخصي !

ولو تأمَّلْنا في الرَّسائل لَوَجدنا فيها العديد من المواضيع الشَّخصيَّة التي لا علاقة لها بالوحي أو بالإلهام ! 
فمثلاً , جاء في رسالة بولس : الرِّداءُ الذي تركْتُه في تَرواس عند كارْبُس , أحْضِرْهُ مَتَى جِئْتَ , والكُتُب أيضًا ولا سيَّما الرُّقُوق . (تيموثاوس 2 – الإصحاح الرَّابع 13) .
وجاء في رسالة يوحنَّا : سلامٌ لك , يُسلِّم عليكَ الأحبَّاء , سَلِّم على الأحبَّاء بأسمائهم . (يوحنَّا 3 – الإصحاح الأوَّل 15) .

ولو تأمَّلْنا في الأناجيل والرَّسائل لَوَجدنا فيها أيضًا بعض العبارات التي من المستحيل أن تكون وحيًا !
فمثلاً , جاء في إنجيل لوقا : ولَمَّا ابتدَأ يَسُوعُ كانَ له نَحْو ثلاثينَ سَنَة , وهو , على ما كان يُظَنُّ , ابن يُوسُف بن هالي . (إنجيل لوقا – الإصحاح الثَّالث 23) . فهل يُعقَل أنَّ اللَّه تعالى الذي ألْهَم لوقا في كتابة إنجيله , لا يعرفُ بالتَّدقيق متى ابتدأ يسوع , فقال : نَحْو ثلاثين سنة , ولا يعرفُ نَسبه بالضَّبط , فقال : وهو , على ما كانَ يُظَنُّ , ابن يُوسف ؟!!
وجاء في رسالة بولس : لستُ أقولُ على سبيل الأمر , بل باجْتِهاد آخَرين , مختبرًا إخلاصَ مَحَبَّتكُم أيضًا . (كورنثوس 2 – الإصحاح الثَّامن 8) . فهذا الكلام بالتَّأكيد ليس بإلهام !

ولو تأمَّلْنا في الأناجيل والرَّسائل لَوَجدنا فيها أيضًا أخطاء , شهد التَّاريخُ بخطئها !
فقد جاء في إنجيل متى : فإنَّ ابنَ الإنسان (أي المسيح) سوفَ يأتي في مَجْد أبيه مع ملائكَته , وحينَئِذ يُجازي كُلّ واحد حَسبَ عَمَلِه . الحَقَّ أقولُ لكُم , إنَّ مِنَ القِيَام هَهُنا قومًا لا يَذُوقون الموْتَ حتَّى يَرَوُوا ابنَ الإنسان آتِيًا في مَلَكُوته . (إنجيل متى – الإصحاح السَّادس عشر 27 – 28) .
وجاء في موضع آخر من إنجيل متى : ومَتَى طَردُوكُم في هذه المدينة فاهرُبُوا إلى الأخرى , فإنِّي الحقَّ أقولُ لكُم , لا تُكَلِّمون مُدُنَ إسرائيلَ حتَّى يأتي ابنُ الإنسان (أي المسيح) . (إنجيل متى – الإصحاح العاشر 23) .
وجاء في موضع آخر أيضًا من إنجيل متى : وفيمَا هو جالسٌ على جَبل الزَّيتون , تقدَّم إليه التَّلاميذُ على انفراد قائلين : قل لنا متَى يكونُ هذا وما هيَ علامةُ مَجيئكَ وانقضاء الدَّهر ؟ فأجاب يَسُوع : ... وحينَئذ تَظْهرُ علامةُ ابن الإنسان في السَّماء . وحينَئذ تَنُوح جميعُ قبائل الأرض ويُبصرُون ابنَ الإنسان (أي عيسى) آتِيًا على سَحاب السَّماء بقُوَّة ومَجْد كثير ... الحقّ أقولُ لكُم : لا يَمضِي هذا الجيلُ حتَّى يكون هذا كُلّه . (إنجيل متى – الإصحاح الرَّابع والعشرون 3 – 34) .
ففي هذه النُّصوص , يزعُم كاتب هذا الإنجيل أنَّ عيسى عليه السَّلام أخبر تلاميذه عن قُرب نهاية العالَم , وحدَّدها بأنَّها ستكُون في جيلهم : " لا يَمضِي هذا الجيلُ حتَّى يكون هذا كُلّه " , حتَّى أنَّه ذكَر بأنَّ بعضهم سيكون حاضرًا : " إنَّ مِنَ القِيَام هَهُنا قومًا لا يَذُوقون الموْتَ حتَّى يَرَوُوا ابنَ الإنسان (أي عيسى) آتِيًا في مَلَكُوته " .
ولكنَّ الواقع يشهدُ بأنَّ الجيل الأوَّل انقضَى , وانقضتْ بعده أجيال وأجيال , ومَرَّت أكثر من ألفَيْ سنة , ولم تتحقَّق هذه النُّبوءة المنسوبة كذبًا إلى عيسى عليه السَّلام !
وطبعًا , هذه النُّصوص سبَّبَتْ إحراجًا كبيرًا للنَّصارى , فلم يجدُوا إلاَّ الرَّدَّ بأنَّ المقصود هو قِيَامة المسيح بعد أيَّامٍ مِن صَلْبه ! لكنَّ الذي تجاهلُوه هو أنَّ هذه النُّصوص أشارت بوضوح إلى عودة المسيح في نهاية الزَّمان , وذلك واضحٌ في سُؤال تلاميذه له : " وما هيَ علامةُ مَجيئكَ وانقضاء الدَّهر ؟ " .
ثمَّ إنَّ هذه النُّصوص بَيَّنتْ أنَّ هذا المجيء سيكُون كما يَلي : " ويُبصرُون ابنَ الإنسان (أي عيسى) آتِيًا على سَحاب السَّماء بقُوَّة ومَجْد كثير " . بينَما ذكَرت الأناجيل أنَّ المسيحَ لَمَّا قام بعد صلبه المزعوم , كان مُتَخَفِّيًا , ولَم يأتِ على سحاب بقُوَّة ومَجْد !!

ومن النُّصوص التي شهد التَّاريخُ بِخَطَئِها أيضًا , ما جاء في خاتمة إنجيل مرقس , بعد حديثه عن صلب المسيح وقيامته وظهوره لبعض النَّاس : أخيرًا ظهرَ لِلأحَدَ عَشَر (وهم تلاميذه) وهم مُتَّكِئُون , ووبَّخَ عدَم إيمانِهم وقَسَاوةَ قُلُوبهم لِأنَّهم لَم يُصَدِّقُوا الذين نَظَرُوه قد قام . وقال لهم : اذْهَبُوا إلى العالَم أجْمَع واكْرِزُوا بالإنجيل لِلخَليقة كُلِّها . مَنْ آمَن واعتَمَد خَلص , ومَنْ لَم يُؤمِنْ يُدَنْ . وهذه الآياتُ تَتبعُ المؤمنينَ : يُخرِجُون الشَّياطينَ باسْمِي , ويتكلَّمون بألْسِنَة جديدة . يَحْملُون حَيَّاتٍ , وإن شَربُوا شيئًا مُميتًا لا يَضُرُّهم , ويَضَعُون أيْديهم على المرْضَى فَيَبرأون . (إنجيل مرقس – الإصحاح السَّادس عشر 17 – 18) .
وجاء في موضع آخر من إنجيل مرقس : فتذكَّر بُطْرس وقال له : يا سَيِّدي , انظُر التِّينَةَ التي لَعَنْتَها قد يَبسَتْ . فأجاب يَسُوع : لِيَكُنْ لَكُم إيمانٌ باللَّه لِأنِّي الحقَّ أقولُ لكُم : إنَّ مَنْ قالَ لِهذَا الجبَل انْتَقِلْ وانطَرِحْ في البحر , ولا يَشُكُّ في قَلْبه بل يُؤمنُ أنَّ ما يَقوله يكُون , فَمَهْما قال يكونُ له . لذلكَ أقولُ لكم : كلّ ما تَطْلُبونَه حينَما تُصَلُّون , فآمِنُوا أن تَنالُوه فيكُون لكم . (إنجيل مرقس – الإصحاح الحادي عشر 21 – 24) .
وجاء في إنجيل يوحنَّا : الحقَّ الحقَّ أقولُ لكُم : مَن يُؤمِنُ بي , فالأعمالُ التي أنا أعملُها يَعمَلُها هو أيضًا , ويَعملُ أعظَم منها لأنّي ماضٍ إلى أبي . (إنجيل يوحنَّا – الإصحاح الرَّابع عشر 12) .
ففي هذه النُّصوص يزعُم كاتبُو هذه الأناجيل أنَّ عيسى عليه السَّلام ضمنَ لهم أنَّ كلَّ من يُؤمن به (أي كلّ نصراني) يَستطيعُ صُنعَ المعجزات التي صنَعَها هو , مِن شفاء المرضَى وإحياء الموتى !!
بل ويُؤكِّدُ لهم في نصٍّ آخر أنَّ مَنْ يعجزُ عن فعْل مثل هذه المعجزات , فهو ليس بِمُؤمن !! فقد جاء في إنجيل متى : ولَمَّا جاءُوا إلى الجمْع تقدَّم إليه رجُلٌ جاثِيًا له وقائلاً : يا سَيِّد , ارْحَم ابْني فإنَّه يُصرَعُ ويتألَّم شديدًا ويقعُ كثيرًا في النَّار وكثيرًا في الماء , وأحضَرْتُه إلى تلاميذكَ فلَم يَقْدِرُوا أن يشْفُوه . فأجابَ يَسُوع : أيُّها الجِيلُ غَيْر المؤمن الملْتَوي , إلى مَتى أكونُ معكُم ؟ إلى مَتى أحْتَمِلُكم ؟ قَدّموه إلَيَّ هَهُنا . فانتَهره يَسُوع , فخرج منه الشَّيطانُ , فشُفِيَ الغلامُ من تلكَ السَّاعة . ثمَّ تقدَّم التَّلاميذُ إلى يَسوع على انفراد وقالُوا : لِماذا لم نَقدِرْ نحنُ أن نُخرجَه ؟ فقال لهم يَسوع : لِعَدم إيمانكُم . فالحقَّ أقولُ لكم : لو كان لكُم إيمانٌ مثل حَبَّة خَردَل لَكُنتم تقولون لهذا الجبَل : انْتَقِلْ من هنا إلى هناك , فينتقلُ ولا يكونُ شيءٌ غير مُمكِن لَدَيْكُم . (إنجيل متى – الإصحاح السَّابع عشر 14 - 21) .
ولكنَّ التَّاريخ يَشهد بأنَّ النَّصارى , بِما فيهم الباباوات والقساوسة , لم يستطع أحدٌ منهم أن يفعل ولو معجزة واحدة طوال حياته ! فإمَّا أنَّهم كلّهم ليس في قلْبهم مقدار حبَّة خَردل من إيمان , أو أنَّ ما جاء في الأناجيل ليس بصحيح !!
بل إنَّ النَّصارى ذهبُوا أكثر من ذلك في الافتراء على المسيح عليه السَّلام . فقد جاء في إنجيل يوحنَّا أنَّ المسيح قال : إن كان أحدٌ يحفظُ كلامي , فلَنْ يَرَ الموتَ إلى الأبد . (إنجيل يوحنَّا – الإصحاح الثَّامن 51) . فهلْ يستطيع النَّصارى أن يُخبرونا : لِماذا إذًا مات تلاميذُ المسيح عليه السَّلام , ومات بولس الرَّسول المزعوم , ولَم يُخلَّد أحدٌ من الباباوات ؟!! هل أنَّ أحدًا منهم لم يستطع أن يحفظَ كلام المسيح ؟!!

ومن النُّصوص التي شهد التَّاريخُ بِخَطَئِها أيضًا , ما جاء في إنجيل مرقس : وابتدأ بُطْرس يقول له : ها نحنُ قد تركْنَا كلَّ شيء وتَبعْناكَ . فأجابَ يَسوع : الحقَّ أقول لكُم : ليس أحدٌ تركَ بيتًا أو أخوةً أو أخوات أو أبًا أو أمًّا أو امرأة أو أولادًا أو حقولاً لِأجلي ولِأجل الإنجيل , إلاَّ ويأخذُ مائة ضِعْف الآن في هذا الزَّمان بُيوتًا وأخوةً وأخوات وأمَّهات وأولادًا وحقولاً مع اضطهادات , وفي الدَّهر الآتي الحياة الأبديَّة . (إنجيل مرقس – الإصحاح العاشر 28 - 30) .
فهل يستطيع النَّصارى أن يُفهمونا : كيف يُمكنُ لِأتباع المسيح أن يُصبح لهم مائة ضعف من البيوت والحقول والأخوة والأخوات والأمَّهات والأولاد ؟!! والنَّصُّ واضح الدَّلالة أنَّ هذا التَّعويض يكون في الدُّنيا : " في هذا الزَّمان " . 
طبعًا , لن يستطيعُوا الإجابة لأنَّ التَّاريخ يشهد بأنَّ أتباع المسيح لم ينالُوا شيئًا من كلِّ هذا !

ولو تأمَّلْنا في الأناجيل والرَّسائل لَوَجدنا فيها أيضًا أحداثًا يَرفضها العقل والمنطق !
فقد جاء في إنجيل متى مثلا عن العجائب التي حصلَتْ بعد الصَّلب المزعوم للمسيح : فصرخَ يسُوعُ أيضًا بصَوت عظيم وأسلمَ الرُّوح . وإذا حجابُ الهيكل قد انشقَّ إلى اثنيْن من فوق إلى أسفل , والأرضُ تزلزلَتْ والصُّخورُ تشقَّقتْ , والقبور تفتَّحتْ , وقام كثيرٌ منْ أجساد القِدِّيسين الرَّاقدين , وخرجُوا منَ القُبور بعد قِيَامَته ودخلُوا المدينةَ المقدَّسة وظهرُوا لِكَثيرين . (إنجيل متى – الإصحاح السَّابع والعشرون 50– 53) .
فالحديث عن قيامة كثير من القدِّيسين من قبورهم وظهورهم للنَّاس , هو كذبٌ لا محالة , لأنَّه لو كان وقعَ لتحدَّثتْ به كلُّ الأناجيل نظرًا لأهَمِّيَّته ! ولكنَّ هذا الحدث ذكَره متى فقط ! ثمَّ إنَّه لم يذكُر بعدَه ما كان من أمر هؤلاء القدِّيسين : هل عادوا إلى أهليهم وعاشوا معهم , أم أنَّهم ماتُوا في نفس اليوم ؟!

ولو تأمَّلْنا في الأناجيل والرَّسائل لَوَجدنا بينها تناقضات كثيرة !
فقد جاء في إنجيل مرقس مثلاً عند الحديث عن الصّلب المزعوم للمسيح عليه السَّلام : وأعطَوْه خَمرًا ممزوجةً بِمُرٍّ لِيَشربَ , فلَم يَقبلْ . (إنجيل مرقس – الإصحاح الخامس عشر 23) .
لكنَّ متى نقلَ هذه الجملة عن مرقس , ثمَّ بدَّلَ فيها بعض الألفاظ , فأصبحتْ : أعطَوْه خَلاًّ مَمزوجًا بِمَرارة لِيَشربَ . ولَمَّا ذاق لَم يُردْ أن يَشرب . (إنجيل متى – الإصحاح السَّابع والعشرون 34) .
فأبدلَ متى الخمر بالخَلِّ , والمرّ بِمَرارة !
وجاء في إنجيل مرقس عن آخِر أقوال المسيح عليه السَّلام عند صلبه المزعوم : وفي السَّاعة التَّاسعة صرخَ يَسوعُ بِصَوت عظيم قائلاً : إلُوي , إلُوي , لِمَ شَبَقْتَني (الذي تفسيره : إلَهي , إلَهي , لماذا تَركْتَني ؟!) . (إنجيل مرقس – الإصحاح الخامس عشر 34) .
لكنَّ لوقا لَم تُعجبه هذه الجملة , لأنَّه رأى أنَّها لا تتوافق مع عقيدة الفداء التي تقول بأنَّ المسيح عليه السَّلام صُلِبَ لِيَفتديَ أتباعه , فنقلَها لوقا عن مرقس ثمَّ أبدلَها لِتُصبح : ونادَى يَسوع بِصَوت عظيم : يا أبَتاه , في يَدَيْكَ أسَتَودِعُ رُوحي . (إنجيل لوقا – الإصحاح الثَّالث والعشرون 46) .
وجاء في إنجيل مرقس أنَّ المسيح عليه السَّلام شَفَى رجُلاً أعمَى . يقول مرقس : وجاءُوا إلى أريحَا . وفيما هو خارجٌ من أريحا مع تلاميذه وجَمْع غفير , كان بارتيمَاوس الأعمى ابنُ تيمَاوس جالسًا على الطَّريق يَسْتعطي . فلَمَّا سمع أنَّه يَسوعُ النَّاصري , ابتدأ يَصرخ ويقول : يا يَسوع بن داود ارحَمني . فانتهرهُ كثيرون لِيَسكُت , فصرخ أكثر كثيرًا : يا ابنَ داود ارحَمني . فوقفَ يَسوع وأمَر أن يُنادَى , فنادَوا الأعمى قائلين له : ثِقْ , قُمْ , هُوَذَا يُناديك . فطرح رداءهُ وقام وجاء إلى يَسوع . فسأله يَسوع : ماذا تُريدُ أن أفعل بك ؟ فقال له الأعمى : يا سَيِّدي , أن أبْصِر . فقال له يَسوع : اذْهَبْ , إيمانُكَ قد شَفاكَ . فَلِلْوَقِتِ أبصرَ , وتبعَ يَسوعَ في الطَّريق . (إنجيل مرقس – الإصحاح العاشر 46 - 52) .
لكنَّ متى روى نفس القصَّة , فجعلَ الرَّجل الأعمى رجُلَين اثنَيْن ! يقول : وفيمَا هم خارجُون من أريحَا تَبِعهُ جَمعٌ كثير . وإذَا أعْمَيان جالسان على الطَّريق . فلَمَّا سَمعَا أنَّ يَسوع مُجتازٌ صرخَا قائلَيْن : ارحَمنا يا سيِّدُ يا ابنَ داوُد . فانْتَهرهُما الجمعُ لِيَسكُتا , فكانَا يَصرُخان أكثَر قائلَيْن : ارحَمنا يا سيِّدُ يا ابنَ داوُد . فوقفَ يَسوع وناداهُما وقال : ماذا تريدان أن أفعلَ بكُما ؟ قالا له : يا سيِّدُ , أن تنفتحَ أعيُنُنا . فتحنَّن يَسوعُ ولَمس أعْيُنهما , فَلِلْوقت أبصرتْ أعيُنُهما فتَبعاه . (إنجيل متى – الإصحاح العشرون 29 – 34) .
وجاء في إنجيل متى ذِكْرٌ لِنَسَب المسيح عليه السَّلام على هذا النَّحو : كتابُ ميلاد يَسوع المسيح ابن داوُد ابن إبراهيم . إبراهيم ولَد إسحاق . وإسحاق ولَد يعقوب . ويعقوب ولَد يَهوذا وإخوته ... (إنجيل متى – الإصحاح الأوَّل 1 – 17) .
لكنَّ لوقا ذكَر نسبًا آخر للمسيح مختلفًا عمَّا ذكَره متى , يقول : ولَمَّا ابتدأ يَسوع كان له نحو ثلاثين سنة , وهو على ما كان يُظَنُّ , ابنُ يُوسُف بن هالي بن مَتثات بن لاوي بن ملكي بن يَنَّا بن يُوسف ... (إنجيل لوقا – الإصحاح الثَّالث 23 – 38) .
فهل يُعقَل أنَّ روح القدس , الذي ألهمَ متى ولوقا في كتابة إنجيلَيْهما , اختلطت المعلومات في ذهنه , فأوحى لكلِّ واحد منهما نسبًا مختلفًا ؟! ثمَّ لِماذا لم يذكُر مرقس ويوحنَّا نسَب المسيح ؟! هل أنَّ روح القدس نسيَ أن يُمْلِلْه عليهما أم أنَّه لم يَرَ في ذكْر ذلك أيَّة أهمِّيَّة ؟! وإذا كان الأمرُ كذلك , فكيفَ لنا أن نثق في ما جاء في هذه الأناجيل من أخبار أخرى عن المسيح عليه السَّلام وغيره ؟!

ومن بين التَّناقضات بين الأناجيل أيضًا : اختلافها في أسماء تلاميذ المسيح ! فقد جاء في إنجيل لوقا : ولَمَّا كان النَّهار دعا تلاميذه واختار منهم اثْنَيْ عشر الذين سَمَّاهم أيضًا رُسُلاً : سِمْعان الذي سمَّاه أيضًا بُطرس , وأندراوس أخاه , يعقوب , ويوحنَّا , فيلبس , وبرتولَماوس , متى , وتوما , يعقوب بن حلفَى , وسِمعان الذي يُدعى الغَيُور , يَهوذا بن يعقوب , ويَهوذا الإسخَريُوطي الذي صار مُسَلِّمًا أيضًا . ( إنجيل لوقا – الإصحاح السَّادس 13- 16) .
بينما جاء في إنجيل متى : وأمَّا أسماء الاثنَيْ عشَر رسولاً فهي هذه : الأوَّلُ سِمعان الذي يُقال له بُطرس , وأندراوس أخوه , يعقوب بن زَبْدي , ويُوحنَّا أخوه , فيلبس , وبرتولَماوس , توما , ومتى العشَّار , يعقوب بن حلْفَى , ولبَّاوس الملقَّب تَدَّاوس , سِمعان القانَويّ , ويَهوذا الإسخريوطي الذي أسْلَمه . (إنجيل متى – الإصحاح العاشر 2 – 4) .
فلوقا ذكَر : يهوذا بن يعقوب , بينما ذكَر متى بدلا عنه : لَبَّاوس الملقَّب تدَّاوس ! وذكَر لوقا : سِمعان الذي يُدعى الغَيُور , بينما ذكَر متى : سِمعان القانَويّ !
فأيُّ الأناجيل أصحُّ إذًا ؟!

ومن بين التَّناقضات بين الأناجيل ما ورد في وصيَّة المسيح لتلاميذه . فقد جاء في إنجيل مرقس : ودَعا الاثنَي عشر , وابتدأ يُرسلُهم اثْنَين اثْنَين , وأعطاهم سلطانًا على الأرواح النَّجسة . وأوصاهم أن لا يحملُوا شيئًا للطَّريق غير عصًا فقط , لا مِزْودًا ولا خُبزًا ولا نُحاسًا في المنطقة , بل يكونُوا مَشدُودين بنِعال ولا يلبسُوا ثَوبَين . (إنجيل مرقس – الإصحاح السَّادس 7 – 9) .
ولكن جاء في إنجيل لوقا : ودَعا تلاميذه الاثنَي عشر ... وقال لهم : لا تحمِلُوا شيئًا للطَّريق , لا عصًا ولا مِزْودًا ولا خُبزًا ولا فضَّة , ولا يكون للواحد ثَوبان . (إنجيل لوقا – الإصحاح التَّاسع 1- 3) .
فهل أوصى المسيحُ تلاميذَه بأخذ العصا أم بتركها ؟!
وجاء في إنجيل متى : هؤلاء الاثنا عشر أرسلَهم يَسوع وأوصاهم قائلاً : ... لا تَقْتَنُوا ذَهبًا ولا فضَّة ولا نُحاسًا في مناطقكم , ولا مِزْودًا للطَّريق ولا ثَوبَين ولا أحذيَة ولا عصًا لأنَّ الفاعل مُستحقٌّ طعامه . (إنجيل متى – الإصحاح العاشر 5 – 10) .
فهل أوصى المسيحُ تلاميذَه بأخذ الأحذية أم بتركها ؟!

ومن بين التَّناقضات بين الأناجيل : جاء في إنجيل لوقا : وكان عبدٌ لِقائد مائة مريضًا مُشرفًا على الموت , وكان عزيزًا عنده . فلمَّا سمعَ عن يَسوع أرسلَ إليه شُيوخَ اليهود يسألُه أن يأتي ويَشفي عبدَه . فلَمَّا جاءُوا إلى يَسوع طلبُوا إليه باجتهاد قائلين : إنَّه مُستحِقٌّ أن يُفعَل له هذا لأنَّه يُحبُّ أمَّتنا وهو بَنَى لنا المجمع . (إنجيل لوقا – الإصحاح السَّابع 2 – 6) .
ولكن جاء في إنجيل متى : ولَمَّا دخلَ يَسوعُ كَفْر ناحُوم , جاء إليه قائدُ مائة يطلبُ إليه ويقول : يا سيّد , غلامي مَطروحٌ في البيت مَفلوجًا متعذّبًا جدّا . فقال له يَسوع : أنا آتي وأشفيه . (إنجيل متى – الإصحاح الثَّامن 6 – 7) .
فهل جاء القائدُ بنفسه إلى المسيح أم أرسل إليه شيوخ اليهود ؟!

قد تقول سيِّدي الكريم : ولكنَّ هذه التَّناقضات ليست لها أهمِّيَّة كبيرة . المهمُّ أنَّ القصَّة حدثَتْ فعلاً .
أقول : كلامكَ صحيح لو كنَّا نتحدَّث عن اختلافات بين بشر في رواية أحداث تاريخيَّة . لكن أن تكون هذه الاختلافات في كُتب يَدَّعي النَّصارى أنَّها وحيٌ من عند اللَّه , فهذا الأمر لا يُقبَل أبدًا !!

ومن بين التَّناقضات بين الأناجيل ما ورد في قصَّة إبليس لعنه اللَّه مع المسيح عليه السَّلام . فقد جاء في إنجيل متى : ثمَّ أخذه إبليسُ إلى المدينة المقدَّسة وأوقَفه على جناح الهيكَل , وقال له : إن كنتَ ابنَ اللَّه , فاطرحْ نفسَكَ إلى أسفل لأنَّه مكتوبٌ أنَّه يوصي ملائكتَه بكَ , فعَلَى أياديهم يَحمِلُونك لكي لا تَصدِمَ بِحَجَر رِجْلَك . قال له يَسوع : مكتوبٌ أيضًا : لا تُجَرّب الرَّبَّ إلَهك . ثمَّ أخذهُ أيضًا إبليسُ إلى جبل عالٍ جدًّا وأراهُ جميعَ مَمالِك العالَم ومَجْدها , وقال له : أعطيكَ هذه جميعَها إن خررتَ وسجدتَ لي . (إنجيل متى – الإصحاح الرَّابع 5 – 9) .
ولكن جاء في إنجيل لوقا ترتيبٌ آخر : ثمَّ أصعدهُ إبليسُ إلى جبل عالٍ وأراهُ جميعَ مَمالك المسكونة في لحظة من الزَّمان . وقال له إبليس : لكَ أعطي هذا السُّلطان كلَّه ومَجْدهنَّ لأنَّه إلَيَّ قد دُفع , وأنا أعطيه لِمَن أريد . فإن سجدتَ أمامي يكون لكَ الجميع . فأجابه يَسوع : اذهبْ يا شيطان , إنَّه مكتوبٌ : للرَّبِّ إلَهكَ تسجُد وإيَّاهُ وَحده تعبُد . ثمَّ جاء به إلى أورشَليم وأقامَه على جناح الهيكَل وقال له : إن كنتَ ابنَ اللَّه فاطرح نَفسكَ من هنا إلى أسفل لأنَّه مكتوبٌ أنَّه يُوصي ملائكَته بكَ لكي يحفظوكَ , وأنَّهم على أياديهم يَحملونكَ لكي لا تَصدِم بِحَجر رِجْلَك . (إنجيل لوقا – الإصحاح الرَّابع 5 – 11) .
فهل كانت التَّجربة الأولى على الجبل والثَّانية على جناح الهيكل أم العكس ؟!

ومن بين التَّناقضات بين الأناجيل : جاء في إنجيل مرقس : ثمَّ قام قومٌ وشهدُوا عليه زُورًا قائلين : نحنُ سمعناهُ يقول : إنِّي أَنقُضُ هذا الهيكلَ المصنُوع بالأيادي , وفي ثلاثة أيَّام أبْنِي آخر غير مَصنوع بأيادٍ . (إنجيل مرقس – الإصحاح الرَّابع عشر 57 - 58) . معنى هذا أنَّ المسيح عليه السَّلام لم يقُل هذا الكلام , وأنَّ القوم شهدُوا عليه زورًا .
ولكن جاء في إنجيل يوحنّا : فسألَه اليهود : أيَّة آية تُرينا حتَّى تفعلَ هذا ؟ أجاب يَسوع : انْقُضُوا هذا الهيكل , وفي ثلاثة أيَّام أُقيمُه . (إنجيل يوحنّا – الإصحاح الثَّاني 18- 19) .
وهذا يعني أنَّ المسيح عليه السَّلام قال فعلاً هذا الكلام ! فهل نُصدِّق مرقس أم يوحنّا ؟!

وتنسِبُ الأناجيلُ إلى المسيح عليه السَّلام أقوالاً متناقضة ! 
فقد جاء في إنجيل متى مثلاً أنَّ المسيح مدحَ بطرس , فقال : وأنا أقول لك أيضًا : أنتَ بُطرس , وعلى هذه الصَّخرة أَبْني كنيستي وأبوابُ الجحيم لن تَقْوى عليها . وأعطيكَ مفاتيحَ ملكُوت السَّماوات , فكلّ ما تربطُه على الأرض يكون مربوطًا في السَّماوات , وكلّ ما تَحُلّه على الأرض يكون محلولاً في السَّماوات . (إنجيل متى – الإصحاح السَّادس عشر 18- 19) .
لكن ورد نقيضُ هذا المديح بعد ذلك بأسطر قليلة ! فجاء في نفس الإنجيل ونفس الإصحاح : فالتفتَ وقال لِبُطرس : اذهبْ عنِّي يا شيطان . أنت مَعْثرةٌ لي لأنَّك لا تهتمّ بِمَا للَّه لكن بِمَا للنَّاس . (إنجيل متى – الإصحاح السَّادس عشر 23) .
فأيُّ الأقوال تصدُق في حقِّ بطرس : هل هو رسولٌ أم شيطان ؟! ثمَّ ما هو مصير المسيح عليه السَّلام وقد وصف تلميذه بالشَّيطان , حسب زعم متى , بينما جاء في نفس الإنجيل أنَّ المسيح قال : وأمَّا أنا فأقول لكم : إنَّ كلَّ مَنْ يغضبُ على أخيه باطلاً يكونُ مُستَوجِبَ الحُكْم , ومَنْ قال لأخيه رقَا يكونُ مُستَوجِبَ المجمَع , ومَنْ قال يا أحمَق يكونُ مُستَوجِبَ نار جهنَّم . (إنجيل متى – الإصحاح الخامس 22) .
فإذا كان الذي يقول : يا أحمق , يستَوجِبُ النَّار , فمَا هو إذًا جزاءُ مَن يقول لأخيه : يا شيطان ؟!
طبعًا مصيرُ المسيح عليه السَّلام سيكون إن شاء اللَّه مع النَّبيِّين في أعلى درجات الجنَّة . هذا ما ذكره اللَّه تعالى في القرآن الكريم , وما أكَّده نبيُّه محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في أحاديثه الشَّريفة . أمَّا ما ورد في إنجيل متى من أقوال منسوبة إلى المسيح عليه السَّلام , فهو منها براء ! 

قد تقولين سيِّدتي الفاضلة : ولكن كيف لم يُلاحظ النَّصارى واليهود وجود كلّ هذه الأخطاء في كُتبهم المقدَّسة ؟!
أقول : لأنَّ التَّوراة والأناجيل والرَّسائل وغير ذلك من الكتابات المقدَّسة , لم تكن في البداية في مُتناول عامَّة النَّاس , وإنَّما كانت تنتقل فقط بين رجال الكنيسة وأحبار اليهود ! ثمَّ ظهرت الطّباعة , فبدأت هذه الكتاباتُ تنتشر بين العامَّة في القرن السَّادس عشر , وصاحَبَ ذلك مَوْجةٌ من التَّساؤلات أُمطِرَ بها رجالُ الدِّين ! فراح هؤلاء يبحثُون عن إجابات مقنعة , ولَمَّا لم يجدُوا , أصبحُوا يُردِّدون كلامًا معقَّدًا وغامضًا , لا يفهمه أحد ولا يقبله عقلٌ ولا منطق !!
والغريبُ أنَّ الكثير اليوم من أحبار اليهود ورجال الكنيسة على عِلْم تامٍّ بالأغلاط والتَّناقضات الموجودة في الكتاب المقدَّس . ولكن , عِوَض أن يَدفعهم هذا العلمُ إلى البحث عن مدى صحَّة ديانتهم , أغلقُوا بالعكس عقولَهُم في وجه الحقيقة , فضَلُّوا وأضلُّوا !! 
وإنَّ أيَّ إنسان عاقل ونزيه يستطيع أن يجزم بأنَّ التَّناقضات والأغلاط التي تعرَّضنا لها في هذا العنصر , لا تقبلُ التَّأويل , بل تدلُّ بوضوح على أنَّ الأناجيل والرَّسائل لا يمكنُ أن تكون وحيًا من عند اللَّه , وإنَّما هي من تأليف بشَر ومِن تفكيرهم الخاصّ , ولم يُساعدهم في كتابتها روحُ القُدس كما يدَّعي النَّصارى .
وصدق اللَّهُ العظيم حين أعلن أنَّ كلَّ كتاب يحتوي على تناقضات وأغلاط , لا يُمكنُ أن يكون وحيًا من عنده . يقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا 82 } (4- النّساء 82) . فقد وُجِدتْ فعْلاً الاختلافاتُ والأغلاطُ والافتراءاتُ على اللَّه سبحانه وعلى أنبيائه الكرام , في التَّوراة الموجودة اليوم عند اليهود والأسفار المصاحبة لها , وفي الأناجيل والرَّسائل الموجودة اليوم عند النَّصارى , فهي إذًا من عند غير اللَّه !

---------------------- 5

ولو كان عيسى بيننا لتبرَّأ من النَّصارى !


لِماذَا ؟! لأنَّهم رفعوه عن مكانة العبد الرَّسول , فجعلُوا منه ابنًا للَّه , وعبدُوه , ونَسبُوا إليه أقوالاً وأفعالاً مليئة بالكفر , وهو منها براء !
وقد تتساءل سيِّدي الكريم : ولكن , من أين جاء النَّصارى بعقيدة الصَّلب والفداء والخلاص المذكورة خاصَّة في رسائل بولس وإنجيل يوحنَّا ؟
أقول : أمَّا عن الصَّلب , فقد وقع فعْلاً , وسجَّلَتْهُ كتبُ التَّاريخ ! لكنَّ الذي صُلِبَ حقًّا لَم يكُن المسيح عليه السَّلام وإنَّما أحد تلاميذه , ألقَى اللَّهُ عليه شبَه عيسَى , فأخذه اليهودُ في ذلك الزَّمان وصلَبُوه ووضعُوا الشَّوكَ على رأسه , ظانِّين أنَّه المسيح . ورفَع اللَّهُ عيسى عليه السَّلام إلى السَّماء , وسيعود في آخر الزَّمان , ليس لِيُخلِّص النَّصارى , وإنَّما لِيحكُم بالإسلام ولا يقبل دينًا غيره !
نعم , هذا ما ذكره القرآن ووضَّحه النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وسنتحدّثُ عن هذا الأمر بشيء من التَّفصيل في عناصر لاحقة إن شاء اللَّه . وقد كان بعضُ تلاميذ عيسى عليه السَّلام حاضرين معه عندما رفعَه اللَّه إليه , وهؤلاء بَقوا على دينه الحقّ , يَدعُون إلى ما دعا إليه مِن عبادة اللَّه وحده , ويقولون أنَّ عيسى عبدُ اللَّه ورسولُه , ولم يقولُوا أبدًا بعقيدة الفداء والخلاص ‍‍! 
لكنَّ الذين وقعُوا في الخطأ , هم فريقٌ آخر من النَّصارى أصرُّوا على أنَّ الذي صُلِبَ هو المسيح عليه السَّلام . ولَمَّا لم يجدُوا أيّ تفسير عقائدي لهذا الصَّلب , بَحثُوا في الدِّيانات الوثنيَّة السَّائدة وَقتها , فوجدُوا فيها أنَّ الإلهَ يمكن أن يكون له أبناء وزوجة وشُركاء , وأنَّه يمكن أن ينزل إلى الأرض أو يَبعث إليها مَن يَنُوبه ليُحارب الشَّرَّ ويُخلِّص أتباعه ثمَّ يعود إلى السَّماء , وأنَّ الآلهة المتعدِّدة يُمكن أن تُجمَع في صورة إله واحد ذي عدَّة أقانيم ! ويكفي أن تدرس سيِّدي بعض الآلهة , مثل الفيشنو Vishnou والكرشنا Krishna في الدِّيانة الهندوسيَّة , والبوذا Bouddha في الدِّيانة البوذيَّة , وبعل Baal عند البابليِّين القُدامى , لِتَجد كلَّ هذه المعتقدات !
فاستوحى النَّصارى إذًا من هذه الدِّيَانات مسألة الفداء والخلاص , واستحدثُوا نَظريَّة الخطيئة الموروثة لِتبرير الصَّلْب المزعوم للمسيح , وتبنَّوْها كعقائد وأصبحُوا يَدعُون إليها ! فقد جاء في رسالة يوحنَّا : يا أولادي , أكتبُ إليكُم هذا لكي لا تُخطِئُوا . وإن أخطأ أحدٌ فلَنا شفيعٌ عند الآب , يَسوع المسيح البارّ . وهو كفَّارة لِخَطايانا . ليس لِخَطايانا فقط , بل لِخَطايا كلّ العالَم أيضًا . (يوحنّا 1 – الإصحاح الثَّاني 1 - 2) .
وجاء في رسالة بولس : إذ الجميعُ أخطأوا وأعْوَزَهم مَجدُ اللَّه , مُتَبَرّرينَ مَجَّانًا بِنعْمَتِه بالفِدَاء الذي بِيَسُوع المسيح الذي قدَّمه اللَّهُ كفَّارة بالإيمان بدَمه , لإظهار بِرّه من أجل الصَّفح عن الخطايا السَّالفة بإمهال اللَّه . (رومية – الإصحاح الثَّالث 23 – 25) .
وجاء في رسالة بولس : لأنَّه (أي اللَّه) جعلَ الذي لَم يَعرِفْ خَطِيَّةً (أي المسيح) خَطِيَّةً لأجلنا , لِنَصيرَ نحنُ بِرُّ اللَّه فيه . (كورنثوس 2 – الإصحاح الخامس 21) .
وجاء في إنجيل يوحنَّا : لأنَّه هكَذا أحبَّ اللَّهُ العالَم حتَّى بذلَ ابنَه الوحيدَ لكي لا يَهلك كلّ مَن يُؤمن به بل تكونُ له الحياةُ الأبَديَّة . (إنجيل يوحنّا - الإصحاح الثَّالث 16) .
فعقيدة النَّصارى إذًا تتلخَّص في أنَّ كلَّ إنسان يولَد خاطئًا , وارثًا للخطيئة من أبيه آدم الذي عصى اللَّهَ وأكلَ مِن الشَّجرة المحرَّمة . وأنَّ السَّبيل الوحيد لِمَحْو الخطيئة هو سَفْك دَم . يقول بولس في رسالته إلى العبرانيِّين : وكلُّ شيء تقريبًا يَتطهَّرُ حسبَ النَّاموس بالدَّم . وبدون سَفْك دَم لا تَحصُلُ مَغْفرة . (العبرانيِّين – الإصحاح التَّاسع 22) .
لهذا , بعث اللَّهُ ابنَه الوحيد يَسُوع المسيح لِيُصلَب ويموت , لكي يفتدي خطيئة آدم وخطايا البَشَر ! وكلُّ مَن يُؤمن أنَّ المسيح قام بعد الصّلب , يَخلُص وينجُو من العذاب يوم القيامة ! فقد جاء في رسالة بولس : لأنَّكَ إن اعترفْتَ بِفَمِكَ بالرَّبِّ يَسُوع وآمنتَ بقَلبكَ أنَّ اللَّه أقامَه من الأموات , خَلصْت . لأنَّ القلبَ يُؤمنُ به لِلبرّ , والفَمَ يعترفُ به لِلْخَلاص . (رومية – الإصحاح العاشر 9 – 10) .

فَما فائدة العَمل إذًا بعد هذا ؟!! 
إنَّ هذه العقيدة تتعارض بلا شكّ مع الفطرة والمنطق , ومع صفة العدل عند اللَّه , لأنَّها تُلغي مَبدأ القصاص يوم القيامة وأَخْذ حَقّ المظلوم من الظَّالِم ! بل إنَّها تُشكِّل خطرًا كبيرًا على الإنسانيَّة , لأنَّها تُشجِّع الفرد على فعل ما يُريد بدون قيد أو شرط , دون أن يخاف من العقاب , لأنَّه على كلِّ حال سوف يَخلُص ويَنجُو منه طالَما آمنَ برُبُوبيَّة المسيح وبصلبه وقيامته !!
ولو أنَّ حاكمًا أعلن لِشَعبه أنَّ كلَّ مَن يُؤمن بشَرعيَّته وكفاءته في الحكْم يَستطيع أن يفعل ما يشاء دون أن يُعاقَب , لانقلب المجتمعُ إلى فَوضى , ولانتشر السَّلبُ والنَّهبُ والقتلُ والاغتصاب ‍!
وقد ظهرت آثارُ هذه العقيدة الباطلة فعلاً في كلام بولس , رسول النَّصارى والمشَرِّع لهم , فأصبح يستبيح المحرَّمات ويُحلِّلُها لِأتباعه ! مِن ذلك ما جاء في رسالته : كلُّ شيء طاهرٌ للطَّاهرين , وأمَّا لِلنَّجِسينَ وغير المؤمنين فلَيسَ شيءٌ طاهرًا , بل قد تَنجَّس ذِهنُهم أيضًا وضميرُهم . (تيطس – الإصحاح الأوَّل 15) .
وأباح لهم شُربَ الخمر , فقال في رسالته : لا تكن في ما بعدُ شرَّابَ ماء , بل استعملْ خَمرًا قليلاً من أجل معدتكَ وأسقامِكَ الكثيرة . (ثيموثاوس 1 – الإصحاح الخامس 23) .

وتَجدرُ الملاحظة هنا أنَّ مسألة الخطيئة الموروثة لَم تَرِدْ على لسان أحدٍ من الأنبياء قبل عيسى عليه السَّلام , ولا وُجود لِأيِّ ذِكْرٍ لها في التَّوراة ! فهل يُعقَل أنَّ اللَّه تعالى أخفَى شأنَها عن أنبيائه بالرَّغم من عِلْمِه بأنَّ خلاص البشريَّة لا يَتمُّ إلاَّ بِسَفكِ دَمٍ للتَّكفير عن هذه الخطيئة ؟! وماذا عن مصير البشر الذين جاءوا قبل المسيح إذًا ؟! ولِماذا انتظر اللَّهُ آلاف السِّنين قبل أن يُرسِلَ المسيح لِيُخلِّص البشريَّة ؟! 
وإذا كان المسيحُ جاء فعلاً لهذه المهمَّة , فما معنى ما جاء في إنجيل مرقس عن آخِر أقواله (أي المسيح) عند صلبه المزعوم : وفي السَّاعة التَّاسعة صرخَ يَسوعُ بِصَوت عظيم قائلاً : إلُوي , إلُوي , لِمَ شَبَقْتَني (الذي تفسيره : إلَهي , إلَهي , لماذا تَركْتَني ؟!) . (إنجيل مرقس – الإصحاح الخامس عشر 34) . فإمَّا أنَّه أُرسِلَ مُكْرَهًا أو أنَّه لَم يُرسَلْ أصلاً للفداء !
ثمَّ , هل يَقبلُ العقلُ أن يبذلَ اللَّهُ ابنَه الوحيد المزعوم , لِيُصلَب على خشَبة ويتألَّم ويُهان ويُبصَق في وجهه ويموت , افتداءً لِخطيئة آدم ولِخطايا البَشَر ؟! ألم يكن بإمكان اللَّه , وهو المتصرِّف وحده في كلِّ شيء , أن يَغفر لعباده خطاياهم دون أن يُضحِّي بفلذة كبده ؟! هل يُعقل أن يكون اللَّهُ بمثل هذه القسوة , فيُلقي بابنه إلى الإهانة والعذاب ؟! ومِن أجل ماذا ؟! من أجل حَفنةٍ من البَشَر يعيشُون فوق كوكب صغير لا يُمثِّلُ ذرَّةً في كونه الفسيح !!
واللَّهِ إنَّ عقيدةَ الفداء والخلاص هُراءٌ لا يقبلُه عقلٌ ولا منطق , ولا يليقُ بجلال اللَّه وعدله وحكمته وكماله , سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظَّالمون عُلُوًّا كبيرًا ! 
ثمَّ إنَّ اللَّهَ قد تاب برحمته على آدم وحوَّاء منذ أن كانا في الجنَّة , وانتهَت القضيَّة ! يقول تعالى في القرآن الكريم : { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ 35 فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ 36 فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 37 قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 38 وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 39 } (2- البقرة 35-39) . 
فليس هناك إذًا خطيئةٌ موروثة , وكلُّ إنسان مسؤولٌ فقط عن أفعاله , يقول تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 164 } (6- الأنعام 164) . 

ولم يكتف النَّصارى بتحريف شريعة عيسى عليه السَّلام , بل نسبُوا إليه أيضًا أقوالاً وأفعالاً لا تليق بهذا النَّبيِّ الكريم ! فقد جاء مثلاً في إنجيل يوحنَّا : وفي اليوم الثَّالث كان عُرسٌ في قانا الجليل , وكانت أمّ يَسوع هناك . ودُعِيَ أيضًا يَسوعُ وتلاميذُه إلى العُرس . ولَمَّا فرغت الخَمرُ قالت أمّ يَسوع له : ليس لهم خَمر . قال لها يَسوع : مالي ولَكِ يا امرأة ! لَم تأتِ ساعَتي بَعدُ . (إنجيل يوحنّا – الإصحاح الثَّاني 1 – 4) .
فهل يُعقَل أنَّ المسيح عليه السَّلام يَنهرُ أمَّه بهذه الطَّريقة ؟! 
أبدًا لا يُعقَل , فقد شهد له اللَّهُ تعالى في القرآن الكريم بأنَّه كان بارًّا بوالدته , حيث قال تعالى : { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 30 وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا 31 وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا 32 } (19- مريم 30-32) . 
وهل يُعقَل أنَّ مريم عليها السَّلام تطلبُ من ابنها أن يُحَوِّل الماءَ إلى خَمْر يَشربُه أهلُ العريس ؟! 
أبدًا لا يُعقَل , فقد شهد لها اللَّهُ تعالى في القرآن الكريم بالطَّهارة وعُلُوِّ الدَّرجة , حيث قال تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ 42 } (3- آل عمران 42) . 

ومِن الأقوال المنسوبة زورًا إلى عيسى عليه السَّلام , ما جاء في إنجيل لوقا : وقال لآخر : اتْبَعْني . فقال : يا سَيِّدُ ائذَنْ لي أن أمضي أوَّلاً وأدفِنَ أبي . فقال له يَسوع : دَع الموتَى يَدفِنُون موتاهُم , وأمَّا أنت فاذْهَبْ ونادِ بِمَلكُوت اللَّه . وقال آخرُ أيضًا : أتبعُكَ يا سَيِّدُ ولكن ائذَنْ لي أوَّلاً أن أوَدِّع الذين في بَيتي . فقال له يَسوع : ليس أحدٌ يضعُ يَده على المحراث وينظُر إلى الوراء يَصلحُ لِملكُوت اللَّه . (إنجيل لوقا – الإصحاح التَّاسع 59 – 62) . 
فهل يُعقل أن يَمنعَ نبيُّ اللَّه عيسى عليه السَّلام أحدَ أتباعه من دفن والده , ويَمنع آخر من وداع أهله ؟! 
أبدًا لا يُعقَل , لأنَّ كلَّ الأنبياء كانُوا يَحُثُّون على برِّ الوالدين والإحسان إلى الزَّوجة والأهل . 

ومِن مظاهر إساءة النَّصارى إلى المسيح عليه السَّلام : تَصديقهم لِما أشاعه اليهود من علاقة أمِّه مريم , الطَّاهرة العفيفة , بِرجُلٍ يُدعَى يوسف النَّجَّار , فنَسبُوه (أي نَسَبُوا المسيحَ) إليه . والحقيقة أنَّ عيسى عليه السَّلام خلقهُ اللَّه مِن أمٍّ بلا أب , معجزةً منه , مثلما خلقَ آدمَ عليه السَّلام بدون أب ولا أمّ .

أفلا يكفي كلُّ هذا لكي يتبرَّأ المسيحُ عليه السَّلام من النَّصارى وعقائدهم الباطلة ؟!!

---------------------- 5

كلمة عن إنجيل برنابا


ذكَرْنا أنَّه ظهر في البداية حوالي سبعون إنجيلاً , أمَر إمبراطورُ الرُّوم سنة 325 م بإحراقها , بعد أن اختار مجمعُ الكنائس منها الأربعة المعروفة اليوم . وذكَرْنا أيضًا أنَّهُ أُقِرَّ في هذا المجمع بأنَّ عيسى ابنُ اللَّه , تعالى اللَّهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا ! ولكن ليس كلُّ النَّصارى في ذلك الوقت كانُوا يعتقدُون هذا الاعتقاد , بل كان منهم مُوَحِّدون , يؤمنون بأنَّ اللَّه إله واحد , وأنَّ عيسى عليه السَّلام عبدُه ورسوله . وهؤلاء لَم يَتَبَنَّوْا قرارات المجمع , فضيَّق عليهم إمبراطورُ الرُّوم الخناق , وهدَّم كنائسهُم وشرَّدهم وطردهم من ديارهم ! وبِمُرور السِّنين والقرون , اضمحلَّت مذاهب هؤلاء , ولَم يبقَ من أتباعهم أحدٌ تقريبًا . 
ومِن بين الأناجيل الأولى التي كُتِبتْ , إنجيل برنابا (Barnabé) , كتَبهُ برنابا , واسمه الحقيقي يوسف بن لاوي , أمَّا برنابا فهو لقبٌ أطلَقه عليه الحواريُّون (Les Apôtres) , فقد جاء في سِفْر أعمال الرُّسُل : ويوسف الذي دُعِيَ من الرُّسُل بَرْنابا الذي يُتَرجَم ابن الوَعْظ , وهو لاوي قُبرُسي الجنس . (أعمال الرُّسل – الإصحاح الرَّابع 36) . 
وُلِدَ برنابا بقبرص , وتُوفِّي بها مقتولاً سنة 61 م . وقد عاصَر المسيحَ عيسى عليه السَّلام ورآهُ وصحِبَه , وصحبَ أيضًا مرقس Saint-Marc وقد عُرِفَ برنابا بصلاحه وتَفانيه في الدَّعوة إلى المسيحيَّة , ويشهد له الحواريُّون بذلك , حيثُ جاء في سِفْر الأعمال : فسُمِعَ الخَبرُ عنهم في آذان الكنيسة التي في أورشَليم , فأرسلُوا بَرْنابا لكي يجتاز إلى أنطاكية . الذي لَمَّا أتى ورأى نعمة اللَّه فرحَ ووعظَ الجميعَ أن يثبتُوا في الرَّبِّ بعزم القلب , لأنَّه كان رجلاً صالِحًا ومُمتلئًا من الرّوح القُدُس والإيمان , فانضمَّ إلى الرَّبِّ جمعٌ غفير . (أعمال الرُّسل – الإصحاح الحادي عشر 22 – 24) .
والسَّببُ في وقوفنا هنا عند إنجيل برنابا , هو أنَّه يُخالفُ الأناجيل الأربعة المعروفة اليوم في أمور جوهريَّة , منها أنَّه رَدَّ زَعْم النَّصارى ألوهيَّة عيسى عليه السَّلام , فقال بأنَّه عبدٌ ورسول , ورَدَّ ادِّعاءَهم صَلْبَه , فقال بأنَّه لم يُصلَبْ , وذكر صراحةً في عدَّة مواضع من إنجيله بشارةَ عيسَى عليه السَّلام بِمَجيء النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مِنْ بعده !!
نعم , كلُّ هذا مذكورٌ في إنجيل برنابا , وهو ما يُفسِّرُ صدور أمْرٍ سنة 366 م من البابا دماس الأوَّل (Damase 1er) ثمَّ من باباوات مِن بعده , بعَدم قراءة هذا الإنجيل ! 
وفي دراسة قيِّمة جدًّا للدُّكتور منقذ بن محمود السقار عن كُتُب العهد القديم والعهد الجديد , استعنتُ بها في كتابة العناصر السَّابقة وموجودة على موقع الحقيقة www.alhakekah.com , يذكُر الدُّكتور أنَّ ذِكْرَ إنجيل برنابا اختفَى قُرونًا عديدة , حتَّى عُثِر سنة 1709 م على نُسخة منه مكتوبة بالإيطاليَّة , مُجَلَّدَة وعليها نقوش ذهبيَّة , استقرَّت سنة 1738 م في البلاط الملكي في فيينَّا , عاصمة النّمسا . وقد تُرجِمتْ هذه النُّسخة إلى العربيَّة على يد الأستاذ خليل سعادة .
ويَردُّ بعضُ النَّصارى اليوم بأنَّ النُّسخة الإيطاليَّة من إنجيل برنابا مُزوَّرة , وأنَّ الذي كتبها مسلم !
أمَّا المسلمون فيقولون بأنَّ هذا لا يصحُّ , لأنَّ هذا الإنجيل , وإن كان يُوافق معتقدات المسلمين بخصوص عدم ألوهيَّة عيسى عليه السَّلام , ونجاته من الصّلب , وبشارته بمحمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , إلاَّ أنَّه يحتوي على العديد من الأشياء التي لا يقول بها أيُّ مسلم , مثل وصف اللَّه تعالى بالرُّوح والعجيب والمبارك , واستعمال أسماء ملائكة غير معهودة , مثل : رفائيل وأوريل , والقول بأنَّ السَّماوات تسع !

وعلى كلِّ حال , يبقَى إنجيلُ برنابا في نَظر المسلمين , حالُه مثل حال بقيَّة الأناجيل المعروفة , كلُّها مِن وضْع بَشَر , وليست هي الإنجيل الحقيقي الذي أنزلهُ اللَّه تعالى على نبيِّه عيسى عليه السَّلام , والمذكور في عدَّة مواضع من القرآن الكريم .

---------------------- 5

ما يمكن استخلاصه بخصوص التَّوراة والأناجيل


ما يمكنُ استخلاصُه إذًا من كلِّ ما سَبق هو أنَّ التَّوراة الموجودة اليوم عند اليهود ليست هي التي أُنزِلَتْ على موسى عليه السَّلام , وذلك بشهادة القرآن الذي أعلَن أنَّ التَّوراة الأصليَّة حُرِّفَتْ بعد موت موسى , وبشهادة الباحثين في تاريخ الأديان الذين قالُوا أنَّها أُتْلِفَتْ أثناء الحروب , هذا بالإضافة إلى الأدلَّة التي ذكَرناها والتي لا تتركُ مجالا للشّكّ أنَّ هذه التَّوراة تحتوي على نصوص لا يقبل العقل ولا المنطق أن تكون صادرة عن خالق هذا الكون بِمَا فيه .
كذلك , الأناجيل الموجودة اليوم عند النَّصارى ليست هي الإنجيل الذي أُنزِلَ على عيسى عليه السَّلام , وذلك بشهادة القرآن الذي ذكَر إنجيلاً واحدًا أُنزِلَ على عيسى , بينما نجدُ اليوم أربعة , والبقيَّة أُحرِقَتْ , وبشهادة النَّصارى أنفسهم والمؤرِّخين الغربيِّين الذين يعترفُون أنَّ هذه الأناجيل لَمْ يَكتُبها عيسى ولم يُمْلِلها على أتباعه , وإنَّما كَتبها أُناسٌ بعد موته بأكثر من قرن ونصف , ونَسبُوها إلى تلاميذه من الجيلَيْن الأوَّل والثَّاني , هذا بالإضافة أيضًا إلى الأدلَّة التي ذكَرناها والتي تُبيِّن أنَّ هذه الأناجيل تحتوي على تناقضات عديدة وأقوال باطلة لا يقبل العقل ولا المنطق نسبتها إلى اللَّه سبحانه وتعالى .
لا يَصحُّ إذًا , بأيِّ حال من الأحوال , اعتماد التَّوراة أو الأناجيل أو الرَّسائل المصاحبة لها , كمراجع دينيَّة من عند اللَّه تعالى , ولا يُقبلُ الاستشهاد بها في أيّة مسألة من المسائل .

---------------------- 5

القرآن الكريم , معجزة كلّ الأزمان !


ليس هناك أيّ وَجْه مقارنة بين القرآن الكريم , وبين توراة اليهود وأناجيل النَّصارى , لا في الأسلوب ولا في المحتوى ! فالقرآن كتابٌ مُقدَّس فريدٌ من نوعه , مُعجِزٌ ببلاغته ومحتَوى آياته , وهو دليلُ الإنسان في كلِّ مجالات حياته , في كلِّ البلدان وكلِّ الأزمان إلى قيام السَّاعة ! 
وبخلاف الكُتب السَّماويَّة السَّابقة التي بُدِّلَتْ وحُرِّفت , فإنَّ القرآن قد تكفَّل اللَّهُ سبحانه بحفظه , ليكون شاهدًا على وجود الخالِق , وليكون منهاجًا لِخَلْقِه إلى آخر الزَّمان , لأنَّه لا نبيَّ بعد محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , يقول اللّه تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ 9 } (15- الحجر 9) . والمقصود بالذِّكْر هنا : القرآن الكريم , تعهَّد اللَّهُ بحفظه . فهل يستطيع أيُّ مخلوق بعد هذا أن يُبدِّل أو يحرِّف كلمة واحدة منه ؟!
إطلاقًا ! ولو اجتمعتْ على ذلك الإنسُ والجنّ . فإذا كان اللَّه تعالى قد استطاع بقُدرته حفظَ السَّماوات والأرض من الوقوع منذ مليارات السِّنين , فهل يُعجزهُ أن يَحفظ القرآن من التَّحريف بعد أن تعهَّد بذلك ؟! 
أبدًا ! والدَّليل أنَّك تطوفُ العالَم اليوم شبرًا شبرًا , فلا تجدُ إلاَّ قرآنًا واحدًا , هو بالضَّبط الذي أَنزلَه اللَّهُ تعالى , بواسطة الملَك جبريل عليه السَّلام , على النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم منذ حوالي 1400 سنة .
ثمَّ إنَّ الآيات التي عرضتُها عليك من قبل , والتي تُشير إلى حقائق علميَّة دقيقة لم يستطع العلماءُ الوصول إليها إلاَّ منذ وقت قريب وبعد سنوات من التَّجارب الدَّقيقة والملاحظة المستمرَّة , هذه الآيات لا تَدَعُ مجالاً للشَّكِّ في أنَّ هذا القرآن وحيٌ من عند اللَّه , وأنَّه لم يَدخُلْ عليه أيّ تغيير أو تبديل , وأنَّ كلّ ما جاء فيه حقٌّ . يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ 41 لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ 42 } (41- فصّلت 41-42) . 
ذلك أنَّ اللَّه تعالى لَمَّا بعثَ أنبياءَه أيَّدَهم بمعجزات تتناسب مع أَزْمانهم :
فالنَّبيُّ موسى عليه السَّلام بُعِثَ في عصْرٍ اشتهَر بانتشار السّحْر وتقدُّم السَّحَرة في هذا المجال , فأيَّده اللَّهُ تعالى بعصا , تحوَّلَتْ بإذنه (أي بإذن اللَّه) إلى حيَّة , وأبطَلَتْ حِيَل كبَار السَّحرة . ويَحكي لنا القرآنُ تفاصيل هذه الحادثة بأسلوبه الفريد الذي يشهد لِوَحده أنَّه كلام اللَّه , فيقول متحدِّثًا عن فرعون : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى 56 قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى 57 فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى 58 قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى 59 فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى 60 قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى 61 فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى 62 قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى 63 فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى 64 قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى 65 قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى 66 فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى 67 قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى 68 وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى 69 فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى 70 قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى 71 قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا 72 إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى 73 إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى 74 وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى 75 جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى 76 } (20- طه 56-76) .
فكِبارُ السَّحرة الذين جَمَعَهُم فرعونُ لِنُصْرته رأَوْا بأَعيُنهم , وهم المتخصِّصون في هذا الميدان , أنَّ العملَ الذي قام به موسى عليه السَّلام يستحيلُ أن يكون سحرًا , وإنَّما هو معجزةٌ أيَّده اللَّهُ تعالى بها . فلم يتردَّدوا في الإيمان بموسى وبخالقه , بالرَّغم من تهديد فرعون ووعيده لهم !

وأمَّا النَّبيُّ عيسى عليه السَّلام , فقد بعثه اللَّه تعالى في عصْرٍ تَطوَّر فيه الطِّبُّ , فأيَّده بقُدرات غير عاديَّة على مداواة الحالات المرَضيَّة المستعصِيَة وحتَّى إحياء الموتى , كلُّ ذلك بإذن اللَّه . يقول تعالى مفصِّلاً هذه المعجزة : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ 110 } (5- المائدة 110) . 
كلُّ قُدُرات عيسى عليه السَّلام كانت إذًا معجزات من عند اللَّه تعالى . فإذا كان النَّصارى قد اتَّخَذُوا من هذه المعجزات سببًا لِتَأليه عيسى وادِّعاء أنَّه ابنُ اللَّه , فلماذا لا يكون إبراهيمُ عليه السَّلام كذلك وقد رُميَ في النَّار فخرج منها سالِمًا ؟! ولماذا لا يكون موسى عليه السَّلام كذلك وقد ضَرب البحرَ بعصاه فانفلق إلى نصفين , فاخترقَه هو وأتباعُه فلم يغرقوا , وتبعهم فرعونُ وجنوده فغرقوا ؟! 
بل , هل يَقبل العقل والمنطق أن يكون لِخَالق هذا الكون الهائل ابنٌ أو زوجة ؟! تعالى اللَّه عمَّا يقول الظَّالمون علُوًّا كبيرا !

أمَّا محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقد بعثه اللَّهُ تعالى في عصْر البلاغة والفصاحة , فأيَّده بالقرآن الكريم الذي أَعجز الفُصحاءَ والأدباءَ والشُّعراء في ذلك الوقت . وإذا كانت معجزةُ كلُّ نبيٍّ قد انقطعت بموته , فإنَّ معجزة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم خالدة إلى قيام السَّاعة ! يقول اللَّه تعالى متحدِّثًا عن الكفَّار : { وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ 50 أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 51 قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ 52 } (29- العنكبوت 50-52) .
فالكفَّارُ مِن قَوْم محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم طَلبُوا منه أن يُريهم مُعجزات ملموسة , كما فعل الأنبياء مِن قبله , لِيَتحقَّقُوا أنَّه مبعوثٌ من عند اللَّه . فأجابهم اللَّهُ تعالى بأنَّ القرآنَ الكريم كافٍ وحده ليكُون معجزةً لهم خاصَّة , وللنَّاس عامَّةً في كلِّ الأزمان . 

ولو طلبنا اليومَ من نصراني أن يُرينا كيف كان عيسى عليه السَّلام يُبرئ الأبرص ويُحيي الموتى , لَعَجز عن ذلك . وكذا الحالُ لو طلبنا من يهودي أن يُرينا كيف كانت عصا موسى عليه السَّلام تتحوَّل إلى حيَّة . 
أمَّا لو طلبنا من مسلم أن يُرينا معجزة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فسَيَجِدُها دون تعب ! إنَّها القرآنُ الكريم الذي سَحَر ببلاغته فُصحاء العرب في كلِّ عصر , وبَهَر بمحتواه كلَّ النَّاس . فهو فعلاً مَرْجعٌ في الأخلاق , والعلاقات الاجتماعيَّة , والمعاملات الماليَّة , والقضاء , وأخبار السَّابقين , وأخبار العوالم الأخرى من ملائكة وجنٍّ وشياطين , والأخبار الغيبيَّة عن البعث والحساب . وها نحنُ اليوم في عصر العلم لا نزال حائرين أمام إعجاز القرآن العلمي في مختلف الميادين , وكذلك إعجازه البلاغي والتَّشريعي !

---------------------- 5

كيف أُنزل القرآن الكريم ؟


أُنزلَ القرآنُ وحيًا باللُّغة العربيَّة , مِن اللَّه تعالى على النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , بواسطة الملَك جبريل عليه السَّلام . يقول اللَّه تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ 192 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195 } (26- الشّعراء 192-195) .
ولم ينزل القرآنُ مرَّةً واحدة , وإنَّما نزلَ متفرِّقًا , بحسب الأحداث , على مدى 23 سنة . يقول اللَّه تعالى : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً 106 } (17- الإسراء 106) .
فكان النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يَحفظ ما أُنزل عليه من آيات , ثمَّ يتلُوها على أصحابه , فيَحفظونها في صدورهم ويكتبوها . وكان مِن بين أصحابه مَن كان مُكلَّفًا بكتابة الوحي , مثل : زيد بن ثابت وعبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنهما , فكانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يُملي عليهم ما يَنزلُ عليه من الآيات , فيكْتبوها فَوْر نُزولها . 
ولا يمكن أن نشكَّ في جَوْدة حفْظ النَّبيِّ للقرآن , لأنَّ اللَّه تعالى تكفَّلَ بتحفيظه له ! يقول تعالى مخاطبًا إيَّاه : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ 16 إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ 17 فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ 18 ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ 19 } (75- القيامة 16-19) .
ذلك أنَّ الملَكَ جبريل عليه السَّلام كان يأتي إلى النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم لِيُوحِي إليه آيات جديدة من القرآن , فكان النَّبيُّ يتعجَّلُ في ترديد ما يقرأه عليه الملَك حتَّى لا يَنسى أيَّ حرف منه . فطَمْأنه اللَّهُ تعالى في هذه الآيات بأنَّه تكفَّل بأن يجمع له القرآنَ في صدره فلا ينساه أبدًا , ويُبيِّن له معناه ويُوَضِّحه له . ما عليه إذًا إلاَّ أن يُنْصت إلى الملَك , ثمَّ يقرأ وراءه بكلِّ طمأنينة . 
وكان للنَّبيِّ بعد ذلك موعدٌ سنوي مع جبريل عليه السَّلام , لِيَعرض عليه ما نزل حتَّى ذلك اليوم من القرآن . فقد روى الإمام أحمد في مُسْنَده عن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنه , قال : كان رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يعرضُ القرآن في كلِّ رمضان على جبريل , فيُصبحُ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مِن لَيْلَته التي يعرضُ فيها ما يعرض وهو أَجْوَد من الرِّيح المرْسَلَة , لا يُسألُ عن شيء إلاَّ أعطاه , حتَّى كان الشَّهر الذي هلكَ (أي تُوفِّيَ) بعده , عرضَ فيه عرضَتَيْن (أي مرَّتين) . (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 1 – ص 326 – رقم الحديث 3012) .
ولَم ينزل القرآنُ بالتَّرتيب الحالي الذي نَعرفُه اليوم , وإنَّما كانت الآيات تنزلُ بِحَسَب الأحداث , فكان النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يقول لِكُتَّاب الوحي : ضَعُوا الآية كذا في موضع كذا من السُّورة كذا . 
فقد روى الحاكم في مُستدركه عن عثمان بن عفَّان رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم كان يأتي عليه الزَّمان تنزلُ عليه السُّوَر ذوات عدد , فكان إذا نزلَ عليه الشَّيء يَدعُو بعضَ مَن كان يكتبُه , فيقول : ضَعُوا هذه في السُّورة التي يُذكَر فيها كذَا وكذَا , وتنزلُ عليه الآية فيقولُ : ضَعُوا هذه في السُّورة التي يُذكَر فيها كذَا وكذَا . (المستدرك على الصّحيحين – الجزء 2 – ص 241 – رقم الحديث 2875) .
ولَمَّا تُوفِّيَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , كانَ المئاتُ من الصَّحابَة يحفظون القرآن كاملاً عن ظهر قَلْب . لكن وقعت معركةٌ شديدة في عهد الخليفة الأوَّل أبي بكر الصِّدِّيق , بين المسلمين وبين بعض العرب الذين التفُّوا وراء رجُلٍ اسمه مُسَيْلمة , ادَّعَى النُّبوَّة . فاستُشهِد في هذه المعركة , وهي معركة اليمامة , عدد كبير من حُفَّاظ القرآن , مِمَّا دَفعَ بالصَّحابي عمر بن الخطَّاب أن يَطلب من أبي بكر أن يَجمع القرآنَ في مصحف واحد مكتوب .
فقد روى البَيْهقي في سُنَنه عن زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه , قال : بعثَ إليَّ أبو بكر رضي اللَّه عنه , مَقْتَل أهل اليمامة (أي إثر معركة اليمامة) , وعندهُ عُمَر (بن الخطَّاب) رضي اللَّه عنه . فقال أبو بكر : إنَّ عُمَر أتاني فقال : إنَّ القتل قد استحر (أي اشتدَّ وكَثُر) يَومَ اليمامة بقُرَّاء القُرآن , وإنِّي أخشَى أن يستحر القتلُ بقُرَّاء القرآن في المواطن كلِّها (أي في المعارك الموالية مع الكفَّار) فيذهب قرآنٌ كثيرٌ , وإنّي أرى أن تأمرَ بِجَمع القرآن . قلتُ : كيف أفعلُ شيئًا لَمْ يفعلْهُ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ؟! فقال عمر : هو واللَّهِ خير . فلَمْ يَزلْ عُمَر يُراجعُني في ذلك حتَّى شرحَ اللَّهُ صدري لِلَّذي شرحَ له صدْرَ عُمَر , ورأيتُ في ذلك الذي رأى عُمَر .
قال زيد : ثمَّ قال لي أبو بكر : وإنَّك رجلٌ شابّ عاقل , لا نتَّهمُك , قد كنتَ تكتبُ الوحيَ لِرسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فَتَتَبَّعِ القرآنَ فاجمعهُ . 
فَوَاللَّهِ لَو كَلَّفَني بنَقْلَ جبل من الجبال ما كانَ بأثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كلَّفني من جمع القرآن ! فقلتُ : كيفَ تفعلان شيئًا لَمْ يفعلْهُ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ؟! فقال أبو بكر : هو واللَّهِ خير . فلَمْ يَزلْ يُراجعُني في ذلك حتَّى شرحَ اللَّهُ صدري لِلَّذي شرح له صدْرَ أبي بكر وعُمر , ورأيتُ في ذلك الذي رأيَا . فتتبَّعتُ القرآنَ أجمعهُ من العسب والرِّقاع واللِّخاف وصدور الرِّجال , فوجدتُ آخر سورة التَّوبة : { لقد جاءكُم رسولٌ من أنفُسكُم ... } إلى آخر السُّورة , مع خُزيْمة وأبي خُزيمة , فألحَقْتُها في سورتها . فكانت الصُّحُف عند أبي بَكر حياتَه , ثمَّ عند عُمَر حياتَه حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّه , ثمَّ عند حفصة بنت عُمَر . (سنن البيهقي الكبرى – الجزء 2 – ص 40 – رقم الحديث 2202) .
قال ابنُ حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري : كان القرآنُ قد كُتِبَ كلّه في حياة النَّبيّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , ولكنَّه لَم يَكُن مجموعًا في مكان واحد .
فلَمَّا اختِيرَ زيدُ بن ثابت لِجمع القرآن , وكان أحد كتَّاب الوحي الممَيَّزين في حياة النَّبيّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وكان يحفظُ القرآن كاملاً , استعانَ في مهمَّته الثَّقيلة هذه بثلاثة آخرين من حُفَّاظ القرآن المعروفين بأمانتهم . وبالرَّغم من أنَّهم الأربعة كانُوا يحفظون القرآن عن ظهر قلب , إلاَّ أنَّ زيدًا , زيادةً في الحيطة , كان خلال جمعه للقرآن لا يَقبلُ إلاَّ ما كُتِبَ في حياة النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وشهد شاهدان ثقات بصحَّته .
تَمَّ جمعُ القرآن إذًا في مصحف واحد في عهد الخليفة الأوَّل أبي بكر الصِّدِّيق , وبقي كذلك في عهد الخليفة الثَّاني عمر بن الخطَّاب . فلمَّا تولَّى عثمانُ بن عفَّان الخلافة بعد عُمَر , كلَّف زيدَ بن ثابت بجمع القرآن مرَّة ثانية , ثمَّ بعثَ نُسَخًا منه إلى أنحاء الدّولة الإسلاميَّة . والسَّببُ في ذلك ما رواه النّسائي في سُنَنه عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه , أنَّ حُذَيْفة (بن اليَمان) قدم على عثمان (بن عفَّان) , وكان يُغازي أهل الشَّام مع أهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان , فأفزعَ حُذَيفةَ اختلافَهم في القرآن , فقالَ لِعُثمان : يا أمير المؤمنين , أدْرِكْ هذه الأمَّة قبل أن يختلِفُوا في الكتاب كما اختلفَت اليهودُ والنَّصارى ‍! فأرسلَ عُثمانُ إلى حَفصة أن أرسلِي إلينا بالصُّحُف ننسخُها في المصاحف ثمَّ نَرُدُّها إليكِ . فأرسلَتْ بها إليه , فأمَر زيدَ بن ثابت , وعبد اللَّه بن الزُّبير , وسعيد بن العاص , وعبد الرَّحمن بن الحارث بن هشام , أن يَنسخُوا الصُّحُف في المصاحف , فإن اختلفُوا وزيدَ بن ثابت (أي إن اختلف الثَّلاثة القُرَشيُّون مع زيد) في شيء من القرآن , فاكتبوهُ بلسان قُرَيْش , فإنَّ القرآنَ نزلَ بلسانهم . ففعلُوا ذلك , حتَّى إذا نَسخُوا الصُّحُف في المصاحف , رَدَّ عُثمانُ الصُّحُفَ إلى حفصة , وأرسلَ إلى كُلِّ أُفُقٍ مُصحفًا مِمَّا نسخُوا . (السّنن الكبرى – الجزء 5 – ص 6 – رقم الحديث 7988) .
والاختلاف الذي ذكَره حُذَيْفة هنا في القرآن , هو اختلاف اللَّهجات بين أهل الحجاز وأهل سوريا وأهل العراق . وكلُّ مَن يجوبُ الأقطارَ العربيَّة اليوم يُلاحظ اختلافَ العرب في نُطق بعض الحروف , مثل القاف , والجيم , وغيرهما . وهذا ما دعا الخليفةَ عثمان بن عفَّان رضي اللَّه عنه أن يجمع القرآن مرَّة ثانية . وكُلِّفَ زيدُ بن ثابت مرَّة أخرى بهذه المهمَّة الثَّقيلة مع ثلاثةٍ من الصَّحابة , وجُمِع القرآنُ مرَّة أخرى في مصحف واحد سُمِّيَ بِمُصحف عثمان . ثمَّ وقعَت كتابة بعض النُّسخ منه , أرسِلَتْ إلى الكوفة , والبصرة , وسوريا , وقيل : وأيضًا إلى اليمن , والبحرين , ومكَّة . واحتفَظَ عثمان بنسخة في المدينة , ونسخة أخرى في بيته .
ومنذ ذلك اليوم , أصبحت هذه النُّسخة من مُصحف عُثمان هي النُّسخة الوحيدة المعتَمَدة في طبع القرآن في كلِّ بقاع العالم .
هكذا إذًا أُنْزلَ القرآن , وهكذَا حفظه اللَّه تعالى من التَّحريف والزّيادة والنُّقصان , وسيبقَى محفوظًا إلى يوم القيامة .

---------------------- 5

لماذا ترك الفَنَّ والشُّهرة واعتنق الإسلام ؟!


نختم هذا الجزء بقصَّتين واقعيّتين :
القصَّة الأولى في إسلام السَّيِّد Cat Stevens , المغنِّي الانجليزي الذي اشتهر نجمُه في موسيقى البوب (pop music) في بداية السَّبعينات , والذي أَطلق على نفسه بعد إسلامه اسم يوسف إسلام . 
يقول Cat : كانت أسرتي تَدينُ بالمسيحيَّة , فتربَّيْتُ على تلك الدِّيانة , وتعلَّمتُ أنَّ اللَّه موجود ولكن لا يُمكنُنا الاتِّصالُ به مباشرة , بل لا بُدَّ أن يكون ذلك عن طريق عيسى عليه السَّلام ! وبالرَّغم من اقتناعي الجزئي بهذه الفكرة إلاَّ أنَّ عقلي لم يتقبَّلْها بالكُلِّيَّة ! وكنتُ أنظرُ إلى تماثيل النَّبيِّ عيسى , فأراها حجارةً لا حياة فيها ! وكانت عقيدةُ التَّثليث تُحيِّرُني وتُقلقُني , ولكنَّني لم أكن أناقشُها احترامًا لِمُعتقدات والديَّ .
ثمَّ بدأتُ أبتعدُ شيئًا فشيئًا عن نشأتي الدِّينيَّة , وانخرطتُ في مجال الموسيقى والغناء , وكنتُ أطمحُ أن أُصبحَ مغنِّيًا مشهورًا . وأخذَتْني تلك الحياة البرَّاقة بِمَباهجها ومفاتنها , فأصبحَتْ هي إلهي , وأصبح الثَّراءُ المطلَق هو هدفي . وبالطَّبع , كان للمجتمع من حولي تأثيرٌ بالغ في ترسيخ هذه الفكرة بداخلي , حيثُ أنَّ الدُّنيا كانت تعني لهم كلّ شيء .
وانغمستُ في هذه الحياة بكلِّ طاقتي , وقدَّمتُ الكثير من الأغاني , وحققَّتُ نجاحًا واسعًا خلال فترة قصيرة , وأصبحتُ نجمًا عالَميًّا وأنا لَمْ أتَعَدَّ التَّاسعة عشر من عمري ! ووصلَتْ مُعظَم أغانيَّ إلى قمَّة المسابقات العالميَّة في أواخر السِّتِّينات وأوائل السَّبعينات , وحقَّقَتْ ألبُوماتي نجاحًا تجاريًّا وأرقامًا قياسيَّة في المبيعات , واجتاحتْ صُوَري وأخباري وسائل الإعلام المختلفة . ولَم يكنْ يشغلُني طوال تلك الفترة سوى الحصول على المال والشُّهرة والمجد , مِمَّا أنساني الدِّينَ تَمَامًا .
بعد مُضيِّ عام تقريبًا من النَّجاح المادِّي وتحقيق الشُّهرة , أُصِبْتُ بمرض السُّلّ ودخلتُ المستشفَى لِفتْرة طويلة . وكانت هذه الأزمة فرصة لي لِأَتأمَّل في حالي وأُعيد التَّفكير في هدفي في هذه الحياة . فبدأتُ أقرأُ في الدِّيانات الشَّرق آسيويَّة التي كانت سائدة في ذلك الوقت , وبدأتُ لِأوَّل مرَّة أُفكِّر في الموت . وأهمُّ ما توصَّلتُ إليه في تلك المرحلة أنَّني لستُ جسدًا فقط , وإنَّما أنا جسدٌ وروح , وأنَّه لا بُدَّ أن يكون هناك انسجامٌ بين الاثنين .
بعد شفائي من مرضي , عدتُ إلى عالَم الموسيقى والغناء ثانية , ولكن في هذه المرَّة بدأَتْ أغانيَّ تعكسُ أفكاري وقَناعاتي الجديدة . وازدادَتْ شُهرتي في هذا الميدان , ولكنَّني كنتُ أعاني في نفس الوقت من صراع داخلي لأنَّني كنتُ أبحثُ عن الحقيقة . 
واقتنعتُ وقْتَها أنَّ البوذيَّة قد تكون عقيدة نبيلة وراقية , ولكنَّني لَم أكُن مستعدًّا أن أتفرَّغ للعبادة وأنعزل عن العالَم , لأنَّني كنتُ متعلِّقًا بالدُّنيا . فحاولتُ أن أجد ضالَّتي في علْم الأبراج والأرقام , ثمَّ في معتقدات أخرى , ولكنَّني لم أقتنع بأيّ شيء منها . ولم أكنْ حتَّى تلك اللَّحظة أعرفُ شيئًا عن الإسلام .
وصادفَ أن سافر أخي الأصغر David إلى القُدس , وعاد مبهورًا بالمسجد الأقصى وبالحيويَّة التي تعجُّ بين جَنَباته , على خِلاف الكنائس المسيحيَّة والمعابد اليهوديَّة التي دائمًا ما تكون خاوية ! وأحضَر لي أخي من القُدس نسخة مُترجَمة لِمعاني القرآن الكريم بالانجليزيَّة . وعلى الرَّغم من أنَّه لَم يَعْتنق الإسلام , إلاَّ أنَّه أحَسَّ بشيء غريب تُجاه هذا الكتاب , وتَوَقَّع أن يُعجبَني وأن أجد فيه ضالَّتي . 
فقرأتُ الكتاب , ووجدتُ فيه فعلاً ما كنتُ أبحثُ عنه : وجدتُ فيه أجْوبَة عن حقيقة الكون , وأصل البشريَّة , ومن أين أتيتُ , والهدف من الحياة . وعندها أيقنتُ أنَّ الإسلام هو الدِّين الحقُّ , وأنَّ حقيقته تختلف عن فكرة الغرب عنه , وأنَّه ليس مجرَّد طقُوس لِكبار السِّنِّ مثل المعتقدات الأخرى . 
وأدركتُ أنَّ كلَّ شيء هو مِن خَلْق اللَّه وصُنعه , وأنَّ اللَّه لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم , وأنَّه أرسلَ الأنبياء برسالة واحدة . ووجدتُ في القرآن ردُودًا منطقيَّة ومعقولة عن ادِّعاء النَّصارى أنَّ عيسى ابنُ اللَّه . وأُعجبتُ بأسلوب هذا الكتاب في دعوته إلى التَّفكُّر والتَّأمُّل وإعمال العقل للوصول إلى الحقيقة , واقتنعتُ أنَّه ضالَّتي المنشودة , وضعَها اللَّهُ في طريقي . 
لَم أعتنق الإسلام وقْتَها , ووجدتُ صعوبة في ذلك لأنَّ كلَّ مَن حولي كانُوا لا يعرفُون شيئًا عن هذا الدِّين . ثمَّ فكَّرتُ في الذّهاب إلى القُدس , مثلما فعل أخي , لزيارة المسجد الأقصى . فسافرتُ إلى هناك , وبين جَنَبات هذا المسجد المهيب قرَّرتُ الدُّخول في الإسلام . فعدتُ إلى لندن , وقابلتُ أختًا مسلمة اسمُها نفيسة , وأخبرتُها برغبتي في اعتناق هذا الدِّين . فدلَّتْني على أحد أكبر المساجد في بريطانيا , وكان ذلك سنة 1977 م , بعد حوالي سنة ونصف من بداية قراءتي لترجمة معاني القرآن الكريم . ويوم الجمعة , بعد الصَّلاة , اقتربتُ من الإمام ونطقتُ بالشَّهادتين بين يديه .
والآن , أصبحتُ أستطيع أن أدعو اللَّه مباشرة في كلِّ وقت , على خلاف المسيحيَّة والدِّيانات الأخرى ! وأذكرُ أنَّ سيّدةً هندوسيَّة قالتْ لي يومًا : نحنُ نؤمنُ بإله واحد , ولكنَّنا نستخدمُ هذه التَّماثيل للتَّركيز ! معنَى كلامها أنَّه يجبُ أن تكون هناك وسائط لِتَصِلَنا باللَّه ! لكنَّ الإسلام أزال كلَّ هذه الوسائط والحواجز .
بعد إسلامي , شعرتُ براحة نفسيَّة كبيرة , وتخلَّصتُ من أفكاري المتناقضة والتي لا حصر لها , وصار الطَّريقُ واضحًا أمامي . وقطعتُ على نفسي عهدًا أن أُسَخّر حياتي لخدمة هذا الدِّين والدَّعوة إليه ونَقْل تجربتي للآخرين .

هذه إذًا قصَّة إسلام السَّيِّد Cat Stevens الذي وُلِدَ في 21 يوليو 1948 م من أب يوناني وأمّ سويديَّة , وهو يُسمَّى اليوم يوسف إسلام . وقد تعدَّدت نشاطاتُه بعد إسلامه , حيثُ أنشأ عام 1986 م جمعيَّة للمعونة الإسلاميَّة , وتولَّى رئاسة أربع جمعيَّات تهتمُّ بالتَّعليم وحقوق الإنسان , وصار أحد أبرز أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى في بريطانيا , وتولَّى مهمَّة تصحيح العديد من المفاهيم الغربيَّة الخاطئة عن الإسلام .
أنشأ مدرسة إسلاميَّة في كيل بورن , شمال لندن , لتعليم الأطفال القرآنَ والسُّنَّة وكيفيَّة أداء العبادات الإسلاميَّة . ونتيجة لنشاطاته ومَركزه , فقد قبلَت الحكومة العراقيَّة وَساطَته أثناء اندلاع حرب الخليج الأولى , وأفرجتْ عن أربعة أسرى إنجليز . كما وافقَت الحكومتان السّعوديَّة والكويتيَّة إقامة مُخيَّمات على حدودهما لِفَريقٍ من دُعاة السَّلام , على رأسهم يوسف إسلام . قام بالعديد من الزِّيارات إلى البُوسنة , وعقَدَ العديد من الحفلات الدِّينيَّة في سَراييفُو .
تحوَّل إلى الإنشاد الدِّيني , وأصدر ألبومًا أوَّلاً تضَمَّن أغنيةً عن النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . ثمَّ أصدر ألبومًا آخر سنة 1997 م عن مأساة حرب البُوسنة . سجَّل أيضًا عددًا من الأغاني الإسلاميَّة للأطفال , وُزِّعتْ منها ملايين النُّسَخ في العالَم الغربي والإسلامي . (نقلاً , مع تصرّف بسيط في سرد القصَّة , عن موقع مجلَّة رياض الجنَّة www.nozhanet.net , وعن موقع الشَّبكة الإسلاميَّةwww.islamweb.net) .

---------------------- 5

هكذا أوصله عقلُه إلى الإسلام !


القصَّة الثَّانية في إسلام : علي سلمان بنوا , وهو طبيبٌ من أسرة فرنسيَّة كاثوليكيَّة . يروي علي قصَّة إسلامه , يقول : كنتُ أؤمن بوجود اللَّه , إلاَّ أنَّ الطُّقوس الدِّينيَّة المسيحيَّة لم تكُن لِتَبعث في نفسي الإحساس بوجوده ! وقد كان شعوري الفطري بوحدانيَّة اللَّه يَحُولُ بيني وبين الإيمان بعقيدة التَّثليث , وبتأليه عيسى المسيح !
كنت لا أستسيغُ دعوى الكاثوليك أنَّ مِن سُلطانهم مغفرةَ ذنوب البشَر نيابةً عن اللَّه , ولم أكن أؤمن أبدًا بالعشاء الرَّبَّاني والخبز المقدَّس الذي يُمثِّل جسد المسيح . ومِمَّا كان يُباعدُ بيني وبين المسيحيَّة أنَّها لا تحوي في تعاليمها شيئًا يتعلَّق بطهارة البدَن , لا سيَّما قبل الصَّلاة , فكنتُ أرى في ذلك انتهاكًا لِحُرمة الرَّبّ . كذلك , فإنَّ المسيحيَّة التزمت الصَّمت في ما يتعلَّق بغرائز الإنسان الفيزيولوجيَّة , بينما نرى أنَّ الإسلام هو الدِّين الوحيد الذي ينفرد بمراعاة الطَّبيعة البشريَّة .
أمَّا العامل الأساسي في اعتناقي للإسلام , فهو القرآن الكريم . وأنا مَدينٌ بالفضل إلى الأستاذ مالك بن نبي , صاحب كتاب الظَّاهرة القرآنيَّة . فقد اقتنعتُ بعد قراءتي لهذا الكتاب بأنَّ القرآن هو حقًّا وحيٌ مُنَزَّل من عند اللَّه . وعرفتُ أيضًا أنَّ بعض آياته أشارت منذ حوالي أربعة عشر قرنًا إلى حقائق علميَّة لم يتمَّ اكتشافها إلاَّ حديثًا . 
وهكذا ذهبتُ يوم 20-2-1953 م إلى مسجد باريس , وأعلنتُ إسلامي . فسجَّلني عميد المسجد في سجلاَّت المسلمين , وحملتُ اسمي الجديد : علي سلمان . وأنا أشعر اليوم بالغبطة الكاملة في ظلِّ عقيدتي الجديدة , وأُعلن مرَّة أخرى : أشهد أن لا إله إلاَّ اللَّه وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله . (نقلاً , مع تصرّف بسيط في سرد القصَّة , عن موقع www.newmuslims.tk) .

---------------------- 5

فريقٌ في الجنَّة وفريقٌ في السَّعير !


ربَّما تَعجبين يا ابنتي الكريمة من انتقالي الآن للحديث عن الجنَّة والنَّار , وأنا لم أُعرِّفْكِ بَعدُ باللَّه تعالى وبمحمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وبالإسلام . الحقيقة أنَّني أردتُ أن أُعطيكِ فكرة صغيرة عمَّا أعدَّه اللَّهُ تعالى لعباده يوم القيامة , لعلَّها تكون لكِ حافزًا على مواصلة قراءة الأجزاء الأخرى من هذا الكتاب , قبل أن تنشغلي عن ذلك بدراستك أو بعملك .
فكَما أنَّ التَّلميذ محتاجٌ لأن يعرف ماذا سَيجْني من اجتهاده في الدّراسة , والعامل محتاج لأن يعرف كم سيأخذ أجرًا على تَعَبه في العمل , فكذلك العبد محتاجٌ لأن يعرف ماذا سيكون جزاءه إذا اتَّبع دين اللَّه , حتَّى يكُون له ذلك حافزًا على الاستقامة في السُّلوك والإخلاص في العبادة والاستزادة من فعل الخير .

يَصِفُ اللَّهُ تعالى بعض ما أعدَّهُ لأهل الجنَّة , فيقول في القرآن الكريم : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً 122 } (4- النّساء 122) . 
ويقول تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 72 } (9- التّوبة 72) . 
ويقول تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ 14 قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ 15 الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ 16 } (3- آل عمران 14-16) .
نعم , إنَّ هذا حقًّا هو الفوز الحقيقي : جنَّات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيِّبة وأزواج مطهَّرة وكلّ ما تشتهي الأنفس , ورضوان من اللَّه أكبر ! كلُّ هذا لِمُدَّةٍ أطول من مليار مليار مليار … سنة ! إنَّه الخلود في الجنَّة !
ويقول تعالى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ 41 وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ 42 كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 43 إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 44 } (77- المرسلات 41-44) .

وفي المقابل , يصفُ اللَّهُ تعالى بعض حالِ أهل النَّار , فيقول : { وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ 49 قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ 50 } (40- غافر 49-50) . 
هل أدركتِ يا ابنتي خطورة الموقف ؟! إنَّ الذي يموتُ على غير الإسلام سوف يدخلُ نارًا حامية جدًّا , حتَّى أنَّه من شدَّة العذاب يتمنَّى أن يُخفِّف اللَّهُ عنه يومًا واحدًا منه ! فكيف به وهو سيقضِّي فيها , ليس سنة , ولا عشر سنوات , ولا ألْف سنة , بل رقْمًا لا نهائي من السَّنوات , أو إن شئتِ : أكثر من مليار مليار مليار ... سنة !!
هل تخيَّلتِ حَجْمَ العذاب ؟! 
لو أنَّ سجينًا في الدُّنيا محكوم عليه بعشر سنوات , طلبَ من القاضي أن يطرح من عقوبته يومًا , لَظنَّ أنَّه يسخر منه ! فما بالُكِ بِمَنْ يطلبُ حقيقةً أن يُطرح عنه يومٌ من مليار مليار مليار ... يوم في جهنَّم !

ربَّما تقولين : ولكن , إذا كانت جهنَّم نارًا حامية جدًّا كما جاء في القرآن , فمعنى هذا أنَّ الذين فيها سيموتون في لحظة .. وينتهي الأمر !
أقول : تعالي أذكِّرك إذًا بآية سبق أن تعرَّضْنا لها عند الحديث عن جلْد الإنسان . يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا 56 } (4- النّساء 56) . 
فأصحابُ النَّار تُبدَّلُ جلُودُهم إذًا كلّ لحظة , فيستمرّ العذاب إلى ما لا نهاية .
قد تقولين : ولكنَّ أصحاب النَّار سيموتون في النِّهاية , سواء من شدَّة العذاب أو من شدَّة الفزع !
استمعي إذًا لِمَا يَلي : يقول اللَّه تعالى : { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ 15 مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ 16 يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ 17 } (14- إبراهيم 15-17) . 
نعم , يأتيه الموتُ من كلِّ مكان , ولكنَّه لن يموت ! إنَّه خلودٌ في النَّار إلى الأبد !
ويقول تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ 36 وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ 37 } (35- فاطر 36-37) . 
وإذا لم يستطع عقلُكِ أن يقبل فكرة الخلود في النَّار , فلماذا قَبِلَ إذًا ما ذكَره عُلَماء الفلك من أنَّ هذا الكون يحتوي على مئات المليارات من النُّجوم , تفصلُ بينها مسافات خياليَّة تُقدَّر بملايين المليارات من الكيلومترات , وأنَّ الأرض تدور بنا بسرعة مجنونة , ونحن لا نشعر بشيء ؟!
واللَّهِ الذي لا إله غيره , لنْ يُفلِتَ بَشرٌ من الحساب يوم القيامة . ويا تَعْس يومئذٍ مَن كان مصيره الخلود في النَّار بسبب لحظة عِنَاد في الدُّنيا أعمَتْهُ عن اتِّباع الحقّ .

تعاليْ نُكمل الحديث عن حال أهل النَّار : يقول تعالى : { وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا 10 يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ 11 وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ 12 وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ 13 وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ 14 كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى 15 نَزَّاعَةً لِلشَّوَى 16 تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى 17 وَجَمَعَ فَأَوْعَى 18 } (70- المعارج 10-18) .
هل يُعقَل أن يُفكِّر الكافر يومئذ أن يُقدِّم زوجته وأبناءه وكلَّ مَن على الأرض , لكي يَفتدِيَ نفسَه من عذاب النَّار ؟!
نعم , ولن يُغني ذلك عنه شيئًا !

ويقول تعالى : { فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ 33 يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ 34 وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ 35 وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ 36 لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ 37 وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ 38 ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ 39 وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ 40 تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ 41 أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ 42 } (80- عبس 33-42) .
الكلُّ إذًا مشغولٌ بنفسه , ولا يفكِّر إلاَّ في المصير الذي ينتظره !

ويقول تعالى : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ 19 يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ 20 وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ 21 كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ 22 } (22- الحجّ 19-22) .
ويقول تعالى : { وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ 50 الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ 51 } (7- الأعراف 50-51) . 
ويقول تعالى : { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ 44 الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ 45 } (7- الأعراف 44-45) . 
ويقول تعالى : { وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 6 إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ 7 تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ 8 قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ 9 وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ 10 فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ 11 } (67- الملك 6-11) . 
آياتٌ تهزُّ المشاعر والقلوب ! هل يُعقل أن تكُون كلُّها خيالٌ من صنع بَشَر ؟! 
أبدًا ! إنَّها واللَّهِ كلامُ اللَّه , يُقيم به الحجَّة على كلِّ مَنْ غَرَّتْهُ الحياةُ الدُّنيا وآثَر الكُفْر على الإيمان .
إنَّ يوم القيامة سيأتي لا محالة . وسأقف أنا وأنت والنَّاس أجمعين للحساب . ثمَّ , إمَّا خُلودٌ في جنَّاتٍ ونعيم , وإمَّا إلى نارٍ وحميم وعذاب لا نهاية له ! 

أسأل اللَّه أن يهديك إلى الإسلام , ويجعلك وإيَّاي وكلّ المسلمين من أصحاب الجنَّة , آمين .

---------------------- 5

وبعد , أيُّها القارئ الكريم !


ألم يحن الوقت بعدُ أن تؤمن بأنَّ هذا الكون لم يُخلَق عن طريق الصُّدفة ؟ !
إنَّ هذه الأرض التي تعيش فوقها تزن حوالي خمسة آلاف مليون مليون مليون طنّ , وهي معلَّقة منذ مليارات السِّنين في الفضاء دون أن تسقط , وتدور حول نفسها بدقَّة متناهية وبسرعة معدَّلها 1600 كلم في السَّاعة , دون أن تشعر بذلك ! فهل يُعقل أن يكون كلُّ هذا نِتاج صدفة ؟!
ثمَّ إنَّك لكي تستطيع العيش فوق هذه الأرض , كان لا بُدَّ أن تكون جميعُ العوامل اللاَّزمة لذلك متوفِّرة كلّها في وقت واحد , ومنذ أوَّل تجربة . وهذا ما حدث فعلاً . فلا أحد من المؤرِّخين أو العلماء ذكَر أنَّ الإنسان الأوَّل وُجِدَ في البداية بدون جهاز تنفُّس , فاختنق ومات , ثمَّ أتى إنسان بعدهُ برئتَيْن ولكن لم يكن هناك هواء فوق الأرض , فمات أيضًا , ثمَّ جاء إنسان بعده .. وهكذا !
وهذه العناصر جميعها لَم تكن لِتَتوفَّر وحدها بالصُّدفة , بل توفَّرَتْ بتدبيرِ وتنسيقِ خالقٍ لا حدود لِقُدرته , هو اللَّه تعالى . 
ولو تمعَّنتَ أيُّها القارئ في القرآن الكريم , لتأكَّدتَ أنَّه وحيٌ مُنزَّلٌ من عند اللَّه على نبيِّه محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وأنَّ هناك حياةٌ بعد الموت لِيُجازي اللَّهُ كلَّ إنسان بما فعل في الدُّنيا , ثمَّ إمَّا إلى جنَّة وإمَّا إلى نار .

أم أنَّكَ تقول أنَّه , حتَّى لو كان ذلك صحيحا , فإنَّ يوم القيامة ما زال بعيدًا !
واللَّهِ إنَّه لا يفصلُك عنه سوى الموت ! وإنَّ الموتَ لَأقرب إليك من شراك نَعْلَيْك ! فكَمْ من شابٍّ ماتَ وهو في أوْج قُوَّته , وكم من فتاة نامت وهي لا تعلم أنَّ ذلك آخر عهدها بالدُّنيا ! 
باللَّه عليك , لا تتوقَّف إذًا عند هذا الجزء , فلن تخسر شيئًا من مواصلة القراءة . فمازلتُ سأحدِّثك عن اللَّه تعالى , وعن النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وعن الإسلام , وعن القبر والحساب والجنَّة والنَّار , ومازلتُ سأعرضُ عليك العديد من الآيات القرآنيَّة التي حيَّرتْ عُلَماء هذا العصر , كلُّ ذلك بأسلوب علميٍّ سهل , مختلف عمَّا تعوَّدْتَ عليه في الكتب الأخرى .
قبل أن أتركك , أختم بهذه الآيات , يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ 161 خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ 162 وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ 163 } (2- البقرة 161-163) . 

مُلتقانا في الجزء الثَّاني بإذن اللَّه , لنتحدّث عن حقيقة عيسى عليه السّلام , عن صفات اللّه سبحانه وتعالى , وعن سيرة محمّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم .

************************************************** ************************************************** ****انتهى المقال عند هذا الحد
ولمن اراد متابعة الموضوع ان كانت له اجزاء اخرى فهذا هو لينك الموقع الذى نقلت منه الموضوع لكم اسأل الله ان ينفع به
http://www.allahway.com/whoolbook.asp?id=339
************************************************** ************************************************** ****
والسلام على من اتبع الهدى
سبحانك اللهم وبحمدك ، اشهد ألا اله الا انت ، أستغفرك و أتوب أليك.
************************************************** ************************************************** ****
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
************************************************** ************************************************** ****
(سبحان ربك رب العزة عما يصفون (*) وسلام على المرسلين (*) والحمد لله رب العالمين (*)
************************************************** ************
********************************************* 
******************************

أما آن لك أن تعتنق الإسلام .. دين كلّ الأنبياء ؟! - الجزء الأول








وَاللَّهِ الذي لا إلهَ غيرُه , لو لَم يَبقَ على وجه الأرض مسلِمٌ غيري لَما شككتُ لحظةً واحدة أنَّني على الدِّين الحقّ . ذلك لتعلم , أيُّها القارئ الكريم , أنَّ ما ستقرأه في هذا الكتاب نابعٌ عن قناعتي التَّامَّة بالإسلام , دين العقل والفطرة والمنطق .
عامر أبو سميّة



---------------------- 5

في هذا الكتاب


كلُّ الإجابات عن كلِّ ما يشغل بالك من تساؤلات حول الكون والخالق والدِّيانات والجنَّة والنَّار , بأسلوب علمي ومنطقي , واضح وسهل , ربَّما لم تعهدْهُ في أيِّ كتاب آخر . 
ولو قرأتَ كلَّ الأجزاء , من أوَّل صفحة إلى آخرها , بقليل من الانتباه وبنيَّة البحث عن الحقيقة , فبإذن اللَّه , بإذن اللَّه , لن تملك بعد ذلك إلاَّ أن تنطق بالشَّهادتين وتدخل في الإسلام .
أسأل اللَّهَ أن يشرح صدرك لهذا الدِّين العظيم , دين إبراهيم وموسى وعيسى ومحمَّد وكلّ الأنبياء عليهم السَّلام . ويا ربّ اهْدِ كلَّ النَّاس إلى دينك الحقّ فإنَّ أكثرهم لا يعلمون , ولو علموا وصدقوا مع أنفسهم لَأَسلموا .

---------------------- 5

إهداء


إلى خاتم الأنبياء والمرسلين , المبعوث رحمةً للعالمين , محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , الذي شرَّفَه ربُّه بالرِّسالة , فبلَّغَها على أكمل وجه . وواللَّهِ إنَّهُ لَيُحْزِنُني جدًّا أن يتكلَّم فيه بعضُ النَّاس كلامًا لا يَليقُ به , ولا بأيِّ نبيٍّ آخر , يُريدُون تَشويهَ صُورته , وهم لَم يَعرفُوه ! ولَو عَرفُوه وأنصَفُوه لَمَا استطاعُوا أن يَتحدَّثُوا عنه إلاَّ بالإعجاب والتَّقدير , لِحُسْن أخلاقه مع القريب والبعيد , وصبره على أذى غيره , وعظيم إنجازاته للبَشَريَّة في مختلف مجالات الحياة , وفي وقت قياسي جدًّا .
إلى عيسَى عليه السَّلام , عبد اللَّه ورسُوله , الذي أُلصِقَتْ به أعظم فِرْيَة في تاريخ البشريَّة , وهي ادِّعاء الألوهيَّة , وهو منها براء .
وإلى أمِّه مريَم العذراء , التي لَم تَسْلَم هي أيضًا من الافتراء عليها بأعظم ما يُفتَرى على امرأة , وهو الطَّعن في شَرفها , وهي الطَّاهرة الشَّريفة العفيفة . وإنَّ ما يُثْلِجُ صدري وصدر كلّ مسلم أنَّ اللَّه تعالى كرَّمَها هي وابنها عيسى أعظم تكريم , فشهدَ لهما مِن فوق سبع سَماوات بالطَّهارة والشَّرف وعُلُوِّ الدَّرجة , شهادةً تُتْلَى إلى آخر الزَّمان , في القرآن الكريم .
إلى هؤلاء إذًا , وإلى كلِّ الأنبياء المفتَرى عليهم , أهدي هذا الكتاب , وأرجُو من اللَّه أن أكون قد وُفِّقتُ فيه في رَفْع الشُّبُهات عنهم , وفي إعطاء فكرة واضحة نَقِيَّة عن الإسلام , دينهم جميعًا , عليهم السَّلام .

---------------------- 5

توضيح


في هذا الكتاب , كان لا بُدَّ لي أن أتعرَّض بإطناب إلى عقائد اليهود والنَّصارى , دون غيرهم من أتباع الدِّيانات الأخرى . والسّببُ في ذلك أنَّهم يشتركون مع المسلمين في عبادة اللَّه تعالى , وكان من المفروض منطقيًّا أن تكون أصولُ عقيدتهم واحدة , لكنّ الواقع يُظْهِر أنّهم يختلفُون تمام الاختلاف في نظْرَتهم للَّه ورُسُلِه وكُتُبه المقدَّسة , وللجزاء يوم القيامة . 
لذلك , وجدتُ من الواجب علَيَّ أن أُنَبِّه اليَهود والنّصارى إلى أنَّ اللَّه تعالى , الذي يُؤمنُون به , قد تحدَّث عنهم في القرآن الكريم , فأعلَن أنَّ التَّوراة والأناجيل التي عندهم اليوم , ليست هي التَّوراة الأصليَّة والإنجيل الأصلي اللَّذَيْن أُنْزِلاَ على النَّبيَّين الكريمَيْن موسى وعيسى عليهما السَّلام . ثمَّ دَعَّمتُ ما قالَه اللَّهُ تعالى بشَواهِدَ وأدلَّة عديدة مِن نُصوص الكتاب المقدَّس نَفْسِه , تدلُّ بِوُضُوح على أنَّ هذا الكتاب مليءٌ بالتَّناقُضات , وأنَّه يستحيلُ عقليًّا ومنطقيًّا أن يكون كلام اللَّه . 
فأرجُو إذًا ألاَّ يُفَسَّر هذا التَّصَرُّف على أنَّه تحامُلٌ على اليهود والنَّصارى أو إلصاق الأكاذيب بهم بُغيَة إثارة العداوة ضدَّهم , فهذا ليس من أخلاق المسلم . وإنَّما غرضي من ذلك أن يَتثَبَّتَ هؤلاء من صحَّة مُعتَقَداتهم , لعلَّ اللَّه يهديهم إلى دينه الحقّ , فَيَنجَوْن من الخُلُود في النَّار يوم القيامة . هذا بالإضافة إلى أنَّني فعلتُ ذلك غيرةً على اللَّه تعالى , وعلى أنبيائه الكرام , وعلى كُتُبه الأصليَّة المقدَّسة . فالمسلمُ لا بُدَّ أن يَغار ويُدافع عن التَّوراة الحقيقيَّة والإنجيل الحقيقي كما يَغارُ على القرآن , لأنَّها كُلّها كُتُبٌ مُقَدَّسة . كَما أنَّه لا بُدَّ أن يَغار ويُدافع عن موسى وعيسى وكلّ الأنبياء عليهم السَّلام كما يَغارُ على محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , لأنَّهم كُلُّهم أشرف خَلْق اللّه . وهذا ما سأفعلُه في هذا الكتاب بإذن اللَّه .
اللَّهُمَّ هل بَلَّغْتُ ؟ اللَّهُمَّ فاشْهَدْ .

---------------------- 5

ألف شكر !


لقد استعنتُ في كتابة هذه الأجزاء بِمَراجع عديدة ومتنوِّعة , منها الكُتب , ومنها المقالات الصّحفيَّة , ومنها المحاضرات , ومنها الحوارات التّلفزيونيَّة . وأجِدُ من واجبي أن أتقدَّم بالشُّكر الجزيل إلى أصحاب هذه المراجع , للخدمة الجليلة التي قدَّموها لي بطريقة غير مباشرة . فأنا لم أكن لِأَستطيع أن أكتب هذه الأجزاء , لو لَم أعتمد على ما وصل إليه الشَّيخ الجليل عبد المجيد الزّنداني مثلاً , وغيره من العلماء , في ميدان الإعجاز العلمي في القرآن , وما نَشَره بعض المسلمين الجُدُد من قصص عن كيفيَّة إسلامهم , وما تفضَّل به بعض عُلماء المسلمين من فتاوى بخصوص مسائل دقيقة , وما كَتَبَتْهُ بعض السَّيِّدات الكريمات من آراء قيِّمة حول المرأة . 
وأنا لا أملِكُ إلاَّ أن أسألَ اللَّهَ لهؤلاء جميعًا , وأيضًا لكلِّ من ساعدَني في تصميم هذا الكتاب وطباعته ونشره , أن يُعطيهم من الخير ما يَتمَنَّون , وأن يَختِمَ بالصَّالحات أعمالَهم , وأن يكْتُبَهم من أصحاب جنَّة الفردوس , آمين .
وأريدُ التَّنبيه من ناحية أخرى إلى أنَّني اجتهدتُ قدر المستطاع أن تكون كلّ المعلومات الواردة في هذا الكتاب مُنتقاة من مصادر موثوق منها , وأن تكون مُوافِقة لِمَا يُنادي به الإسلام . لكنَّ الإنسان يُخطئُ ويُصيب . وعلى هذا , فإنْ وافقَ ما كَتَبْتُه الحقَّ , فذلك بتَوفيقٍ من اللَّه , وإن أخطأتُ في بعض المسائل , فالخطأ منِّي وليس من الإسلام .. اللَّهُمَّ فاشْهَدْ .

---------------------- 5

قبل أن نبدأ


سُئِلَت فتاةٌ في الرَّابعة عشر من عمرها عن سبب اعتناقها للإسلام , فكان مِمَّا قالَتْه : إنَّ المسيحيَّة هي الذَّهاب مرَّة واحدة في الأسبوع إلى الكنيسة , ومحاولة أن تكون إنسانًا طيِّبًا , بينما الإسلام منهج حياة كامل ! (نقلاً عن موقع طريق الإسلام www.islamway.com )
نحن نعيش اليوم في عصرٍ تاهَ أغلبُ النّاس فيه عن المقاييس الصَّحيحة , فغرقوا في فَوضى عامّة , لم يعودوا يُميِّزون فيها بين الحسن والقبيح , بين الصَّواب والخطأ . وبالرَّغم من التَّقدُّم العلمي الهائل الذي حقَّقَتْهُ البشريَّةُ في هذا العصر , إلاَّ أنَّها ابتعدتْ كثيرًا عن الدِّين الحقّ , فضاعت أخلاقُها وفسدتْ مجتمعاتُها .
نعم , كلُّ المشاكل التي يتخبَّط فيها العالَم اليومَ سببُها الأساسي هو ابتعاد الإنسان عن المنهج الصَّحيح الذي سطَّرهُ له خالقُه , تمامًا مثلما يتشوَّش عملُ غسَّالة الثِّياب مثلاً إذا شُغِّلَتْ على خلاف الدَّليل الذي وضعهُ لها صانعُها . 
لا سبيل إذًا لصلاح المجتمعات إلاَّ باتِّباع منهج اللَّه , وهو الإسلام , دين كلِّ الأنبياء . وهذا ما سنحاول تفصيله في هذه الأجزاء , بالأدلَّة العلميَّة والمنطقيَّة .

عامر أبو سميّة

---------------------- 5

لكن لماذا تحوَّلا من المسيحيَّة إلى الإسلام ؟!


اسمحي لي , سيِّدتي الكريمة , سيِّدي الكريم , أن أبدأ هذا الجزء بقصَّتيْن واقعيَّتَيْن :
القصّة الأولى في إسلام السّيّد Gary Miller ، وكان من كبار الدُّعاة إلى المسيحيَّة في الكندَا . وفي أحد الأيَّام , أراد أن يقرأ القرآن الكريم عَلَّهُ يَجِدَ فيه بعض الأخطاء التي تُعزِّزُ موقفه عند دَعْوَته المسلمينَ إلى الدُّخول في المسيحيَّة . كان يَتوَقَّع أن يَجِدَ القرآنَ الذي أُنزِلَ منذ حوالي أربعة عشر قرنًا , كتابًا بدائيًّا يتحدَّثُ عن القبائل والصَّحراء وما إلى ذلك . لكنَّه ذهِلَ عندما وجدَ فيه معلومات كثيرة لا تُوجد في أيِّ كتاب آخر ! وكان يتوقَّع أن يَجِدَ فيه ذِكْرًا لِبَعض الأحداث العصيبة التي مَرَّ بها النَّبيُّ محمَّدٌ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , مثل وفاة زوجته خديجة رضي اللَّه عنها في الوقت الذي كان في أشدّ الحاجة إليها , ومثل وفاة أغلب أطفاله في حياته : القاسم وعبد اللَّه وإبراهيم ورُقَيَّة وأمّ كلثوم , ولكنَّه لَم يَجِدْ شَيْئًا من ذلك .
واحتار عندما وجدَ سورةً كاملة في القرآن تُسمَّى سورة مريم , فيها تشريفٌ لها عليها السَّلام , لا يوجَدُ له مثيلٌ في كُتُب النَّصارى ولا في أناجيلهم ! وفي المقابل , لَم يَجد سورة واحدة باسم عائشة رضي اللَّه عنها , زوجة النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , ولا باسم ابنته فاطمة رضي اللَّه عنها . واحتار أكثر عندما وجد اسمَ النَّبيِّ عيسى عليه السَّلام ذُكِر خمسًا وعشرين مرَّة في القرآن , بينما لَم يُذكَرْ فيه اسم محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إلاَّ أربع مرَّات فقط .
وأخذ يقرأ القرآن بِتَمَعُّن أكثر علَّه يَجِدُ مَأخَذًا عليه , فاسْتَوقَفَتْهُ آية عجيبة , هي قول اللَّه تعالى : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا 82 } (4- النّساء 82) .
يقول Gary : لا يُوجَد أيُّ كاتب في العالم يكتبُ كتابًا ثمَّ يقول : هذا الكتابُ خالٍ من الأخطاء . بينما اللَّهُ تعالى تحدَّى كلَّ النَّاس أن يَجدُوا أخطاء في القرآن , وأعلنَ أنَّهم لن يَجِدُوا .
ومن بين الآيات التي توقَّف عندها Gary أيضًا , قول اللَّه تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ 30 } (21- الأنبياء 30) .
يقول Gary : إنَّ هذه الآية هي بالضَّبط موضوع البحث العلمي الذي حصلَ على جائزة نوبل سنة 1973 م ! كان الموضوع عن نظريَّة الانفجار الكبير , والتي مُلَخَّصُها أنَّ الكون كان كُتْلَة واحدة ثمَّ انْفَجر , وتكوَّنتْ مِن هذا الانفجار الكواكبُ والنُّجوم . والآية تَنُصُّ فعلاً أنَّ الكون , بِمَا فيه من سماوات وأرض وكواكب , كان رتقًا , أي مُتماسِكًا , أي كُتْلَة واحدة , ثمَّ تفتَّق , أي تَفَكَّك !
توقّف Gary أيضًا عند قول اللَّه تعالى : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ 210 وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ 211 إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ 212 } (26- الشّعراء 210-212) , وقول اللَّه تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ 98 } (16- النّحل 98) .
يقول Gary مُعلِّقًا على هذه الآيات : إذا كان القرآنُ قد تَنزَّلتْ به الشَّياطينُ على محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , كما ادَّعى بعضُ الكفَّار سابقًا وكما يدَّعي اليومَ بعضُ النَّاس من الدّيانات الأخرى , فهل من المعقول أن تُوحِي الشَّياطينُ بكتابٍ إلى محمَّد وتقول له أن يكتبَ فيه : وما تَنزَّلتْ به الشَّياطين , وما يَنْبَغي لهم , وما يَسْتَطيعُون ؟! بل أغرب من ذلك : تطلبُ منه أن يَتعوَّذ باللَّه منها قبل أن يقرأ هذا الكتاب , وتصف نفسها بأنَّها ملعونة !
وتوقَّف Gary أيضًا عند قول اللَّه تعالى : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ 1 مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ 2 سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ 3 وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ 4 فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ 5 } (111- المسد 1-5) .
يقول Gary : أبو لَهَب المذكور في هذه السُّورة كان يكرهُ الإسلام كُرهًا شديدًا , إلى دَرجَة أنَّه كان يَتْبعُ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أَيْنَمَا ذَهَب لِيُشَكِّكَ في كلامه . فكان إذا رآهُ تكلَّم إلى أُناسٍ غُرَباء , يَنتظرُهُ حتَّى يَنتهي من ذلك , ثمَّ يذهبُ إليهم ويسألُهم : ماذا قالَ لكُم مُحَمَّد ؟ إن قالَ لكُم أبيض , فهو أسْوَد , وإن قالَ لكُم لَيْلٌ , فهو نَهار !
وقبل عشر سنوات من وفاة أبي لَهب , نزلتْ هذه السُّورة لِتُعلِنَ لكلِّ النَّاس أنَّ أبا لَهب سيكونُ من أهل النَّار , أي أنَّه لَنْ يُسْلِمَ أبدًا ! وسمعَ كُفَّارُ قُريش هذا التَّحدِّي , وسَمعَه أيضًا أبو لهب . وخلال عشر سَنوات كاملة , كانت الفُرصة سانِحَة أمام هذا الرَّجل لكي يُبطلَ هذا التَّحدِّي , بأن يَقف أمام النَّاس ويقول : محمَّدٌ يَدَّعي أنَّني لَنْ أسْلِمَ أبدًا وسأدخلُ النَّار , ولكنَّني أعلنُ الآن أنَّني أريدُ أن أدخُل في الإسلام ! فما رأيُكُم ؟ أليس محمَّدٌ كاذبًا في ما ادَّعاه من أنَّني لن أسلم ؟!
لكنَّ أبا لَهَب لَمْ يَفعلْ ذلك ! وخلال عشر سنوات كان بإمكانه أن يُسلِم , أو أن يتظاهر بالإسلام , ولكنَّه لَمْ يَفْعَلْ , وماتَ كافرًا كما أعلنَ القرآن ! فأن يَضعَ محمَّدٌ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم هذا التَّحدِّي , ليس له إذًا إلاَّ مَعْنى واحِد , وهو أنَّ القرآنَ وحيٌ من عند اللَّه الذي يعلَمُ الغيب , ويعلمُ أنَّ أبا لَهب لَنْ يُسلِم .
ومن بين الأمور التي أدهشتْ Gary أيضًا : أسلوب القرآن في سَرْد الأحداث الغيبيَّة . فهو يَسْرد الحدَث , ثمَّ يُعقِّبُ عليه قائلاً : لَم تكن تَعلمه من قبل .
مثال ذلك : يقول اللَّه تعالى في قصَّة مريم عليها السَّلام : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ 44 } (3- آل عمران 44) . ويقول تعالى في قصَّة النَّبيّ نوح عليه السَّلام : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ 49 } (11- هود 49) . ويقول تعالى في قصَّة النَّبيّ يوسف عليه السَّلام : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ 102 } (12- يوسف 102) . 
يقول Gary : لا يُوجَد كتابٌ مِمَّا يُسَمَّى بالكُتب المقَدَّسة , يتكلَّم بهذا الأسلوب . فالأناجيل المحرَّفة الموجودة لَدى النَّصارى مثلاً , عندما تسردُ قصص القُدامَى تقول : الملِكُ فلان عاش هنا , والقائد فلان خاضَ المعركة الفلانيَّة هناك , وفُلان كان له عدد كذا من الأبناء , أسماءهم فلان وفلان , إلخ . بينما القرآنُ يَسردُ المعلومة , ثمَّ يقول لك : إنَّها معلومة جديدة , بل ويطلبُ منك أن تتأكَّد من صِحَّتها إن كنتَ في شَكٍّ من ذلك ! وقد كان قومُ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يسمعون هذا التَّحدِّي وقتَ نزوله , ولَم يَحدثْ أبدًا أن قالُوا أنَّهم يَعرفون هذه المعلومات أو أنَّهم يعرفُون مصدرها .
هذه إذًا بعض التَّأمُّلات في القرآن الكريم , والتي دَعت السَّيِّد Gary إلى التَّحوُّل من المسيحيَّة إلى الإسلام , فالحمدُ للَّه ربّ العالمين أن شرح صدرهُ لهذا الدّين العظيم . (نقلاً , مع تصرّف بسيط في سرد القصّة , عن موقع طريق الإسلام www.islamway.com) .

القصّة الثَّانية في إسلام السَّيِّدة Mary Watson , وكانت من كبار الدُّعاة إلى المسيحيّة في الفيلبِّين . 
تقول Mary : أحمد اللَّه على نعمة الإسلام . وُلِدْتُ بأمريكا , وعشتُ مُعظَم شبابي بين لوس أنجلوس والفيلبِّين . لَدَيَّ سبعة أطفال , بنين وبنات , مِن زوج فيلبِّيني . بعد إسلامي والحمد للَّه , تسمَّيتُ بخديجة . وقد اخترتُ هذا الاسمَ لأنَّ السَّيِّدة خديجة رضي اللَّه عنها كانت أرملَة , وكذلك أنا أرملَة , وكان لديها أولاد , وأنا كذلك , وكان عُمرها أربعين سنة عندما تزوَّجت من النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وآمنتْ به , وكذلك أنا كنتُ في الأربعينات عندما اعتنقتُ الإسلام . كما أنَّني مُعجَبَةٌ جدًّا بشَخصِيَّتها , لأنّها عندما نزلَ الوحْيُ على محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , آزرَتْهُ وشجَّعَتْهُ دون تردُّد .
كنتُ لاهوتيَّة , وأستاذة محاضرة , وراهبة , ومُنَصِّرة , وعملتُ في محطَّة إذاعيَّة في الوَعْظ المسيحي , وكنتُ ضيفةً على برامج تلفزيونيَّة , وكتبتُ مقالات ضدَّ الإسلام قبل توبتي , أسألُ اللَّهَ أن يغفر لي , فقد كنتُ مُتعصِّبة جدًّا للمسيحيَّة .
نقطةُ التَّحوُّل بدأَتْ عندما كنتُ مرَّةً مدعوَّة لإلقاء بعض المحاضرات في الفيلبِّين في إطار الحملات التَّنصيريَّة , فاسترعَى انتباهي وجود مُحاضِر فيلبِّيني جاء من إحدى الدُّول العربيَّة . لاحظتُ عليه أمورًا غريبة , فألححتُ عليه بالسُّؤال حتَّى عرفتُ أنَّه أسلمَ هناك , ولا أحد يعرفُ بإسلامه .
عند ذلك راودَتْني أسئلة كثيرة : لماذا استبدل دينَه بالإسلام ؟! وما الذي وجدهُ في هذا الدِّين الجديد ؟! فتذكَّرتُ صديقةً لي فيلبِّينيَّة كانتْ تعمَلُ في السّعوديَّة وأسْلَمَتْ , فذهبتُ إليها وبدأتُ أسألُها عن وضعيَّة المرأة في الإسلام , لأنَّني كنتُ أعتقد أنَّ المرأة المسلمة مُضْطَهَدة , وأنَّها تتعرَّض للضَّرب من طرف زوجها , وأنّها تختبئُ في منزلها ولا تخرجُ منه أبدًا ! ارتحتُ كثيرًا لإجاباتها , فسألتُها عن اللَّه عزَّ وجلّ , وعن النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . ثمَّ عرضَتْ عليَّ أن أذهبَ إلى المركز الإسلامي , فتردَّدتُ , ثمَّ ابتهلْتُ إلى " الرَّبِّ " أن يَهديني , ثمَّ ذهبت إلى المركز . فاندهشُوا جدًّا من معلوماتي الغزيرة عن المسيحيَّة , ومعتقَداتي الخاطئة عن الإسلام ! فصحَّحوا لي هذه الأخطاء , وأعطَوْني بعض الكُتيِّبات . فحمَلْتُها معي , وأخذتُ أقرأ فيها كلَّ يوم , وأتحدَّثُ معهم بالهاتف . وكانت هذه أوَّل مرَّة أقرأ فيها كُتبًا كَتبها مُسلِمُون , فاكتشفتُ أنَّ الكُتبَ التي كنتُ قرأتُها لِكُتَّاب نَصارى , كانت مملوءة بالمغالطات عن الإسلام والمسلمين !
بعد أسبوع واحد , عرفتُ أنَّ الإسلام هو الدِّينُ الحقُّ , وأنَّ اللَّهَ إلهٌ واحدٌ لا شريك له , وأنَّه هو الذي يغفرُ الذُّنوبَ والخطايا , وهو الذي يُنقِذُنا من عذاب الآخرة . ولكنَّني لَم أُسلِمْ وَقْتها , لأنَّ الشَّيطان كان يَزرعُ في نفسي الشُّكُوك والمخاوف . فكثَّف لي المركزُ الإسلامي مِن المحاضرات , وابتهلتُ إلى اللَّه أن يهديني إلى الدِّين الحقِّ . 
وذاتَ ليلَة , كنتُ مُستلقِيَةً على فراشي , لَمْ أنَم بعدُ , فشعرتُ بشيء غريب يستقرُّ في قلبي . فاعتدلتُ بسُرعة , وقلتُ : يا ربّ , أنا مؤمنة بك وحدك , ثمَّ نطقتُ بالشَّهادتَيْن , وشعرتُ بعدها باطمئنان وراحة يعُمَّان كلَّ بَدَني . فالحمدُ للَّه على نعمة الإسلام , ولَمْ أندمْ أبدًا على ذلك اليوم الذي يُعتَبرُ يوم ميلادي .
بعد إسلامي , أصبحتُ أعملُ بالمركز الإسلامي بالفيلبِّين , فكنتُ أُحْضِرُ للبيت بعضَ الكُتَيِّبات والمجلاَّت الإسلاميَّة , وأضعُها مُتعمِّدة على الطَّاولة , عسَى اللَّهُ أن يَهدي ابني Christopher إلى الإسلام , إذ أنَّه الوحيد الذي يعيش معي . فبدأَ بالفعْل , هو وصديقه , يَقْرآنها ثمّ يَتْركانها كما هي تمامًا . وكان لَدَيَّ مُنَبِّه أذان , فكان يستمعُ إليه وأنا بالخارج . ثمَّ أخبرني بعد ذلكَ برغبته في الدُّخول في الإسلام , ففرحتُ جدًّا وشجَّعتُه , وجاء بعضُ الأخوة من المركز الإسلامي لِلحديث معه , وعلى إثْر ذلك نطقَ بالشَّهادتَيْن , وسَمَّى نفسَهُ عُمر . هو ابني الوحيد الذي اعتنقَ الإسلام , وأدعُو اللّهَ أن يَهدي البقيَّة . (نقلاً , مع تصرّف بسيط في سرد القصّة , عن موقع اللّجنة العالميّة لنصرة خاتم الأنبياء www.icsfp.com) .

---------------------- 5

هذا الكون .. حقًّا , ما أوسعه !


نعم , هذا ما وصلتْ إليه آخرُ الأبحاث العلميَّة . فالأرضُ التي نعيش فوقها تُمثِّل قطرة ماء في محيط عظيم , أو حبَّة رمل في صحراء شاسعة ! وقبل أن نغوص في أسرار هذا الكون الفسيح , لا بُدَّ لنا أن نختار وحدةً لقياس مسافاته الهائلة . في ظنِّك , ما هي هذه الوحدة ؟ هل هي الكيلومتر ؟ الألف كيلومتر ؟ المليون كيلومتر ؟ 
أبدًا ! إنَّ المسافات بين النُّجوم لا يكفي لقياسها حتَّى المليون كيلومتر , بل لا بُدَّ من مليون المليون ! ذلك أنَّ أقرب نجمٍ إلينا بعد الشَّمس , وهو ما يُسمَّى بالفرنسيَّة Proxima Centauri والذي ينتمي إلى النِّظام المتعدِّد النُّجوم Alpha du Centaure , يَبعدُ عنّا حوالي 41 ألف مليار كيلومتر !!
نعم , هذا أقرب نجم ! فَما بالُك ببقيَّة النُّجوم ؟! لذلك , اتّجهَ العلماء في حساب المسافات الفلكيّة إلى استعمال سُرعة الضّوء التي تبلغ 300 ألف كلم في الثَّانية . لكنّ هذا الرَّقم , على كِبَره , غير كافٍ أيضًا ! فوقع الاتِّفاقُ إذًا على السَّنة الضَّوئيَّة , وهي المسافة التي يقطعُها الضَّوءُ في سَنة من الزَّمن , كَوحْدة للقياس .
السَّنة الضَّوئيّة = 9.5 ألف مليار كيلومتر .
وعلى هذا , فَعِوَضًا أن نقول أنَّ المسافة التي تَفصلُنا عن النَّجم Proxima Centauri هي 41 ألف مليار كلم , نقول أنَّها تساوي حوالي 4.3 سَنة ضوئيَّة , أي أنَّ هذا النَّجم يبعد عنَّا مسيرة 4.3 سَنة بسرعة الضَّوء , أي أنَّه لو أرسلَ إلينا شُعاعًا من نُوره لَوَصل إلينا هذا الشُّعاع بعد 4 سنوات وثلاثة أشهر ونصف تقريبًا !

أين تقع أرضنا في هذا الكون الفسيح ؟
الأرضُ هي كوكب ينتمي إلى المجموعة الشَّمسيَّة , وهذه المجموعة تتكوَّن من : 
- الشّمس , طبعًا , وهي نجم , وهي المركز الذي تدور حوله الكواكبُ والأقمار التَّابعة لها . 
- ثمَّ تِسْع كواكب , وهي , ابتداء من أقربها إلى الشَّمس : عُطارد Mercure , ثمَّ الزّهرة Vénus , ثمَّ الأرض Terre , ثمَّ المرِّيخ Mars , ثمَّ المشتري Jupiter , ثمَّ زُحل Saturne , ثمَّ أورانس Uranus (اكتُشف سنة 1781 م) , ثمَّ نبتيون Neptune (اكتُشف سنة 1846 م) , ثمَّ بلوتو Pluton (اكتُشف سنة 1930 م) .
وتنتمي المجموعة الشَّمسيَّة إلى مجموعة أخرى أكبر منها بكثير تسمَّى مَجَرَّة دَرْب التّبَّانة (Voie Lactée) , ويُسمِّيها البعضُ مَجَرَّة طريق اللَّبن , وهي تضمُّ حوالي 100 مليار نجم !
ويبلغ طولُ هذه المجرَّة حوالي 100 ألف سنة ضوئيَّة , وارتفاعها حوالي 10 آلاف سنة ضوئيَّة ! وتقع المجموعة الشَّمسيَّة , بما فيها الأرض , على بُعد 30 ألف سنة ضوئيَّة من مركز هذه المجرَّة , وعلى بُعد 20 ألف سنة ضوئيَّة من أقرب طَرف لها , وحوالي في وسط ارتفاعها !
لا شكَّ سيِّدي الكريم أنَّك مندهش لهذه الأرقام التي لا يستطيع العقلُ البشري أن يَستَوْعبها لِضَخامتها ! ولكنَّها حقائق , أكَّدها علماء الفلك في مختلف بلدان العالم . 
وسوف تزداد دهشتك إذا علمتَ أنَّ مجرَّتنا , درب التّبَّانة , ليست هي كلّ الكون ! أبدًا , فالجزءُ مِن الكون الذي تَوصَّل العلماءُ اليوم إلى اكتشافه بواسطة مَراصدهم العملاقة , يحتوي على حوالي 100 مليون مجرَّة ! ولكن بَقِيَ جزءٌ أكبر لم تطُلْهُ أعيُنُ المراصد , ومِن المحتمل أنَّه يحتوي أيضًا على عدد أكبر من المجرَّات !
والمدهش أكثر أنَّ المسافة بين هذه المجرَّات تُقدَّر بملايين السِّنين الضَّوئيَّة ! وهذا يعني أنَّ الكون , بالرَّغم من احتوائه على مليارات المليارات من النُّجوم , إلاَّ أنَّه فارغٌ بأتمِّ معنى الكلمة ! وأنتَ عندما تَستلقي على ظهرك تتأمَّلُ السَّماء , في ليلةٍ ظلماء لا يَشوبُها سحاب , تُشاهد حشدًا هائلا من النُّجوم , فتظنُّ أنَّ الكون مُزدحم . لكنَّ الحقيقة أنّك لو ركبتَ مثلا مركبةً فضائيَّة لِتَنْقُلَكَ من نجم لآخر , لَبقيَتْ تسير بك ملايين السِّنين في فراغ مُوحش وسواد شديد , لا يعترضُكَ فيه أيُّ شيء حتَّى تصل إلى النَّجم المقْصُود !
فهل عرفتَ الآن سيِّدي الفاضل كم هو فسيح جدًّا هذا الكون , وكم هي صغيرةٌ جدًّا جدًّا جدًّا .. هذه الأرض التي نعيشُ فوقَها ؟!

---------------------- 5

الكلُّ يجري بسرعات خياليَّة !


إذا كنتَ سيِّدي أُصبتَ بالدَّهشة والذُّهول مِن سعة هذا الكون وكثرة كواكبه ونجومه , فلتعلَمْ أيضًا أنَّ كلّ ما فيه يَجري ويَدور ! 
إليك هذه الأرقام التي وصلَ إليها علماءُ الفلَك : 
تدور الأرضُ حول محورها مرَّةً كلَّ 23 ساعة و56 دقيقة و4.1 ثانية , وذلك بسُرعةٍ تزيد قليلاً عن 1600 كلم في السَّاعة بالنِّسبة لِنُقطةٍ عند خطِّ الاستواء . نعم , إنَّ الأرض تدور بنا بهذه السُّرعة المجنونة , ونحن لا نشعر بِدَوَرانِها على الإطلاق ! 
وليس هذا فقط , فهي في نفس الوقت تدورُ , ومعها القمر , حول الشَّمس في مَدار إهليلي مرَّةً كلَّ 365 يومًا وربع اليوم , بسرعة 105 ألف كلم في السَّاعة , ونحنُ لا نشعُرُ أيضًا بأيِّ شيء ! في حين أنَّنا لو ركِبْنَا مثلاً سيَّارةً تجري بنَا بسرعة 300 كلم في السَّاعة , لَأصابَنا الدُّوار , ولَكادَ قلبُنا أن يَسقط من الخوف . فكيف يكون حالُنا لو أنَّنا كنَّا نُحسُّ فعلا بحركة الأرض , وهي تدور بنا حول نفسها بأكثر من خمسة أضعاف سرعة هذه السَّيَّارة , وفي نفس الوقت تجري بنا حول الشّمس بأكثر من ثلاثمائة ضعف هذه السُّرعة ؟! 
وتدور الشَّمسُ حول مركز مجرَّة درب التّبَّانة بسرعة 69500 كلم في السّاعة , بالنّسبة لِمَا حولها من النُّجوم , حاملةً معها الأرض وبقيَّة المجموعة الشَّمسيَّة !
وتدور مجرَّة درب التّبَّانة في مدار حلزوني حول مركزها الهندسي بسرعة 972 ألف كلم في السَّاعة , حاملةً معها الأرض والشَّمس وبقيَّة نجوم المجرَّة ! 
شيء أقرب للخيال منه للواقع , ومع ذلك فهو واقع , أكَّدَتْهُ الدِّراساتُ الفلكيَّة في مختلف البلدان .
وهنا , اسمحْ لي أن أسألكَ سيِّدي الكريم : هل يَقبَلُ عقلُكَ أنَّ هذا الكون الفسيح , بِما فيه من مليارات الكواكب والنُّجوم والمجرَّات , وبِما فيه من بَشَر ودوابّ , وُجِدَ عن طريق الصُّدفة , وكُلُّ ما فيه يَتحرَّكُ بالصُّدفة ؟!
أليس الأقرب إلى المنطق أن يكون وراء وُجُوده وحركَته صانعٌ أو خالق , على أكمل قَدْر من العظمة والقُدرة ؟

---------------------- 5

الكون في اتّساع مستمرّ !


في بداية القرن العشرين , كانت نتائج بحوث علماء الفلك تُشير إلى أنَّ أكثر المجرَّات تتباعد عن مجرَّتنا درب التّبَّانة . ولكن لم يتمَّ التَّأكُّد من ذلك إلاَّ سنة 1929 م , عندما تمكَّن عالم الفلك الأمريكي Edwin Hubble من إثبات أنَّ كلَّ المجرَّات تتباعد عن بعضها البعض , وأنَّ الكون في اتِّساعٍ دائم ! ووضعَ هذا العالِمُ قاعدةً لحساب سرعة تباعد المجرَّات .
وهذا الاكتشاف يدعُونا لِأَن نقف للمرَّة الأولى مع القرآن الكريم , الكتاب المقدَّس للمسلمين , المنزَّل من اللَّه تعالى على النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , عن طريق الملَك جبريل عليه السَّلام , لأنَّ فيه إشارة إلى هذا الموضوع . يقول اللّه تعالى : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ 47 } (51- الذّاريات 47) . ففي هذه الآية أعلنَ اللَّهُ تعالى أنَّه هو الذي بَنَى السَّماء , ثمَّ أضاف قائلاً : { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } . فهل جاءت هذه الجملةُ اعتباطًا ؟
مستحيل ! فكلُّ مَنْ يبحثُ في القرآن يعرف أنَّ كلَّ كلمة فيه لها معناها الدَّقيق , ولو أُبدِلَتْ بغيرها لَضاع المعنى الصَّحيح للآية . 
لعلَّ اللَّهَ إذًا أراد فعلاً الإِشارة إلى الحقيقة التي تَوصَّل إليها العلماء حديثًا , مِن أنَّ الكون يتَّسع ويتَّسع , دون توقُّف !

---------------------- 5

لماذا أقسم اللَّهُ تعالى بمواقع النُّجوم ؟


يقول علماءُ الفلك أنَّ كلَّ النُّجوم تجري في السَّماء دون توقُّف ! فهي تدور باستمرار حول مركز المجرَّة التي تنتمي إليها , وفي نفس الوقت تجري مع هذه المجرَّة , مبتعدة بذلك عن نجوم وكواكب المجرَّات الأخرى . ونظرًا إلى أنَّ المسافات بين الأرض التي نعيش فوقها والنُّجوم التي نراها في السَّماء تُقدَّر بآلاف السِّنين الضَّوئيَّة (أي ملايين المليارات من الكيلومترات) , فإنَّ الذي نراه نجمًا في السَّماء هو في الحقيقة ضوء ذلك النَّجم الذي بَدأ سفَرهُ إلينا من ذلك المكان منذ آلاف السِّنين ! 
نعم , فالنَّجم الذي يبعد عنَّا مثلاً ألف سنة ضوئيَّة , ونراه الآن في السَّماء , نحن نرى في الحقيقة ضوءَه الذي أرسلَه إلينا منذ ألف سنة من ذلك الموقع , فلم يصلْنا إلاَّ الآن فقط ! أمَّا النَّجم نفسُه , فقد انتقل منذ ذلك الزَّمن إلى موقع آخر , ثمَّ إلى مواقع أخرى , بسبب جريانه المستمِرّ !
وهنا , أجدُ من الضَّروري أن نقف وقفة أخرى مع القرآن الكريم , لأنَّ فيه إشارة إلى هذه الحقيقة ! يقول اللَّه تعالى : { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ 75 وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ 76 إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ 77 فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ 78 لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ 79 تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ 80 } (56- الواقعة 75-80) . 
فلو أقسَمَ اللَّهُ تعالى في الآية 75 بالنُّجوم , لَكان القسَمُ عاديًّا . لكنَّه أقسَمَ بِمَواقعها , رُبَّما لِيَلْفِتَ انتباهنا إلى أنَّ النُّجوم تجري في الفضاء , وأنَّ ما نراه في السَّماء نجمًا , هو في الحقيقة مَوْقعه .
وإذا كان هذا الاستنتاجُ صحيحًا , فإنَّ بقيَّة الآيات , التي أعلنتْ أنَّ القرآن الكريم تنزيلٌ من ربِّ العالَمين , لا بُدَّ أن تكون صحيحة أيضًا . هذا ما يقوله المنطق ! أم أنَّ لك رأيًا آخر ؟!

---------------------- 5

ولكن , كيف بدأ هذا الكون ؟


يقول علماءُ الفلك أنَّ الكون , بكلِّ ما فيه من نجوم وكواكب وغيرها , كان قبل حوالي 13 مليار سنة خليطًا من جُسَيْمات أوَّليَّة وإشعاعات , أي كان خليطًا من مادَّة وطاقة منضغطة في حَيِّز صغير . وكان هذا الخليط شديد الكثافة , وعالي الطَّاقة جدًّا , تزيد درجة حرارته على 100 مليار درجة ! 
ثمَّ انفجر هذا الخليط انفجارًا عظيمًا , يسمِّيه علماء الفلك Big Bang , وتفرَّقت أجزاءُه مبتعدة عن بعضها البعض . ثمَّ , وبعد ملايين السِّنين , تحوَّلت هذه الأجزاء إلى دخان .
وتُنسَب هذه النَّظريَّة إلى عالم الفيزياء النَّوويَّة , الأمريكي George Gamow , الذي نشرها سنة 1948 م , واعتمد في التَّدليل عليها على ظاهرة تباعد المجرَّات عن بعضها البعض , مِمَّا يُؤكِّد حدوث الانفجار . وقد شاهد علماء الفلك فعلاً سنة 1965 م صورة دخان , كأثَرٍ للانفجار العظيم , أتتْهُم من بُعْد أكثر من 10 مليار سنة ضوئيَّة (أي أنَّ هذه الصُّورة حدثتْ منذ أكثر من 10 مليار سنة) !
هكذا إذًا بدأ الكون : خليطٌ من مادَّة وطاقة انفجر انفجارًا عظيمًا , ثمَّ نشأ دخانٌ من هذا الانفجار , ثمَّ تكوَّنت النُّجومُ والكواكب والأقمار من هذا الدُّخان .
وهنا , اسمحي لي يا ابنتي الفاضلة أن أتوقَّف عند آيتين في القرآن الكريم , ربَّما فيهما إشارة إلى هذه الحقائق !
الآية الأولى ذكَرتْ أنَّ السَّماء , بما فيها من نجوم وأجرام أخرى , كانت دُخانًا قبل أن تُصبح على الصُّورة التي هي عليها اليوم ! يقول اللَّه تعالى متحدِّثًا عن ذاته العليَّة : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ 11 } (41- فصّلت 11) .
وقد سُئل الأستاذ الياباني Yoshide Kozai , وكان مديرًا لِمَرصد ميتاكا بطوكيو , عن كيفيَّة بداية هذا الكون , فقال : لقد أصبح اليومَ واضحًا أنَّ كلَّ هذا الكون نشأ من دخان . فقيل له : ولكنَّ بعض العلماء يستعملون كلمة ضباب . فأجاب بأنَّ هذه التّسمية لا تصحُّ , وأنَّ الوصفَ الأكثر دقَّة هو دخان , لأنَّ الضَّباب بارد بينما الدُّخان الكوني يُخفي حرارة عالية .
فإذا كان محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قد أتى بالقرآن من عنده , فكيف علم أنَّ السَّماء كانت دخانًا ؟!
الآية الثَّانية فيها إشارة إلى أنَّ السَّماوات والأرض نشَأتَا من مصدر واحد ! يقول اللَّه تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ 30 } (21- الأنبياء 30) . والرَّتقُ في اللُّغة : ضدّ الفَتْق . وبالتَّالي , فإنَّ هذه الآية تُشير إلى أنَّ السَّماوات والأرض كانتا مُلْتصقَتَين , ثمّ انفصلتَا بأمْر خالقهما . وقد أكَّد العلماء فعلاً أنَّ السَّماوات والأرض نشأتَا من خليط واحد .
وقد عُرضت هذه الآية على الأستاذ الأمريكي Alfred Kroner , أحد علَماء الجيولوجيا البارزين وأستاذ ورئيس سابق لقسم الجيولوجيا في جامعة ألمانيَّة , فقال : إنَّ رجلاً جاء منذ حوالي 1400 سنة , لا يعرف شيئًا عن الفيزياء النَّوويَّة , لا يستطيع في نظري أن يكتشف ولو بعقله ومنطقه فقط أنَّ السّماوات والأرض خُلِقتَا من مصدر واحد ‍‍.
ثمَّ عُرضت عليه آيات قرآنيّة أخرى عن تكوين الأرض , فقال : إنِّي مندهشٌ جدًّا لِوُجود هذه الحقائق العلميَّة في القرآن ! 

من أين جاءت المادَّة الأولى ؟ 
إذا كان كلُّ الكون انبثق عن خليط من جُسَيْمات أوَّليَّة وإشعاعات , فكيف جاء هذا الخليط الأوَّل ؟
جوابُ العلماء : لا أحد يدري !
جوابُ بعض النّاس من غير العلماء : جاء عن طريق الصُّدفة ! وطبعا هذه الإجابة لا يقبلُها العقلُ ولا المنطق .
لكنّ القرآن له جوابٌ واضح عن هذا السُّؤال . يقول اللَّه تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 40 } (16- النّحل 40) . ويقول تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ 73 } (6- الأنعام 73) . ويقول تعالى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ 81 إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 82 فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 83 } (36- يس 81-83) .
فالمادّة الأولى للكون , خلَقها اللَّهُ تعالى الذي يقول للشَّيء كُن فيكون . نعم , فالذي قَدَر على خَلْق هذا الكون بكلِّ ما فيه , له أيضًا القدرة على أن يخلق الشَّيءَ مِنْ لا شيء ! 
أليس هذا التَّفسير هو الأقرب للمنطق ؟!

---------------------- 5

ماذا لو سقطت السَّماء على الأرض ؟!


اطمئنِّي سيِّدتي ! فلن يحدث هذا الأمر طالَما لم تَحِنْ نهايةُ العالَم . إنَّ الذي خلَق هذا الكونَ سَنَّ فيه قوانينَ دقيقة , تكفي وحدها للتَّدليل على وجود هذا الخالق وعلى عظمته المطلقة ! 
من بين هذه القوانين : قانون الجاذبيَّة الذي اكتشفه وصاغَه عالِمُ الرِّياضيَّات والفيزياء الإنجليزي Isaac Newton . وقصّة هذا العالم مشهورة , وهي أنَّه كان يومًا مستلقيًا تحت شجرة تفّاح , فسقطت تفَّاحة على الأرض , فتساءل في نفسه : لماذا نزلت التُّفَّاحة إلى الأسفل ولم تصعد إلى فوق ؟ ثمَّ قام ببحوث واكتشف قانون الجاذبيَّة .
وقد استنتج الكثير من النَّاس من هذه القصَّة أنَّ الجاذبيَّة هي من خاصِّيَّات الأرض فقط . لكنَّ الحقيقة هي غير ذلك , فكلُّ الأجرام السَّماويَّة لها جاذبيَّة , وكلُّها تتجاذب فيما بينها , غير أنّ هذه الجاذبيّة تختلف قوَّتُها من جِرْم لآخر .
ولم يكن Newton لِيَستطيع أن يَصوغ قانون الجاذبيَّة بسهولة ودقَّة , لو اقتصر في حساباته على الأرض فقط . لذلك اعتمد في بحوثه على ما وصل إليه مَن سَبقه من علماء الفلك , مثل الألماني Johannes Kepler الذي صاغ القوانين التي تحكُم دوران الكواكب حول الشَّمس . وبذلك تَوَصَّل Newton إلى اكتشاف قانون الجاذبيّة الشّامل الذي نشره في كتابه Philosophiae Naturalis Principia Mathematica سنة 1687 م . 
وهنا لا بُدَّ من ملاحظة شيء هامّ : وهو أنَّ علماء الفلك قد اكتشفوا منذ بداية القرن السَّادس عشر أنَّ النُّجوم والكواكب في السَّماء , بالرَّغم من عددها الذي لا يُحصى , وبالرَّغم من المسافات الخياليَّة التي تفصل بينها , إلاَّ أنَّها في الأخير تخضع كلُّها لِقَوانين وسُنَن واحدة ! 
وهذا ما ساعدَهم في الوصول ببحوثهم إلى ما وصلوا إليه اليوم . وأصبح عالِمُ الفلك في عصرنا هذا يحسِبُ حركةَ الأجرام السَّماويَّة على الوَرق , بناءً على القوانين التي وقعَتْ صياغتها , ثمَّ يَطلُعُ علينا ليقول أنّه بعد ثلاثين سنة مثلاً , في يوم كذا , على السّاعة كذا , سيحدث كسوفٌ للشَّمس . وتَمُرُّ السِّنين , ويأتي اليوم الموعود , ويحدث الكسوف فعلاً ! فيكون ذلك دليلاً قاطعًا على صحَّة القوانين التي اعتمدها في حساباته .
وقد ذكَر الدّكتور أحمد زكي في كتابه القيّم : مع اللَّه في السَّماء , قصَّة طريفة في هذا المجال , مُلَخَّصها أنَّه سنة 1781 م , بينما الفلكي الإنجليزي William Herschel يَرصد جانبًا من السَّماء بمرصده , إذ به يكتشف كوكبًا جديدًا في المجموعة الشَّمسيَّة , فأسماه العلماء أورانس Uranus . وحسبُوا حركتَه ومدارَه معتمدين على قوانين الحركة والجاذبيَّة , ولكنَّهم حارُوا في أمرهم : إنَّ مَداره المرصود بالعين ليس كمداره المحسوب على الورق ! فأعادُوا حساباتهم بالاعتماد على قوَّة جاذبيَّة الشَّمس وقوَّة جاذبيَّة الكواكب الأخرى لهذا الكوكب الجديد . غير أنَّ المدار الواقعي والمدار المحسوب لم يتطابقَا . 
وهنا , بما أنَّ قوانينَهم صحيحة , افترض عالم الفلك الفرنسي Urbain Le Verrier أنَّه لا بُدَّ أن تكون هناك قوَّة جاذبيَّة أخرى آتية من كوكب آخر أَبْعد . إنَّ أحدًا لم يَرَ هذا الكوكب , ولكن كان لا بُدَّ من وجوده إذا ما صدق قانونُ الجاذبيَّة ! وما أسرع ما كشف عنه Le Verrier بالحساب سنة 1846 م . وكتب إلى العاملين بمرصد برلين يخبرهم بذلك . فوَجَّهوا مراصدهم إلى الموضع المحدَّد , ورأوا الكوكب الذي يبحثون عنه رأي العين , كشَف عنه عالم الفلك الألماني Johann Galle , وسمّوه نبتيون Neptune .
وبَقي اختلاف صغير في مدار أورانس , فافترض العلماء من جديد أنَّه لا بُدَّ أن يكون هناك كوكب آخر أبعد من نبتيون مختبئ في السَّماء ! وأطلقوا وراءه مراصدهم تبحث , وما كان أبعده , ومع هذا اكتَشفوه أخيرًا سنة 1930 م , اكتشفهُ عالم الفلك الأمريكي William Tombaugh , وأسموه بلوتو Pluton .

فهل تريدين سيِّدتي الفاضلة دليلاً أقوى من هذا على أنَّ هذا الكون , بالرَّغم من اتِّساعه الهائل , يَسير وفْق نظام واحد , سطَّره خالق واحد ؟! وهل بعد هذا مبرّرٌ للحديث عن الصُّدفة في خلق السَّماوات والأرض ؟!

---------------------- 5

لكنَّ الجاذبيَّة وحدها لا تكفي لتماسك الكون


نعم , فلو كان الكون قائمًا فقط على قانون الجاذبيَّة , لَكَانت الغَلَبةُ للأقوى , ولَجَذبت الشَّمسُ كلَّ الكواكب والأقمار التَّابعة لمجموعتها , فارتطمت بها واحترقت فيها !
لذلك , سَنَّ خالقُ هذا الكون قانونًا آخر , وهو قانون الحركة , لكي لا تصطدم الكواكبُ والنُّجوم ببعضها . ولكي تفهم هذا القانون , خُذْ سيّدي حبلاً قصيرًا , اربطْ في أحد طَرفَيْه حجرًا صغيرًا , وامسك الطَّرف الآخر بِيَدك . ارفعْ يدكَ إلى فوق , وابدأ في إدارة الحبل فوق رأسك شيئًا فشيئًا . عندما يكتسب الحجرُ سرعة معيَّنة , أوقِفْ يَدك عن الدَّوران , واترك الحجر يدور مع الحبل . ماذا تلاحظ ؟
ستلاحظ أنَّ الحبل يجذب على يدك , وكأنَّ الحجر يريد أن يهرب وينطلق بعيدًا عن الدَّائرة التي يدور فيها . لماذا ؟ 
لأنَّ الحجر لَمَّا أصبح يدور بسرعة معيَّنة , أكسبهُ هذا الدَّورانُ قوَّة دَفْع (أو طَرْد) , أخذت تحاول طَرْدَ الحجر بعيدًا عن مركز الدَّوران , أي بعيدًا عن يدك . غير أنَّ الحجر لا يستطيع الهروب , لأنَّ هناك قوَّة مضادَّة تمنعه من ذلك , وهي قوَّة الجذب التي تُحْدِثُها يدك .
مثال آخر : ربَّما دخلتَ في صغرك حديقة ألعاب , وجلستَ فوق حصان خشبي يدور حول مركز , ومشدود إلى هذا المركز بواسطة عصًا معدنيَّة غليظة . عندما بدأ الحصانُ في الدَّوران وازدادت السُّرعة , شعرتَ ولا شكَّ كأنَّ قوَّةً مَا تريد أن تَطْرُدك من مكانك وتقذف بك بعيدًا . ذلك أنَّ الدَّوران حول مركز يُحْدث قوَّة طَرْد , مضادَّة لقوَّة الجذب .
وهذا هو السِّرُّ الكبير في تماسك الكون . فنحن نعلم أنَّ الأرض تدُور حول الشَّمس بسرعة كبيرة جدًّا . وهذا الدَّورانُ يُكْسبها قوَّةَ طَرْد تحاول دَفْعَها خارج مدارها . غير أنَّ الشَّمس لها قوَّة جذب مُضادَّة ومُساوية لقوَّة الطَّرْد , تجذب الأرض إليها وتمنعها من الهروب .
فلَولا جاذبيّة الشّمس , لهربت الأرض وتاهت في السَّماء . ولولا دوران الأرض حول الشَّمس الذي يُكسبها قوَّة دَفْع مُضادَّة للجاذبيَّة , لَجَذَبت الشَّمسُ الأرضَ إليها فتحطَّمتْ فوقها !
وهذا هو الحال بالنِّسبة لكلِّ الأجرام السَّماويَّة , من كواكب ونجوم وأقمار وغيرها . كلٌّ منها يدور بسرعة هائلة في مدار خاصٍّ به , لا يمكن أن يحيد عنه أبدًا , لأنَّه خاضع لجاذبيَّة نجم أو كوكب آخر تمنعه من الهروب .
وهذا هو الحال أيضًا بالنِّسبة لِمَجموعتنا الشَّمسيَّة التي نعرفها أكثر . فهل سمعتَ يومًا أنَّ الأرض اصطدمت عبر تاريخ البشريَّة بكوكب عطارد مثلاً أو الزّهرة , أو أنَّ القمر سقط على الأرض ؟! 
لا , فالكلُّ يسير وفق نظام دقيق .
وهنا , لا أستطيع أن أتابع قبل أن أذكر لك آيتين في القرآن الكريم , أشارتا بوضوح إلى هذه الحقائق !
يقول اللّه تعالى في الآية الأولى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ 33 } (21- الأنبياء 33) . واللَّيلُ والنَّهار هنا يشيران إلى الأرض , لأنَّه لو كان المقصود بالسِّباحة الشَّمس والقمر فقط , لقال تعالى : يَسْبَحان . ولكنَّه قال : يسبحُون , أي الأرضُ والشّمسُ والقمر . ولَفْظ السّباحة يعني الانتقال من مكان لآخر . وقد ذكرْنا فعلاً أنّ كلّ الأجرام السّماويّة تجري .
ويقول تعالى في الآية الثّانية : { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ 40 } (36- يس 40) . وفي هذا إشارةٌ إلى أنّ الشّمس والقمر والأرض لا يمكنُ أن يصطدم أحدُها بالآخر , لأنّ كلّ واحد منها يجري في مَداره الخاصّ به , لا يمكن أن يحيد عنه . 
فكيف جاء محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بهذه المعلومات الدّقيقة , إن لم يكن خالقُ الأرض والسّماء هو الذي أخبره بذلك ؟!

---------------------- 5

نظام واحد يدلُّ على خالق واحد


إنَّ الذي سَنَّ قانُونَي الجاذبيَّة والحركة في السَّماء , حَسَبَ كلَّ شيء حسابًا دقيقًا يعجزُ عن تصوُّره العقل , فجعل قُوَى الجاذبيَّة تتوازن مع قُوَى الطَّرْد ليتماسك الكون ! بل , ووضع كلَّ شيء في المكان الذي يجب أن يكون فيه بالضَّبط ! فلو أنَّ الأرض مثلاً كانت أقرب إلى الشَّمس مِمَّا هي عليه الآن , لاحترقَتْ بِمَن عليها ! ولو أنّها كانت أبْعَد منها ممَّا هي عليه الآن , لَتَجمَّد كلُّ شيء فوقها !
والذي سَنَّ هذين القانونَين عَلِم أنَّ الأرض ستمارسُ جاذبيَّتها على كُلِّ مَن فَوقها من أحياء وجماد , فيَلتصقُوا بها , لا يستطيعون حراكًا . لذلك , جعلها تدور حول نفسها لِتَكْتسب قوَّة طَرْد مضادَّة لجاذبيَّتها , فيحصلُ التَّوازن , ويستطيع الأحياءُ المشيَ والحركة !
وهذا الدَّورانُ محسوب أيضا بدقّة , بحيث لو كان أسرع مِمَّا هو عليه الآن , لَتَناثر كلُّ مَن على الأرض مِن بَشَر ودوابّ وغير ذلك , ولو كان أقلَّ مِمَّا هو عليه الآن , لَوَجد النَّاسُ صعوبة كبيرة في الحركة !
ولأنَّ الكونَ يسيرُ وفْقَ نظام واحد , فقد سَنَّ خالقُه سُنَّةَ الدَّوران أيضًا على كلِّ الكواكب والنُّجوم والأقمار الأخرى , فجعلها كلُّها تدور حول نفسها ! 
والأعجب من هذا أنَّها كلُّها تدور من الغرب إلى الشَّرق , على عكس دَوران عقارب السَّاعة إذا نظرنا إليها من فوق , سواء عندما تدور حول نفسها , أو عندما تجري في مدارها حول النَّجم أو المركز الذي تدور حولَه !
فالأرض تدور حول نفسها من الغرب إلى الشَّرق , وتدور في مدارها حول الشَّمس , أيضًا من الغرب إلى الشَّرق ! والقمر يدور حول نفسه من الغرب إلى الشَّرق , ويدور مع الأرض حول الشَّمس , أيضًا من الغرب إلى الشَّرق ! وكلُّ كواكب المجموعة الشَّمسيَّة تدور حول نفسها من الغرب إلى الشَّرق , ويدور كلٌّ منها في مداره حول الشَّمس , أيضًا من الغرب إلى الشَّرق ! والشَّمس تدور حول نفسها من الغرب إلى الشَّرق , وتدور في مدارها حول مركز مجرَّة درب التّبَّانة , أيضًا من الغرب إلى الشَّرق !
والأعجب من العجب أنَّنا إذا انتقلنا من المجرَّة , التي هي أكبر شيء في هذا الكون , ونظرنا في أصغر شيء فيه , وهو الذَّرَّة التي هي أَصْل كلِّ مادَّة , لَوَجدناها تتكوَّن من نَواةٍ في الوَسط , تدور حولها إلكترونات , أيضًا من الغرب إلى الشَّرق , في مداراتٍ كما تدور الكواكب حول الشَّمس ! فالنَّواة هي شمس هذه الإلكترونات , و "من الغرب إلى الشَّرق" هي قاعدة ثابتة في هذا الكون !
ومن اللاّفت للانتباه حقًّا أنَّ المسلمين عندما يؤدُّون فريضة الحجّ , يقومون بالطَّواف بالكعبة , فيدُورون حولها من الغرب إلى الشَّرق ! نعم , مثل الكواكب والنُّجوم والإلكترونات !
أفلا يدعو هذا الأمر إلى التَّساؤل : أيكونُ المسلم هو الإنسان الوحيد الذي ينسجم مع هذه القاعدة الكونيَّة , فيدور مع كلِّ شيء في هذا الكون , من الغرب إلى الشَّرق ؟!
أيكون الإسلام هو الدِّينُ الحقُّ الذي اختاره خالقُ هذا الكون لعباده , فبعثَ به كلَّ أنبيائه , وسنَّ لكلِّ نبيٍّ تشريعات تُناسب عصره , حتَّى اكتمل الإسلامُ ببعثة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , آخر الأنبياء والمرسلين ؟!
حقًّا إنّه أمرٌ مهمٌّ , لا بُدَّ من الوقوف عنده !

---------------------- 5

ماذا لو كانت مكَّة هي مركز الأرض ؟!


في شهر يناير 1977 م , نَشر الدُّكتور المصري حسين كمال الدِّين , دكتور في المساحة التَّصويريَّة (أو الطُّوبوغرافيا) , نتيجة أبحاث قام بها في السّعوديَّة .
يقول الدُّكتور أنَّه كان يبحث عن اكتشاف وسيلة تُساعد المسلمَ في أيِّ مكان من العالم على تحديد اتِّجاه مكَّة , حيث توجد الكعبة , قِبْلة المسلمين في الصَّلاة . فبدأ بحثَه برَسْم خريطة تَشملُ المسافات التي تفصلُ كلَّ مدينة على وجه الأرض , عن مدينة مكَّة . واستعان في بحثه هذا بالكمبيوتر , لِرَسم خطوط الطُّول والعرض للكرة الأرضيَّة , ولحساب المسافات والانحرافات . فكانت دهشتُه عظيمة عندما اكتشف أنَّه يستطيع أن يرسم دائرة , مركزُها مدينة مكَّة , ومحيطُها يدور مع حدود (أو أطراف) جميع القارَّات . وتأكَّد بذلك أنَّ مكَّة المكرَّمة هي مركز الأرض اليابسة , وأنَّ كلَّ مُدُن العالَم مُوَزَّعة حولها توزيعًا منتظمًا !
يقول الدُّكتور حسين : حينئذ استطعتُ أن أفهم بعض آيات القرآن فهمًا جديدًا , مثل قوله تعالى : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } (6- الأنعام 92) . والمقصود هنا بأُمّ القرى : مكَّة . أي لتُنذِر مكّة ومَن حولها , وكأنّ في هذا إشارة إلى أنّ مكّة في الوسط , وكلّ مدن العالَم محيطة بها .
فهل يكون موقعُ مكَّة المركزي هو السَّبب في اختيار خالق هذا الكون لها لِتُبنى فيها الكعبةُ المشرَّفة , بيته الحرام , ولتنطلقَ منها دعْوةُ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , خاتم الأنبياء والمرسلين والمبعوث إلى النَّاس كافَّة , ولتكون مَقْصد كلِّ المسلمين يأتون إليها من كلِّ بقاع العالم للحجِّ والعمرة ؟! وهل أراد خالقُ الكون بِجَعْل مكَّة مركز الأرض , أن تكون فعلاً قلْبَ العالَم النّابض , تهفو إليها قلوبُ المسلمين في جميع أنحاء الأرض إلى يوم القيامة ؟!
وماذا لو كانت الكعبة المشرَّفة , التي توجد وَسَط مكَّة , هي بالتَّحديد مركز الأرض ؟! يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ 96 فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ 97 } (3- آل عمران 96-97) . والمقصود هنا ببَكَّة : مكَّة . 
يقول العالم الثِّقَة إسماعيل ابن كثير , صاحب التّفسير المشهور للقرآن الكريم , تعليقًا على هاتين الآيتين , ما مُلَخَّصُه أنَّ في السَّماء السَّابعة بيتًا يُسمَّى البيت المعمور , يُعتَبر بالنِّسبة لأهل تلك السَّماء بمثابة الكعبة الشَّريفة لأهل الأرض . وموقعُه في السَّماء السَّابعة هو قُبالة كعبة الأرض من فوق , بحيثُ لو سقط لسقط عليها ! وكذلك الحال بالنِّسبة لِبَقيَّة السَّماوات !
فإذا كانت الكعبة الشَّريفة هي أوَّل بيت بُنِيَ للنَّاس , واختارها اللَّهُ تعالى لتكون بيتَه الحرام فوق الأرض , فليس غريبًا أن يكون اختارها أيضًا لتكون مركز الأرض اليابسة .
أفلا يدعو هذا الأمر أيضًا إلى الوقوف عنده مليًّا ؟!

---------------------- 5

وماذا لو كان الأذان يدور حول الأرض ؟!


يُعْتَبر الأذانُ بالنّسبة للمسلمين إعلامًا بدُخُول وقت واحدةٍ من الصَّلوات الخمس المفروضة عليهم في اليوم واللَّيلة . ودخولُ الوقت هذا مُرتبطٌ بحركة الشَّمس الظَّاهرة حول الأرض .
فوَقْتُ صلاة الفجر يبدأ عند طلوع الفجر الصَّادق , وهو الضَّوء الأبيض الذي يُعْلِن انتهاءَ اللّيل وبداية النَّهار ويسبق شروق الشَّمس .
ويبدأ وقتُ صلاة الظُّهر مباشرة بعد زوال الشَّمس , أي حالَمَا تنحرف الشَّمس عن وَسط السَّماء .
ويبدأ وقتُ صلاة العصر عندما يَصلُ ظِلُّ كلّ شيء مثلَه ويبدأ في الزِّيادة .
ويبدأ وقتُ صلاة المغرب عندما يغيب قُرْصُ الشَّمس كاملاً .
ويبدأ وقتُ صلاة العشاء عند مغيب الشَّفق الأحمر .
وبما أنَّ الأرض تدور حول نفسها , فإنَّ ضوء الشَّمس يَبقى ينتقل من خطِّ طولٍ على الكرة الأرضيَّة لِخَطِّ طول آخر . ونتيجةً لذلك , فإنَّ غروب الشَّمس مثلاً لا يتمُّ على كامل الأرض في نفس اللَّحظة , وإنَّما تغربُ الشَّمس على بعض المناطق على خطِّ طولٍ مُعيَّن , ثمَّ تغرب بعد بضع دقائق على مناطقَ مجاورة على نفس خطِّ الطُّول , ثمَّ على مناطق أخرى على خطِّ الطُّول الموالي , ثمَّ الذي يليه , وهكذا . وكلُّنا يعرف أنَّ هناك فارقًا في التَّوقيت من بلد لآخر , وأنَّ النَّهار يطلعُ في بلد ليبدأ اللَّيلُ في نفس الوقت في بلد آخر . 
نعودُ إلى قضيَّة الأذان , ونأخذُ مثلاً صلاة المغرب التي يبدأ وقتها بغروب الشَّمس . فبِناءً على ما فَصَّلْنا سابقًا , فإنَّ وقت صلاة المغرب لا يحين في نفس اللَّحظة في كلِّ بلدان العالم , وإنَّما يحين في بعض المدن على نفس خطِّ الطُّول , ثمَّ يحين في المدن المجاورة على خطِّ الطُّول المجاور , ثمَّ الذي يليه , وهكذا . وهذا ينطبق أيضًا على صلوات : العشاء والفجر والظُّهر والعصر .
وبما أنَّ دخولَ الوقت يتمُّ الإعلان عنه بالأذان , والذي يستغرق بضع دقائق , فإنَّه ما أن ينتهي المؤذِّن من الأذان لصلاةٍ مَا في بلدٍ مَا , حتَّى يرتفع صوت مؤذِّن آخر في بلد مُجاور ليؤذِّن لنفس الصَّلاة ! ويبقى الأذان يدور هكذا حول الأرض التي مركزها الكعبة , مِن خطِّ طولٍ لِخَطِّ طولٍ آخر , دون توقُّف إلى قيام السَّاعة !
وبِما أنَّ الصَّلوات الخمس المفروضة مُوَزَّعة على ساعات اللَّيل والنَّهار , فيمكن الجزم بأنَّه في كلِّ لحظةٍ من ليلٍ أو نهار , يرتفع صوت مؤذِّنٍ في بقعة من بقاع العالم , لينادي للصَّلاة !
هل تدري يا ابني الكريم ماذا يقول المؤذِّن ؟
إنَّه يقول : اللَّه أكبر , اللَّه أكبر .
أشهد أن لا إله إلاَّ اللَّه , أشهد أن لا إله إلاَّ اللَّه .
أشهد أنَّ محمَّدًا رسول اللَّه , أشهد أنَّ محمَّدًا رسول اللَّه .
حيّ على الصَّلاة , حيّ على الصَّلاة . 
حيّ على الفلاح , حيّ على الفلاح .
اللَّه أكبر , اللَّه أكبر .
لا إله إلاَّ اللَّه .
إنَّه توحيدٌ مُطلَقٌ للَّه , وشهادةٌ بأنَّ محمَّدًا رسول اللَّه , ودعوةٌ إلى إقام الصَّلاة في وقتها . هذه الصَّلاة التي هي موعدٌ يومي مع خالق هذا الكون , لِطَلب العون والهداية والتَّوفيق منه , والاستغفار والتَّوبة من الذُّنوب والخَطايا .

أفلا تجد يا بُنَيَّ بعد كلِّ هذا رغبةً مُلِحَّة في التَّعرُّف على الإسلام , بعيدًا عن التَّشويهات والأكاذيب ؟‍
واللَّهِ الذي لا إله غيره , لو تابعتَ قراءة بقيَّة الأجزاء بنِيَّة البحث عن الحقيقة , لَأَخذَ اللَّهُ بِيَدك , بفضله ورحمته , ولَهَداكَ إلى ما تبحثُ عنه .

---------------------- 5

وماذا لو كان الإسلام دين كلّ الأنبياء ؟!


لو قرأتِ سيِّدتي الكريمة القرآنَ من أوَّله لآخره , لَوجدتِ فيه ذكْرًا للعديد من الأنبياء والرُّسُل , مثل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وسليمان وموسى وعيسى ومحمَّد , عليهم الصَّلاة والسَّلام , غير أنَّكِ لن تجدي آيةً واحدة تذكُر أنَّ موسى عليه السَّلام دعا بني إسرائيل إلى الدِّين اليهودي , أو أنَّ عيسى عليه السَّلام دعا قومه إلى الدِّين المسيحي ! هل تعرفين لماذا ؟
لأنَّ الدِّين عند اللَّه , منذ خلَقَ البشريَّة , هو دينٌ واحدٌ , وهو الإسلام ! وكلُّ الأنبياء والرُّسُل كانوا مسلمين , ودعَوْا أقوامهم إلى الإسلام ! إنَّما فقط اختلفت التَّشريعاتُ من نبيّ لآخر , حتَّى اكتملت بشريعة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , خاتم الأنبياء والمرسلين . 
لِنستمعْ لما يقول القرآن في هذا الموضوع : يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ 19 فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ 20 } (3- آل عمران 19-20) . وهذا إعلانٌ صريحٌ بأنَّ الدِّين عند اللَّه هو الإسلام .
ويقول تعالى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 130 إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ 131 وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 132 أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 133 تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ 134 وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 135 قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 136 } (2- البقرة 130-136) . وهذا إعلانٌ آخر , واضحٌ وجليٌّ , بأنَّ إبراهيم عليه السَّلام (أبو الأنبياء) , ويعقوب (وهو إسرائيل , وإليه ينتسبُ اليهودُ فيُقال لهم بَنُو إسرائيل) , هذان النَّبيَّان كانَا مُسلِمَيْن , وأَوْصَيَا أبناءهما أن يموتُوا على الإسلام ! 
ويقول تعالى : { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 140 } (2- البقرة 140) . وهذا إعلانٌ ثالثٌ , لا لُبْس فيه , بأنَّ إبراهيم وإسماعيل والأسباط عليهم السَّلام لم يكونوا يهودًا ولا نصارى ! بل حتَّى إسحاق ويعقوب عليهما السَّلام , وهما أوَّل أنبياء بني إسرائيل , نَفَى اللَّهُ تعالى عنهما أنَّهما كانا يهوديَّيْن ! لقد كانوا كلُّهم مسلمين كما ذكَرْنا ! 
ويقول تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 67 } (3- آل عمران 67) .
ويخبرنا تعالى عن النَّبيِّ يوسف عليه السَّلام أنَّه قال : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ 101 } (12- يوسف 101) .
ويقول تعالى عن النَّبيِّ نوح عليه السَّلام : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ 71 فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ 72 } (10- يونس 71-72) . كلُّ هذه الآيات تُعلنُ إذًا بوضوح أنَّ كلَّ الأنبياء كانُوا مسلمين .
فلَمَّا بعثَ اللَّهُ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , جعله خاتم الأنبياء والمرسلين , فلا نَبيَّ بعده إلى يوم القيامة . يقول اللَّه تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا 40 } (33- الأحزاب 40) . 
وأرسلَه إلى كلِّ النَّاس , في حين أنَّ الأنبياء قبلَه كانُوا يُبعثون إلى أقوامهم فقط . فهو نبيُّ البشريَّة جمعاء إلى يوم القيامة . يقول تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 28 } (34- سبأ 28) . 
وأكملَ له الدِّين , فأصبح الإسلامُ ببعثته أكمل الشَّرائع السَّماويَّة . يقول تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا } (5- المائدة 3) . وقد نزلتْ هذه الآية , والنَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم فوق جبل عرفات بمكَّة , في حجَّة الوداع . فلم يلبث بعد ذلك إلاَّ ثلاثة أشهر ثمّ تُوُفِّي .

ربَّما يكون تعليقكِ سيِّدتي على ما ذكرتُه لكِ , أنَّني اعتمدتُ فقط على آيات قرآنيَّة , والقرآنُ لا يُعتَبَرُ مرجعًا موثوقًا منه بالنِّسبة لك . 
كلامكِ مقبول ! لهذا سأحاول في الصَّفحات القادمة أن أبيِّن لكِ علميًّا أنَّ هذا القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة إلى قيام السَّاعة , وأنَّه وحيٌ من خالق هذا الكون , وبالتَّالي فإنَّ كلَّ ما جاء فيه حقٌّ لا ريب في ذلك . 
تابعي القراءة , وستفهمين كلَّ شيء !

---------------------- 5

فكسَونا العظام لحمًا !


تحدَّثنا سيِّدي الكريم عن كيفيَّة خلق هذا الكون , وسنتحدَّث الآن عن خَلْقِنَا نحن , وكيف جئنا لهذا الوجود .
نقطةُ البدء هي طبعًا جماعٌ بين الرَّجل وزوجته , فيقذفُ ماءَه في عنق رَحِمِها . فهل تعلم سيِّدي كم يحتوي هذا الماء من حيوان منوي ؟ 
مائة ؟ ألف ؟ مليون ؟
إنَّه يحتوي على حوالي أربعمائة مليون حيوان منوي , كلُّها تمضي في سباقٍ نحو بُوَيْضة المرأة لِتَلْقيحها , فلا يصلُ في الأخير إلاَّ حيوانٌ منوي واحد فقط , الأقوى والأفضل , ويموتُ كلُّ الباقين !
ويتمُّ التَّلاقح , ويبدأ الجنين رحلَته في التَّخلُّق . فيكون في البداية عَلَقة , قيل لأنَّه يتعلَّق ويلتصق بجدار الرَّحِم , وقيل لأنَّه على شكل العَلَقة , وهي دودة صغيرة تعيش في بركة الماء وتمتصُّ دماء كائنات أخرى . وفي هذه المرحلة تتكوَّن المشيمة , ويتكوَّن معها معلاق يتعلَّق فيه الجنين . هذا المعلاق يتحوَّل فيما بعد إلى حَبْل سُرِّي , يستمدُّ الجنينُ عَبْرَه الغذاءَ والأكسيجين وموادّ المناعة ضدَّ الأمراض , ويَطرد المخلَّفات الضَّارَّة . 
ثمَّ يتحوَّل الجنين إلى مرحلة المضغة , فَيبدو فعلاً وكأنَّه مُضغة مَضَغها إنسانٌ وقَذفها , فبدَتْ فيها أسنانُه . وتبدأ عمليَّة التَّخلُّق في الطَّبقة الباطنيَّة للمضغة , بينما تبقى الطَّبقة السَّطحيَّة غير مخلَّقة بعد .
وهنا , لنا وقفةٌ مع القرآن الكريم . يقول اللَّه تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ 5 ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 6 وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ 7 } (22- الحجّ 5-7) . 
انتبه سيِّدي الكريم ! إنَّ هذه الآيات نزلَتْ منذ حوالي أربعة عشر قرنًا , وتتحدَّث عن معلومات دقيقة عن مراحل تطوُّر الجنين , لم يتمَّ اكتشافها إلاَّ خلال القرن العشرين بواسطة آلات غاية في الدِّقَّة !
بل إنَّها ذكَرتْ أيضًا أنَّ الإنسان مخلوق من تراب ! وقد أثبت العلم الحديثُ فعلاً أنَّ جسم الإنسان يتركَّب من عدَّة عناصر موجودة في التُّراب , مثل : الحديد والكالسيوم والماغنسيوم , وغيرها .
أليس في هذا إذًا دليلٌ علمي قويّ على أنَّ هذه الآيات ليست من صُنع بَشر , وإنَّما هي كلامُ اللَّه الذي خَلَقني وخلَقك ؟
وإذا كان الأمر كذلك , أليس من المنطق أن نُصدّق كلَّ ما جاء فيها , أي أنَّ اللَّه قادرٌ على كلِّ شيء , وأنَّه سوف يُحيينا بعد موتنا لِيُحاسبنا على أفعالنا ؟

نعود إلى مراحل تطوُّر الجنين : 
فبَعْد المضغة , ينتقل الجنين إلى مرحلة العظام , ليأخذ شكل الهيكل العظمي . ثمَّ تبدأ العضلات بالظُّهور , ويبدأ اللَّحم يُحيط بالعظام ويكْسُوها كما يكسو الثَّوبُ البَدَن . وهنا لا بُدَّ من ملاحظة أنَّ علماء الأجنَّة كانُوا إلى وقت قريب مُجْمِعين على أنَّ المضغة تتحوَّل إلى لحم , ثمَّ تبدأ العظامُ بالظُّهور . لكنَّهم , وبعد دراسات مخبريَّة طويلة ودقيقة جدًّا , اكتشفُوا أنَّ العكس هو الصَّحيح , أي أنَّ العظام تتكوَّن قبل اللَّحم ! 
فهل تعلم سيِّدي أنَّ القرآن سَبَقهم إلى الإعلان عن هذه الحقيقة منذ حوالي أربعة عشر قرنا ؟!
استمع معي : يقول اللَّه تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ 12 ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ 13 ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ 14 ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ 15 ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ 16 } (23- المؤمنون 12-16) . 
لقد سمع أحد علماء الأجنَّة الغربيّين هذه الآيات , فبُهتَ ثمَّ قال : لو كان هذا القرآن عندنا , نحن النَّصارى , لأقَمْنا الدُّنيا ولم نُقعدها ! 
حتَّى العبارات التي تَفرَّد بها القرآنُ لِتَسميَة الجنين في كلِّ مرحلة (علقة , مضغة , فكسونا العظام لحمًا , ثمَّ أنشأناه خلقًا آخر) هي من الدِّقَّة العلميَّة بحيث أدهشَتْ عُلماء هذا العصر !
وقد عُرضتْ هذه الآياتُ القرآنيَّة وغيرها على Keith Moore , أستاذ في الجراحة وعلْم الأجنَّة في جامعة تورنتو بكندا , وصاحب كتاب The Developing Human الذي يُعتبر من أفضل المراجع العلميَّة في هذا الميدان , فكانت دهشة الأستاذ كبيرة , عبَّر عنها قائلاً في المؤتمر الطِّبِّي السَّابع بالدَّمَّام بالسّعوديَّة سنة 1981 م : كيف أمكن لمحمَّد أن يصف منذ حوالي 1400 سنة تطوُّر الجنين بدقَّة تامَّة , بينما لم يتوصَّل العلماء إلى اكتشافه إلاَّ منذ 30 سنة فقط ؟!
ثمَّ إنَّه أخذ صورةً لِجَنين في مرحلة العلَقة ووضعها بجانب صورة علَقة , وهي الدُّودة التي تعيش في الماء , فوَجَد بينهما تشابُهًا تامًّا في الشَّكْل ! وأخذ صورة ثانية لِجَنين في مرحلة المضغة ووضعها بجانب قطعة عجين مَضغها في فَمه حتَّى بدتْ فيها أسنانُه , فوَجَد أيضًا بينهما تشابُهًا كبيرًا في الشَّكْل !
وقد نشرت بعضُ الجرائد الكنديّة مقالات لـ Keith Moore عن توافق الآيات القرآنيَّة مع آخر الاكتشافات العلميَّة , وخصَّصت له التَّلفزة عدَّة حصص من برامجها للحديث عن هذا الأمر . ولَمَّا سُئِل : هل تعتقد أنّ القرآن كلام اللّه ؟ أجاب : لم أجدْ أيّة صعوبة في الإقرار بذلك .
فقيلَ له : كيف , وأنت تؤمن بالمسيح ؟!
فقال : أعتقد أنَّهما ينحدران من مدرسة واحدة .
ثمَّ إنَّه سَمحَ لِلَجنة من العلماء المسلمين أن يُضيفوا الآيات القرآنيَّة وأحاديث النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم الخاصَّة بتطوُّر الجنين , إلى الأماكن المناسِبَة في كتابه عن تطوُّر الإنسان , وطُبع الكتابُ في إصدار جديد مشتملاً على هذه الإضافات . (ويمكن الرُّجوع في هذا الموضوع إلى شريط فيديو This is the Truth وكتاب Editions IQRA – Ceci est la Vérité) .
نعم , أنَّى لِمُحمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أن يأتي بهذه المعلومات , إن لم يكن اللَّهُ تعالى هو الذي أوحى له بذلك ؟!

ولم ينسَ القرآنُ ذكْر مرحلتين أساسيَّتين بعد الولادة , وهما :
- الموت , وهي الحقيقة التي لا يستطيع أحدٌ إنكارها . 
- والبعث يوم القيامة , الذي ينقسم فيه النَّاس إلى مؤمن , وشاكّ , ومُنكِر .
فهل يقبلُ العقلُ أن نُقرَّ بإعجاز الآيات التي تحدَّثتْ عن مراحل تطوُّر الجنين , ثمَّ نُنكر الآيات التي ذكرتْ أنَّ بعد الموت بعثًا ونشورًا ؟!

---------------------- 5

الرَّحم , قرار مكين !


ذكَرْنا أنَّ الجنين يبدأ نُطفة , ثمَّ يَمرُّ بمراحل عديدة في التَّخلُّق إلى أن يُصبح كامل الخِلْقة قبل الولادة . وهذا التَّخلُّق لا يمكن أن يتمَّ بسلام إلاَّ إذا تَوَفَّر لهذا المخلوق الضَّعيف مكانٌ أمين , معزول عن كلِّ المخاطر . هذا المكان تكفَّل الخالقُ بتوفيره , فكان فِعْلاً قرارًا مكينًا !
يقول تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ 12 ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ 13 } (23- المؤمنون 12-13) . هذا القرار هو طبعًا رَحِمُ المرأة . وقد جعله الخالقُ في تجويف الحَوْض , محاطًا بالعظام من كلِّ جانب , حتَّى لا يكون مُعرَّضًا مباشرة للصَّدمات .
والأعجب من هذا أنَّ علماء الأجنَّة اكتشفوا مؤخَّرا أنَّ الجنين داخل الرَّحم يكون محاطًا بثلاثة أغشية تجعله في معزل تامٍّ عن العالَم الخارجي , هي :
- الغشاء الذي يُحيط بسائل الأمْنِيُوم (liquide amniotique) الذي يسبح فيه الجنين . وهذا السَّائل , كما هو معلوم , يَقِي الجنينَ من الصَّدمات المباشرة التي يمكن أن يتلقَّاها الرَّحم , ويسمح له بالحركة , ويُسهِّل خروجه عند الولادة .
- يَلِيه جدارُ الرَّحم . 
- يَلِيه جدارُ البطن . 
وبهذا يكونُ الجنين في ظُلُمات ثلاث , خالية من الضَّوء , وفي قرار مكين , بعيداً عن الصَّدمات .
وإذا كانت الآية السَّابقة قد تعرَّضت للقرار المكين , فإنَّ هناك آية أخرى أشارت إلى الظُّلُمات الثَّلاث . يقول اللَّه تعالى متحدِّثًا عن ذاته العليَّة : { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ 6 } (39-الزّمر 6) . 
وقد عُرضت هذه الآية أيضًا على الأستاذ Keith Moore , فأثبتَ توافُقها مع آخر الاكتشافات العلميَّة . وهذا يدعُونا إلى الجزم بأنَّ كلَّ ما جاء فيها حقٌّ , أي أنَّ اللَّه هو ربُّنا , وأنَّ له مُلْك كلّ شيء , وأنَّه إله واحد لا شريك له . أم أنَّ لك رأيًا آخر ؟!
بقيتْ ملاحظة هامَّة : لم ينسَ الخالق سبحانه أنَّ الجنين ينمو داخل الرَّحم , وأنَّ طولَه سوف ينتقلُ من أقلّ من ملِّيمتر إلى عشرات السّنتيمترات , وأنَّ وزنه أيضًا سوف ينتقلُ من أقلّ من ملِّيغرام إلى بضع كيلوغرامات , فخَلَق للمرأة رَحِمًا مَرنة , تتمدَّد وتتَّسع بحسب متطلَّبات الجنين , حتَّى تصل إلى حوالي ثلاثة آلاف ضِعْف حَجْمها العادي , وجعَلَها مَتِينة بحيث تستطيع تحمُّل وزن الجنين والمشيمة الذي يصل إلى بضع كيلوغرامات ! والأعجب من هذا أنَّ الرَّحم تعود لحجمها الطَّبيعي مباشرة بعد الولادة ! فماذا لو نَسي الخالقُ هذه الجزئيَّة , وبقيت المرأة بعد الوضع منتفخة البطن بقيَّة حياتها ؟!
أخيرًا , يقول الأطبَّاء أنَّ للرَّحم تقلُّصات قويَّة من حين لآخر قبل الحمل , ولو تمادت هذه التَّقلُّصات في فترة الحمل أيضًا لأدَّتْ إلى قتل الجنين أو دفعه خارجًا ‍! لكنَّ الخالق العليم أَمَر أن ترتفع نسبة هرمون البروجسترون Progestérone في بَدن المرأة مباشرةً بعد تلقيح بُوَيْضتها , فلا يتقلَّص الرَّحم بعد ذلك إلاّ بما يُريح الجنيَن ويعدّلُ وَضعه !

أفلا يدعو كلُّ هذا إلى الاعتقاد يقينًا بأنَّنا لم نأت إلى هذه الدُّنيا عن طريق الصُّدفة , وإنَّما خلقَنا اللَّهُ تعالى , القادر على كلِّ شيء , والذي يعلم بالتَّدقيق ما ينفعُنا وما يضرُّنا ؟!

---------------------- 5

نطفة الرَّجل هي التي تحدِّد جنس المولود !


ذكَرْنا أنَّ الرَّجلَ عندما يُجامع زوجته ويقذف ماءه في عنق رحمها , تنطلق الحيواناتُ المنويَّة في سباقٍ نَحْوَ البُوَيضة , ولا يصل في الأخير إلاَّ حيوان منوي واحد فقط , ويموت كلُّ الباقين . ويتمُّ التَّلاقح بأن يُدْخِل الحيوانُ المنوي رأسَه في جدار البُوَيْضة , فتتَّحدُ كْرُوموزومات Chromosomes الحيوان المنوي , وعددها 23 , بِكْرُوموزومات البُوَيْضة , وعددها 23 أيضًا , لِتَتكوَّنَ الخليَّةُ الأولى للجنين , وتسمَّى الزِّيجوت Zygote , وعدد كْرُوموزوماتها 46 . هذه الكْرُوموزومات هي التي تحمل البرنامج الوراثي , وهي بالتَّالي المسؤولة عن نقْل الصِّفات الوراثيَّة للجنين , مثل لون الشَّعر والجلد . 
وقد كانت دهشةُ علماء الأجنَّة كبيرة عندما اكتشفوا , فقط خلال القرن العشرين , أنَّ نطفة الرَّجل هي وحدها التي تُحَدِّد جنْسَ المولود , ذكرًا أم أنثى , وليس لِبُوَيْضة المرأة أيّ دَخْل في هذا الأمر !
ذلك أنَّ نطفة الرَّجل تحتوي على نَوعين من الحيوانات المنويَّة :
- النَّوع الأوَّل يحتوي على 22 كْرُوموزوم جسمي + 1 كْرُوموزوم جنسي يُشار إليه بحرف x .
- والنّوع الثّاني يحتوي على 22 كْرُوموزوم جسمي + 1 كْرُوموزوم جنسي يُشار إليه بحرف y . 
أمّا بُوَيْضة المرأة فهي من نوع واحد , وتحتوي على 22 كْرُوموزوم جسمي + 1 كْرُوموزوم جنسي يُشار إليه بحرف x . 
فإذا التقَى حيوان منوي من النَّوع الأوَّل ببُوَيْضة المرأة , تكُون الصِّبغة الجنسيَّة للزِّيجوت xx , فيأتي المولود أنثى . وإذا التقَى حيوان منوي من النَّوع الثَّاني ببُوَيْضة المرأة , تكُون الصِّبغة الجنسيَّة للزِّيجوت xy , فيأتي المولود ذكرًا . فنَوعُ الحيوان المنوي للرَّجل هو الذي يُحدِّد إذًا جنْسَ المولود . 
وهنا لا بُدَّ من الوقوف عند بعض الآيات في القرآن الكريم , فيها إشارة إلى هذه الحقيقة . يقول اللّه تعالى : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى 36 أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى 37 ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى 38 فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى 39 أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى 40 } (75- القيامة 36-40) . 
ويقول تعالى : { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى 42 وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى 43 وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا 44 وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى 45 مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى 46 } (53- النّجم 42-46) . ففي هذه الآيات ذكَر اللَّه تعالى أنَّه خلَق الذَّكر والأنثى من نطفة إذا تُمنَى (وفي الآيات السَّابقة : من نُطفة من منيّ يُمنَى) , أي من ماء الرَّجل , أي أنَّ جنس المولود , ذكرًا أم أنثى , حدَّده ماءُ الرَّجل فقط !
ويقول تعالى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ 223 } (2- البقرة 223) . وفي هذه الآية أيضًا إشارة إلى أنَّ جِنْس المولود , ذكرًا أم أنثى , يحدِّدهُ مَنِيُّ الرّجل فقط , وأنَّ رَحِمَ المرأة هو بِمَثابة حَرْث , إذا بذَر فيه الرَّجلُ حيوانًا مَنَويًّا من نوع x كانت الثَّمرة أنثى , وإذا بَذَر فيه حيوانًا مَنَويًّا من نوع y كانت الثَّمرة ذكرًا .
أليس في هذا دليلٌ علميّ آخر قويّ على أنَّ القرآن وحيٌ من عند اللَّه تعالى؟!

---------------------- 5

عندما ينضج الجلد يتوقّف الإحساس بالألم !


يتكوَّن جلدُ الإنسان من طبقة سطحيَّة رقيقة تُسمَّى البشرة Epiderme , تحتها طبقة أخرى تُسمَّى الأدَمة Derme . وقد كانت دهشة الباحثين في مجال الطِّبِّ والجراحة كبيرة عندما اكتشفوا أنَّ الأعصاب المسؤولة في الجسم عن الإحساس بالحرارة والبرودة والألم , تنتهي أطرافُها في الأدَمة . ووجدوا تحت البشرة شبكة هائلة جدًّا من الألياف العصبيَّة , مُهمَّتُها نَقْل هذه الأحاسيس إلى الدِّماغ . 
معنى هذا أنَّ كلَّ أنواع الإحساس في الجسم , يستقبلُها الجلد , ثمَّ ينقُلُها بسرعة هائلة عبر الأعصاب إلى الدِّماغ , فيُترجمها , ويشعر عندئذ الإنسان بالإحساس المعيَّن . وإذا حدث أن تمزَّقت أنسجةُ الجلد بسبب تعرُّضها لاحتراق شديد , فإنَّ الأعصاب الموجودة في هذا الجلد تموت , فينقطع بذلك الاتِّصال بمراكز الإحساس في الدِّماغ , ويَختفي عندها الشُّعور بالألم بعد أن كان قد بلَغ ذرْوَته !
نعم , قد تعجبين سيِّدتي لهذا الأمر , لكنَّ هذا ما يحدث فِعْلاً !
وستزداد دهشتك إذا قلتُ لك أنَّ للقرآن الكريم كلمة في هذا الموضوع ! يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا 56 وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً 57 } (4- النّساء 56-57) . 
فقد ذكر اللَّه تعالى هنا أنَّ الكفَّار سيَصلَون نارًا , كلَّما نضجتْ فيها جلُودُهم (وليس لُحومُهم) أُبدِلُوا جلودًا أخرى لِيَذوقوا العذاب ! ذلك أنّ نُضج الجلد يُؤدِّي إلى موت الأعصاب , وبالتَّالي إلى تَوقُّف الشُّعور بالألم , فوَجب عند ذلك إبدال الجلد المحترق بجلد جديد , لِيَتواصل العذاب ! وهذه الآية 56 تُعتَبر دليلاً صريحًا وواضحًا على أنَّ الذين يكْفرون باللَّه وآياته , سوف يَصلَوْن نارًا حقيقيَّة , ويشعرون فيها فعْلا بعذاب جسدي محسوس , شديد ومتواصل .
انتبهي سيِّدتي ! إنَّ الذين سيَصْلَوْن هذه النَّار حتَّى ينضجُوا فيها , هم بشرٌ مثلي ومثلك , غير أنَّهم لَم يكُونُوا على الدِّين الحقّ ! أفهذَا النُّزل خيرٌ , أم جنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهار وأزواج مُطهَّرة , أعدَّها اللَّه تعالى للَّذين آمنُوا وعملُوا الصَّالحات , خالدين فيها أبدًا ؟!
وقد عُرضتْ هذه الآية على Tejatat Tejasen , رئيس سابق لقسم الجراحة وعلْم الأجنَّة في جامعة Chiang Mai بتايلاندا , فقال : إنَّ الإحساس بالألم ينبعثُ فِعْلاً من الجلد , ويتوقَّف في حالة الاحتراق الشَّديد . ثمَّ سُئل إن كان يعرف الأستاذ Keith Moore , فأجاب : طبعًا أعرفه , إنَّه من رجال العلم البارزين في العالم ‍. وبعد ذلك , عُرضت عليه آيات قرآنيّة وأحاديث نبويَّة عن تطوُّر الجنين , فزادت دهشتُه وقال : من المستحيل أن تكون هذه المعلومات من عند محمَّد أو من عند بَشر آخر !
وبعد سنوات قليلة , استُدعي هذا الأستاذ لحضور المؤتمر الطِّبِّي الثَّامن في الرِّياض (بالسّعوديَّة) , حيث استمع لمحاضرات عن الإعجاز الطِّبِّي في القرآن الكريم وأحاديث النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فما كان منه إلاَّ أن أخذ الكلمة في آخر يوم في المؤتمر , وكان من جملة ما قال : أنا على يقين أنَّ كلَّ ما جاء في القرآن الكريم صحيحٌ , ويمكن التَّدليل على ذلك بالوسائل العلميَّة . وبما أنَّ محمَّدًا كان لا يعرف القراءة ولا الكتابة , فمِنَ الواضح أنَّنا بحضرة رسولٍ يأتيه الوَحيُ من عند الخالق العليم , وهذا الخالق هو اللَّه . لهذا , حان الوقت لي أن أشهد أن لا إله إلاَّ اللَّه وأنَّ محمَّدًا رسول اللَّه !

---------------------- 5

معجزة البصمات , دليل آخر على قدرة الخالق !


من المعروف اليوم أنَّ بصمات الأصابع هي خاصِّيَّةٌ مميَّزة لكلِّ إنسان . فهي لا تُورَث من الوالدين , بالرَّغم من أنَّ الأبناء يَرثون صفات كثيرة من أبَوَيْهم . ولا يُوجد اثنان فوق الكرة الأرضيَّة لهما نفس البصمات , حتَّى التَّوأمان من بطن واحدة ! ثمَّ إنَّ الطَّفل ينمو ويكبر , ولا تتغيَّر بصماتُ أصابعه !
وهذه الحقيقة لم يتمَّ اكتشافها إلاَّ في القرن التَّاسع عشر , وكان أوَّل من أشار إليها العالم التِّشيكوسلوفاكي Purkinje المختصّ في وظائف الأعضاء , والذي اقترح سنة 1823 م نظامًا لترتيب البيانات على أساس بصمات الأصابع . ومنذ ذلك الوقت , اعتُمِدت البصماتُ في بطاقات التَّعريف وفي سجلاَّت الشُّرطة , كدليل قاطع على شخصيَّة الإنسان . 

فهل أشار القرآن لهذا الأمر أيضا ؟! 
نعم ! يقول اللَّه تعالى : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ 3 بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ 4 } (75- القيامة 3-4) . فقد ذكَر اللَّهُ تعالى في الآية 4 قُدْرته على إعادة تركيب البَنَان , بينما كان بإمكانه مثلاً أن يذكُر قدرته على إعادة تركيب المخِّ أو الجهاز العصبي , الذيْن هما , بالنِّسبة لنا , أصعب وأَدقّ في الصُّنع من أطراف الأصابع . فما السِّرُّ في ذلك يا تُرى ؟
لعلَّ اللَّه تعالى أراد إذًا أن يُشير بهذه الآية إلى معجزة البصمات , أي أنَّه قادرٌ على إحياء كلِّ النَّاس بعد موتهم , وإعادة بَنان كلّ واحد منهم ببصماته المميَّزة . 
وأيًّا كانت الإجابة , فإنَّ هذه المعجزة هي في حدِّ ذاتها دليلٌ قاطع على أنَّ اللَّه واحد لا شريك له , وأنَّ قدرته مطلَقة . وإلاَّ , فكيف لا يتشابه اثنان في بصماتهما , والنَّاس يُعدّون بمئات المليارات منذ بدء الخليقة ؟!

---------------------- 5

ماذا لو لم يقبل اللَّه غير الإسلام ؟!


أرجوك أيُّها القارئ الكريم , ركِّز اهتمامك معي في هذا العنصر بالخصوص , لأنَّه هامٌّ جدًّا جدًّا بالنّسبة لك !
لقد ذكرتُ لك أنَّ إبراهيم وموسى وعيسى ومحمَّدًا , وكلَّ الأنبياء عليهم السَّلام , دَعَوْا إلى عبادة إلهٍ واحد , وهو اللَّهُ سبحانه وتعالى , وإلى اعتناق دين واحد , وهو الإسلام . وكلّ نبيٍّ دعَا قومه إلى الإيمان بجميع الأنبياء الذين سبَقُوه , وبالكُتُب التي أُنْزلَتْ عليهم , وهذا بدليل القرآن .
وبِحُكْم تَغَيُّر الأزمان وازدياد عدد سكَّان الأرض , كان لا بُدَّ , عند إرسال نبيٍّ جديد , من إدخال بعض التَّعديلات على التَّشريعات التي قبلَه , حتَّى تكون أكثر ملاءمة لاحتياجات النَّاس في الزَّمن الجديد . فكان التَّشريعُ الجديد ينسخ بعض التَّشريع الذي قبْله , والكتابُ الجديد ينسخ بعض ما جاء من تشريعاتٍ في الكتاب الذي سَبقه .
طبعًا , أصولُ العقيدة , مثل وحدانيَّة اللَّه تعالى , والإيمان بالملائكة والرُّسُل واليوم الآخر والحساب والجنَّة والنَّار , بقيَتْ ثابتة . 
فلمَّا بعثَ اللَّهُ تعالى محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم نبيًّا للنَّاس جميعًا , وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين , كان من المنطقي أن يُمِدَّه بتشريع يكون ملائمًا , ليس لِزَمانه فقط , وإنَّما لكلِّ الأزمان التي ستأتي بعده . لهذا , أكملَ له دينَ الإسلام ونسخَ كلَّ الشَّرائع التي قبْله , وأَنزلَ عليه القرآن ونسخَ كلَّ الكتُب السَّماويَّة التي سَبَقَتْه . فتشريعاتُ الإسلام هي أكملُ الشَّرائع , والقرآنُ الكريم هو معجزة كلّ الأزمان . وعلى هذا , فلن يقبلَ اللَّهُ بعد بعثة النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وحتَّى قيام السَّاعة , غير الإسلام دينًا والقرآن منهاجًا .
ولِتَوضيح هذا الأمر , لِنأخُذْ مثالاً مِمَّا هو معمولٌ به في مختلف بلدان العالم : المعروف أنَّ إدارة التَّعليم تقوم كلَّ بضع سنوات بإدخال بعض التَّعديلات على البرامج الدِّراسيَّة , آخذةً بعَيْن الاعتبار اكتشافاتٍ علميَّة جديدة أو طُرُق تعليم حديثة , لِتكُون البرامجُ الجديدة أكْثَر ملاءمة لاحتياجات الجيل الجديد من الطَّلَبة والمدرِّسين .
وبالطَّبع , يصدر على إثر ذلك كتابٌ جديد خاصّ بالمادَّة المنَقَّحة , ويُلْغَى العملُ بالكتاب القديم . وفي العادة , يتفهَّمُ كلُّ الأطراف هذا التَّجديد لأنَّ الغرض منه هو مصلحتهم جميعًا .
ولو نظرْنَا في كلِّ الميادين تقريبًا , لَوَجدنا أنَّ القوانين تُنَقَّح , والأوراق النَّقديَّة تُبدَّل , فيُلْغى العملُ بالنِّظام القديم ويحلُّ محلَّه النِّظامُ الجديد . وحتَّى إن وُجد بعضُ المعارضين , فإنَّهم لا يعارضون التَّجديد إطلاقًا , وإنَّما تجد لهم بعض الاعتراضات على القانون الجديد لأنَّه ليس بالضَّبط كما أرادوه أن يكون .
هذا تقريبًا ما فعله الخالقُ سبحانه مع خَلْقه , ولِلَّه المثَلُ الأعلى . فقد اختار الإسلامَ دينًا لِكُلِّ البشريَّة منذ بداية الخليقة , ثمَّ سَنَّ لِكُلِّ نبيٍّ جديد تشريعات جديدة تُناسِبُ المجتمع الذي بعثه إليه , وربَّما أنزلَ عليه كتابًا جديدًا . فلمَّا بعث محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم خاتمًا لكلِّ الأنبياء , أكملَ له الدِّين , يقول تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا } (5- المائدة 3) . وببعْثَة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , ألْغَى اللَّهُ تعالى العملَ بالتَّشريعات التي قبْله , وبالكُتب التي قبله . فلَنْ يقبلَ بعد ذلك , وحتَّى قيام السَّاعة , غيْرَ الإسلام الذي أكملَه لمحمَّد , ولن يقبل غيْرَ القرآن الذي أنزله على محمَّد . وهذا بِنَصَّ القرآن : يقول اللَّه تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ 83 قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 84 وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ 85 } (3- آل عمران 83-85) . 
الآية 85 إذًا واضحة وصريحة : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ 85 } .
طبعًا , اليهودُ الذين عاشُوا مِن زَمن موسى عليه السَّلام إلى قبل مجيء عيسى عليه السَّلام , والنَّصارى الذين عاشُوا من زَمن عيسى عليه السَّلام إلى قبل مجيء محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وكلُّ مَن تبع نبيَّ زمانه قبل أن يأتيه نبيٌّ آخر , كلّ هؤلاء , إذا اتَّبعُوا نَبيَّهُم واستقامُوا على شريعته ولَم يُبَدِّلُوا ولَم يُحرِّفُوا بعده شيئًا , فإنَّهم يُعتبَرُون مسلمين وماتوا على الإسلام , وإن شاء اللَّه يدخلُوا جنَّة الرَّحمن . يقولُ اللَّه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 62 } (2- البقرة 62) . فاليهُود والنَّصارى والصَّابئين (يُقال أنَّهم أتباعُ النَّبيِّ إدريس عليه السَّلام) المذكُورون في هذه الآية , هم فقط الذين عاشُوا قبل نُبوَّة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , لأنَّ القرآن لا يُناقض نفسَه . 
أمَّا بَعد نُبوَّة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وحتَّى قيام السَّاعة , فلَن يقبل اللَّهُ غير الإسلام الذي أكملَه لمحمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . وكلُّ مَنْ بلَغَتْه دعوةُ الإسلام , مِن نَصارَى ويهود وغيرهم , مِن بَعد نُبوَّة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وحتَّى قيام السَّاعة , فلم يقبلْها ومات على ذلك , سيُحرَم من دخول الجنَّة , ومن رؤية اللَّه عزَّ وجلَّ , وسيكون مصيرُه إلى النَّار خالدًا فيها ! هذا ما ذكَره القرآن : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ 85 } .
وأرجوكَ أيُّها القارئ الكريم , لا يكن ردّ فِعْلك على هذا الكلام أن تقول أنَّ هذا تعصُّبٌ للإسلام , وعدم اعتراف بالدِّيانات الأخرى ! بل فكِّرْ بهدوء , بعقلك وبمنطقك ! ارْجع إلى المثال الذي أخذناه فيما يخصّ التَّنقيحات في البرامج الدِّراسيَّة , واسمح لي أن أسألك : لو أنَّ إدارة التَّعليم في بَلَدك أدْخَلَتْ على مادَّة مُعيَّنة تعديلات تخدم مصلحة الطَّلَبة والمدرِّسين , وأصدرتْ بهذه المناسبة كتابًا جديدًا , ثمَّ أعلنتْ أنَّه ابتداءً من ذلك اليوم , سوفَ يقع العَمَل بالبرنامج الجديد وبالكتاب الجديد , ويُلغَى بالتَّالي العملُ بالكتاب القديم , هل ستَعتبر أنَّ قرار الإدارة ظالِم , أم بالعكس حكيمٌ وعادل ؟ 
بالطَّبع ستقول أنَّه قرارٌ حكيمٌ لأنَّه يتماشَى مع احتياجات الجيل الجديد , ويخدم مصلحتهم . 
حسنًا ! فماذا لو رفض بعضُ الطَّلبة والمدرِّسين البرنامج الجديد , لا لشيء إلاَّ لأنَّهم يُريدون أن يتشبَّثوا بالكتاب الذي درسَ به آباءُهم ؟
أغلبُ الظَّنِّ أنَّك ستقول أنَّ هؤلاء مُتَزمِّتون لأنَّهم يَرفضون ما فيه منفعتهم ! أليس كذلك ؟
فلماذا تجد إذًا صعوبة في قبول ما ذكرْتُه لَك , من أنَّ اللَّه عندما أنزل القرآن ألْغَى العملَ بالتَّوراة والإنجيل وغيرهما من الكُتب المقدَّسة , وعندما أكملَ الإسلامَ للنَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ألْغَى العملَ بالشَّرائع التي جاء بها موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء , عليهم السَّلام ؟ هل لأنَّ الأمر يتعلَّق بالدِّين ؟!
وإذا كنت تظُنُّ أنَّ إلغاء العمل بالكُتب السَّابقة يعني عدم الاعتراف بها وبِمَنْ جاء بها , فهذا غير صحيح ! فالمسلمُ يُؤمنُ حقيقةً , وليس مجرَّد كلام , بجميع الأنبياء السَّابقين , ويعتبرُهم أشْرف النَّاس , ويُؤمنُ بكلِّ الكُتب التي أُنزلتْ عليهم , ويعتبرها كُتبًا مقدَّسة . ويؤمنُ أيضًا أنَّ كلَّ مَنْ تَبِعَ نَبيَّ زمانه يكونُ إن شاء اللَّه من الفائزين برضاء اللَّه وجنَّته يوم القيامة . 
فأين المشكلة إذًا ؟! ومَنْ هو المتعصِّب في هذه الحالة : الذي امتثلَ لِقَرار اللَّه , فقَبِلَ التَّشريع الجديد وعملَ بالكتاب الجديد , أم الذي أصرَّ على العَمَل بالتَّشريع القديم وبالكتاب القديم ؟!
أخيرًا , لا تَنسَ أنَّ الآيات التي ذكرتُها لك في هذا العنصر , والتي أعلنتْ أنَّ اللَّه لَنْ يقبل غير الإسلام , مأخوذةٌ من القرآن الكريم , الكتاب الذي تحدَّثَ عن حقائق علميَّة لم يتمَّ اكتشافُها إلاَّ حديثًا , مِمَّا يدلُّ على أنَّه مُنزَّلٌ من عند اللَّه . فهذه الآيات هي إذًا كلامُ اللَّه , لا شكَّ في ذلك . فهل لديك اعتراضٌ على كلام خالِقِك ؟!
أسأل اللَّه أن يُزيل الغشاوة عن قلبك ويهديك إلى الإسلام . فربَّما تكون هذه أوَّل مرَّة تسمع فيها هذا الكلام , وربَّما لن تتوفَّر لك فرصة سماعه مرَّة أخرى , فتنشغل بأمور الدُّنيا , وتموت على غير الإسلام , فتخسر كلّ شيء ! نعم , تخسر كلّ شيء ! هذا ما ذكَرتْهُ الآية بكلِّ وضوح : { وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ 85 } .

---------------------- 5

ما يجب معرفته بخصوص التّوراة والإنجيل


ذكَر اللَّهُ تعالى في القرآن الكريم أنَّه أنزل التَّوراة على موسى والإنجيل على عيسى , عليهما السَّلام , وأنَّه أَوْكَلَ إلى أتباعهما حِفْظَ الكتابَيْن من أن تقع فيهما زيادة أو نقص أو تحريف .
يقول تعالى بخصوص التَّوراة : { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ 44 } (5- المائدة 44) . 
فاللَّهُ تعالى جعلَ إذًا الأحبارَ حَفَظَةً على التَّوراة . لكنَّهم لم يُحافِظوا عليها , وحرَّفُوها وبدَّلُوا فيها حَسْب أهوائهم , فأصبحتْ خليطًا مِن حَقّ وباطل . ففضَحهم اللَّه تعالى بقوله : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ 79 } (2- البقرة 79) . 
وقال أيضًا عنهم : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 78 } (3- آل عمران 78) . 
وقال أيضًا : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ 44 وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا 45 مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً 46 } (4- النّساء 44-46) .
وقال : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 71 } (3- آل عمران71) . 
وقال : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 75 } (2- البقرة 75) . 
وقال : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ 91 } (6- الأنعام 91) . 
وقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 174 } (2- البقرة 174) .
وقال : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ 15 } (5- المائدة 15) . 
كلُّ هذه الآيات إذًا تُبَيِّنُ أنَّ أحبار اليهود لَم يُحافِظُوا على التَّوراة التي أُنزِلَتْ على موسى عليه السَّلام , وحذفُوا منها وزادُوا مِن عندهم كما طاب لهم ! وعليه , فإنَّ التَّوراة الموجودة اليوم بين أيدي اليهود مُحَرَّفة بشهادة اللَّه في القرآن . 
ولِلْعلم , فإنَّ هذه التَّوراة , والتي ينسبُها اليهودُ إلى موسى عليه السَّلام , تتكوَّن من خمسة أسفار , هي : سفْر التَّكوين , وسفْر الخروج , وسفْر اللاَّويِّين , وسفْر العدد , وسفْر التَّثنية .
ولكن هناك أسفارٌ أخرى ينسبُها اليهود إلى أنبياء بني إسرائيل :
- منها أسفار تاريخيَّة , وعددُها اثنَا عشر , وهي : سفْر يشوع , سفْر القضاة , سفْر راعوث , سفْر صموئيل الأوَّل , سفْر صموئيل الثَّاني , سفْر الملوك الأوَّل , سفْر الملوك الثَّاني , سفْر أخبار الأيَّام الأوَّل , سفْر أخبار الأيَّام الثَّاني , سفْر عزرا , سفْر نحميا , سفْر أستير .
- ومنها أسفار الشِّعر والحكمة , وتُنسَبُ أغلبُها إلى داوُد وسليمان عليهما السَّلام , وعددها خمسة , وهي : سفْر أيُّوب , سفْر المزامير , سفْر الأمثال , سفْر الجامعة , سفْر نشيد الإنشاد .
- ومنها الأسفار النَّبويَّة , وعددها سبعة عشر , وهي : سفْر أشعياء , سفر أرمياء , سفْر مراثي أرمياء , سفْر حزقيال , سفْر دانيال , سفْر هوشع , سفْر يوئيل , سفْر عاموس , سفْر عوبديا , سفْر يونان , سفْر ميخا , سفْر ناحوم , سفْر حبقوق , سفْر صفينا , سفْر حجي , سفْر زكريَّا , سفْر ملاخي .
هذا إذًا بخصوص التَّوراة . 

أمَّا عن الإنجيل , فيقول اللَّه تعالى : { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ 46 } (5- المائدة 46) . 
ويُصرِّح اللَّهُ تعالى في آية أخرى أنَّ مجيء النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مذكُورٌ في التَّوراة التي أُنزلتْ على موسى وفي الإنجيل الذي أُنزل على عيسى , عليهما السَّلام , فيقول تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 157 } (7- الأعراف 157) . 
فالرَّسولُ النَّبيُّ الأُمِّيُّ المذكور هنا , هو محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . وحتَّى لا يترُكَ اللَّهُ تعالى لنا مجالاً للشَّكِّ في هذا الأمر , ذكَر في آية أخرى أنَّ عيسى عليه السَّلام بَشَّر أتباعَه أنَّه سيأتي من بعده نبيٌّ يُسمَّى أحمد (وهو محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم) . يقول تعالى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ 6 } (61- الصّفّ 6) . 
لكنَّ النَّصارى لم يتحدَّثُوا أبدًا بهذه البشارة , وعندما جاء النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم كَفَرُوا بِنُبُوَّته !
وإذا كان أحبارُ اليهود قد حرَّفُوا توراة نبيِّهم , فإنَّ النَّصارى أضاعُوا الإنجيل الذي أُنزِلَ على عيسى عليه السَّلام , ثمَّ كتبُوا من عندهم كُتُبًا عديدة أسْمَوْها أناجيل , وضمَّنُوها عقائد مُحرَّفَة بعيدة كُلَّ البُعد عن شريعة عيسى عليه السَّلام ! بل ووصل بهم الأمر أن ادَّعَوْا أنَّ عيسى ابنُ اللَّه , تعالى اللَّه عن قولهم عُلُوًّا كبيرًا ! 
فردَّ اللَّهُ تعالى على ادِّعائهم هذا ردًّا عنيفًا في مواضع عديدة من القرآن الكريم , من ذلك قوله تعالى : { وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ 30 اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 31 } (9- التّوبة 30-31) . 
وسنتحدَّثُ عن هذا الأمر بالتّفصيل , في عناصر لاحقة من هذا الكتاب بإذن اللَّه . 
هذا إذًا بعض ما ذكَره القرآنُ عن التَّوراة والإنجيل . 

أمَّا الباحثون في تاريخ الدِّيانات , فيقولون أنَّ التَّوراة الأصليَّة التي أُنزِلتْ على موسى عليه السَّلام أُتْلِفَت بعد موته خلال حرُوب بني إسرائيل مع بعض الملوك الطُّغاة , مثل بُخْتنصر Nabuchodonosor II سنة 586 قبل ميلاد المسيح . فحاولوا فيما بعدُ كتابتَها من جديد بالاعتماد على ذاكرتهم , فخلَطوا فيها كثيرًا من المعتقدات البعيدة عن شريعة نبيِّهم ! 
والتَّوراةُ الموجودة عند اليهود اليوم منقولة عن مخطوطات مختلفة , كَتَبَها كُتَّاب مختلفون , ليس في حياة موسى عليه السَّلام , وإنَّما بعد وفاته بأكثر من خمسة عشر قرن .. فقط ! فهي إذًا , بشهادة المؤرِّخين , ليست التَّوراة الأصليَّة .
وبالنِّسبة للإنجيل الذي أُنزلَ على عيسى عليه السَّلام والمذكُور في القرآن الكريم , فلَم يَجِد المؤرِّخون له أثَرًا ! ولكنَّ الذي ثَبتَ لَدَيْهم أنَّ بعضَ تلاميذ عيسَى عليه السَّلام , وبعضَ مَن جاء بعدَهم , كتَب كلّ واحد منهم كتابًا عن سيرة هذا النَّبيِّ الكريم وأقواله وتعاليمه , ولم يَقصد أبدًا من كتابته أن تُصبح مقدَّسة . فكانت هذه الكُتب تُسَمَّى "موعظة" , ثمَّ أُطلِقَ عليها اسم "مذكّرات الرُّسُل" , وذلك حوالَيْ سنة 150 م , ثمَّ سُمِّيَت أناجيل , وذلك عندما شعُرت الكنيسة بضَرورة أن يكون لديها أسفارٌ مُقَدَّسة مثل التي عند اليهُود ! ثمَّ بدأت الخلافات بين الكنائس في اختيار الأناجيل التي يُمكنُ اعتمادها , وفي ترتيبها في الكتاب المقدَّس ! 
وفي سنة 325 م , عُقِد أوَّل مجمع للكنائس 1er Concile de Nicée بِطَلب من إمبراطور روما قسطنطين الأوَّل , وكان الهدف منه الفصل في الخلاف الحاصل حول حقيقة عيسى عليه السَّلام . وانفضَّ المجمع بإقرار أنَّ عيسى ابنُ اللَّه ! وتَمَّ اختيار أربعة أناجيل فقط من بين حوالي سبعين إنجيلاً ! وهذه الأناجيل الأربعة هي المعتَمَدة اليوم عند مختلف فِرَق النَّصارى , وهي : إنجيل متى Saint-Matthieu , وإنجيل مرقس Saint-Marc , وإنجيل لوقا Saint-Luc , وإنجيل يوحنَّا Saint-Jean .
ومَنْ تأمَّل فيها , وجدَ بينها اختلافات جوهريَّة كثيرة , وهذا باعتراف النَّصارى أنفُسهم ! ويمكن الرُّجوع في هذا الأمر إلى أيّة موسوعة غربيَّة عن الدِّيانات .
ويُضيف المسلمون أنَّ هذه الأناجيل ليس هناك ما يُثبتُ صحَّة نسبتها إلى أصحابها , وأنَّها ليست مقدَّسة لأنَّها عملٌ بَشَري , وأنَّ فيها أقاويل مغلوطة لا يمكن أبدًا نِسْبَتها إلى اللَّه تعالى ولا إلى نبيِّه الكريم عيسى عليه السَّلام . وسنذكر في العناصر الموالية أمثلة عن ذلك , وسنذكر أيضًا أمثلة عن التَّحريفات الموجودة في توراة اليهود . 
ثمَّ إنَّ أيَّ باحث عن الحقيقة بإخلاص , يستطيع بفطرته السَّليمة وبعقله أن يتفطَّن , من خلال قراءته لهذه الكتب , إلى أنَّ فيها أقاويل لا يمكن أن تصدر عن خالق هذا الكون أو عن أحد أنبيائه الكرام .

---------------------- 5

لو كان موسى بيننا لتبرَّأ من توراة اليهود !


لِماذَا ؟! لِأنَّها ببساطة ليست هي التَّوراة المذكورة في القرآن , والتي أنزلَها اللَّهُ عليه ! وسأعرض عليك , سيِّدتي الكريمة , سيِّدي الكريم , فيما يلي العديد من الأدلَّة على ذلك , مع ملاحظة أنَّ التّرجمة العربيَّة لِنُصوص الكتاب المقدّس التي سنَستشهدُ بها في هذا الكتاب , مأخوذة كلُّها من موقع www.Bible.com , أي ترجمة النَّصارى أنفُسهم لِكِتابهم المقدَّس :

جاء في سفْر التَّثنية : فَماتَ هناكَ موسَى عَبْدُ الرَّبّ في أرض مُوآب حَسبَ قَوْل الرَّبِّ . ودفَنَه في الجِوَاء في أرض مُوآب مُقَابل بَيْت فَغُور , ولَمْ يَعرفْ إنسانٌ قَبْرَه إلى هذا اليَوم . وكان مُوسَى ابنَ مائة وعشرين سنة حينَ ماتَ , ولَم تَكِلْ عَينُه ولا ذهبتْ نَضارتُه . فَبَكَى بَنُو إسرائيل مُوسَى في عَربات مُوآب ثلاثينَ يومًا , فكملتْ أيَّامُ بُكاء مَناحة مُوسَى . (سفْر التّثنية – الإصحاح الرّابع والثّلاثون 5 – 8) . 
المعروفُ أنَّ التَّوراة أُنزلتْ على موسَى عليه السّلام في حياته . فهل يُعقَل إذًا أن يكون فيها خبرٌ , في الماضي وليس تنبُّؤ في المستقبل , أنَّك يا موسى قد مُتَّ ابن مائة وعشرين سنة , ودُفنتَ في أرض مُوآب , وبَكَى عليكَ بَنُو إسرائيل ثلاثين يَومًا ؟!
طبعًا لا يُعقَل ! وإنّما الأقرب إلى العقل أنَّ هذا الكلام كتبهُ إنسانٌ بعد وفاة موسى عليه السَّلام ودَفْنه وبُكَاء بني إسرائيل عليه . ولو كان هذا الأمر معقولاً , لَأصبح إذًا من المعقول أيضًا أن تكتبَ أنت في مذكِّراتك الشَّخصيَّة مثلاً : أنا متُّ عن سنِّ مائة سنة , ودُفنتُ في مكان كذا , وسنة 7000 م وقع كذا وكذا !! 

وجاء في سفْر العدد : وأمَّا الرَّجلُ مُوسَى فكانَ حليمًا جدًّا , أكثر من جميع النَّاس الذين على وجه الأرض . (سفْر العدد – الإصحاح الثّاني عشر 3) .
فهذا الثَّناءُ على موسى عليه السَّلام جاء بصيغة الماضي , وبالتَّالي ليس من المعقول أن يكون قد أوحيَ إليه في حياته من طرف اللَّه عزَّ وجلَّ ! وإنَّما المنطقُ يقول أنَّ هذا الكلام كتبه إنسانٌ بعد وفاة موسى عليه والسّلام , يَمدحُ فيه حِلْمَه .

وجاء في سفْر التّكوين : فلمَّا سمع أبرامُ أنَّ أخاه سُبِيَ , جَرَّ غِلْمانَه المتمرِّنين ولْدانَ بيته ثلاث مائة وثمانية عشر وتَبعَهُم إلى دان . (سفْر التّكوين – الإصحاح الرّابع عشر 14) .
وهذا الكلام لا يُمكنُ أن يكون أوحيَ على موسى عليه السَّلام , لأنَّ مدينة دان لم تُسَمَّ بهذا الاسم إلاَّ في عهد القُضاة , أي بعد وفاة موسى بأكثر من قرن ! والدَّليل على ذلك ما ذُكِر في سفْر القُضاة : ولَم يكُنْ مَن يُنقِذُ لأنَّها بعيدةٌ عن صيدُون , ولَم يكُن لهم أمرٌ مع إنسان وهي في الوادي الذي لِبَيْت رَحُوب . فَبَنَوا المدينة وسكَنُوا بها . ودَعوا اسمَ المدينة دانَ , باسْم دان أبيهم الذي وُلِدَ لإسرائيل . ولكنَّ اسمَ المدينة أوَّلاً لاَيش . (سفْر القضاة – الإصحاح الثَّامن عشر 28 – 29) .

وجاء في سفْر التّكوين , في قصَّة نوح عليه السّلام , أنَّ اللَّه أمَره أن يحمل معه في السَّفينة مِن كلِّ حَيٍّ زوجَيْن اثنين , ذكرًا وأنثَى : ولكن أقيمُ عهدي معكَ , فتدخلُ الفُلكَ أنتَ وبَنُوكَ وامرأتُكَ ونساءُ بنيكَ معكَ . ومن كلِّ حَيٍّ من كلِّ ذي جَسَدٍ اثْنَيْن من كُلٍّ تُدخِلُ إلى الفُلْك لاسْتِبْقائها معكَ , تكونُ ذكرًا وأنثَى . منَ الطُّيُور كأجْناسها ومنَ البهائم كأجناسها ومن كلِّ دبَّابات الأرض كأجناسه , اثْنَيْن من كُلٍّ تُدخِلُ إليكَ لِاسْتِبْقائها . (سفْر التّكوين – الإصحاح السّادس 18 – 20) .
ولكن جاء في نفس السِّفْر أنّ اللّهَ أمرَ نوحًا أن يحمل معه في السَّفينة من الطُّيور والبَهائم سبعة أزواج , وليس زوجَيْن اثنين : وقالَ الرَّبُّ لِنُوح : ادخُلْ أنتَ وجميع بيتكَ إلى الفُلْك لِأنِّي إيَّاكَ رأيتُ بارًّا لَديَّ في هذا الجيل . من جميع البَهائم الطَّاهرة تأخذُ معكَ سبعةً سبعةً , ذكَرًا وأنثَى , ومن البهائم التي ليستْ بطاهرَة اثْنَيْن : ذكَرًا وأنثَى . ومن طُيُور السَّماء أيضًا سبعةً سبعةً : ذكَرًا وأنثَى , لِاسْتِبْقاء نَسْلٍ على وَجْه كُلِّ الأرض . (سفْر التّكوين – الإصحاح السّابع 1 – 3) .
وهذا تناقض واضحٌ بين النُّصوص !

وجاء في سفْر الخروج أنَّ الإنسان لا يقدرُ أن يرى اللّه تعالى : وقال (أي اللَّهُ تعالى لِمُوسَى) : لا تقدر أن تَرَى وَجْهي لِأنّ الإنسانَ لا يَراني ويَعيش . (سفْر الخروج – الإصحاح الثّالث والثّلاثون 20) .
ولكن جاء في نفس السِّفْر أنَّ موسى وشيُوخ إسرائيل رأوا اللّه : ثمَّ صعدَ موسَى وهارونُ ونادابُ وأبيهُو وسبعُون من شُيُوخ إسرائيل . ورأوا إلَهَ إسرائيلَ وتحتَ رجْلَيْه شِبْهُ صَنعةٍ من العقيق الأزرق الشَّفَّاف وكذَاتِ السَّماء في النَّقاوة . (سفْر الخروج – الإصحاح الرّابع والعشرون 9 – 10) .
فأيُّ النَّصَّين أصحّ ؟!

حتَّى الأسفار التي ينسبُها اليهود إلى بعض أنبيائهم , تضمَّنتْ أيضًا تناقضات بين النُّصوص !
فقد جاء مثلاً في سفْر حزقيال : لِأجْل ذلك هكذا قال السَّيِّدُ الرَّبُّ : من أجْل أنَّكم ضججْتُم أكثر من الأمَم التي حَوالَيْكُم ولَم تسلُكُوا في فرائضي , ولَم تعملُوا حسبَ أحكامي ولا عملْتُم حسبَ أحكام الأمَم التي حوالَيْكُم . (سفْر حزقيال – الإصحاح الخامس 7) .
ولكن جاء في نفس السِّفر : فتعلَمُون أنِّي أنا الرَّبُّ الذي لَم تسلُكُوا في فرائضه ولَم تعملُوا بأحكامه , بل عملتُم حسبَ أحكام الأمَم الذين حولَكُم . (سفْر حزقيال – الإصحاح الحادي عشر 12) .
فهل عملَ بَنُو إسرائيل حسب أحكام الأمَم المجاورة أم لم يعملُوا ؟!

وجاء في سفْر صموئيل الثّاني : ولَم يَكُنْ لِميكالَ بنْتِ شاوُل وَلدٌ إلى يَوم موتها . (صموئيل الثَّاني – الإصحاح السَّادس 23) .
ولكن جاء في نفس السِّفْر : فأخذَ الملِكُ ابْنَيْ رصْفَة ابنَة أيَّة اللَّذَيْن ولَدَتْهُما لِشَاوُل : أرموني ومَفِيبُوشَث , وبَنِي مِيكالَ ابنَة شَاوُل الخمسَة الذين وَلَدَتْهُم لِعَدْرئيلَ بن بَرزلاّي المحوليّ . (صموئيل الثّاني – الإصحاح الحادي والعشرون 8) .
فهل كان لِميكالَ بنت شاوُل أولاد أم لا ؟! 

وتضمَّنت هذه الأسفار أيضًا ذكْر أحداثٍ , بصيغة الماضي , وقعَتْ بعد وفاة النَّبيِّ الذي يُنسبُ إليه السِّفْر ! 
فقد جاء مثلاً في سفْر النَّبيِّ يشوع بن نون , وصيّ موسى , عليهما السَّلام : وكانَ بعدَ هذا الكلام أنّه ماتَ يَشُوع بن نُون عبدُ الرَّبِّ ابن مائة وعَشر سنين . فدفنُوه في تُخُم مُلْكه , في تِمْنَة سارح التي في جَبَل أفْرايم شمالي جَبَل جاعش . (سفْر يشوع – الإصحاح الرّابع والعشرون 29 – 30) .
فكيف يمكنُ أن يكتُبَ يَشُوع عن نَفْسه أنّه ماتَ وعمرُه مائة وعشر سنين , ودُفِنَ في مكان كذا ؟!

وجاء في سفْر صموئيل الأوَّل : وماتَ صموئيلُ , فاجتمعَ جميعُ إسرائيل ونَدبُوه ودفنُوه في بَيْته في الرَّامَة , وقامَ داوُد ونزلَ إلى بَريَّة فارَان . (سفْر صموئيل الأوَّل – الإصحاح الخامس والعشرون 1) .
فكيف يُعقل أن يَكتُب النَّبيُّ صموئيل عن نفسه أنَّه مات ودُفن ؟! وإذا كان خبرُ موته قد ذُكِر في السِّفر الأوَّل , فمَن أَكملَ كتابة هذا السِّفْر ؟! ومَن كتبَ السِّفْر الثّاني الذي يُنسبُ أيضًا لهذا النَّبيّ ؟!
وتبقى الأمثلة كثيرة في هذا المجال . 

ولو أنَّكَ سيِّدي سألتَ اليهود عن مصدر التَّوراة التي بين أيديهم اليوم , لَقالُوا جميعًا أنّها كلامُ اللَّه أنزلهُ على موسى عليه السَّلام ! لكن لو سألتَهُم كيف شقَّتْ طريقها عبر آلاف السِّنين حتّى وصلَتْ إليهم بأمانة , دون أيِّ تحريف ؟ ومَن الذي نسخَها عن مَن , حتَّى نصل إلى موسى عليه السَّلام ؟ وما ردُّكم على التّناقضات الواضحة التي تحتوي عليها ؟ لَما وجدتَ أحدًا يُجيبُك عن هذه الأسئلة ! وإن أجابك البعضُ , فستجد إجاباتهم متناقضة جدًّا , ولا ترتكز على عقل ولا منطق ‍‍!

---------------------- 5

ولو كان موسى بيننا لتبرَّأ من اليهود !


لِماذَا ؟! لأنَّهم نسبُوا النّقائص إلى اللَّه سُبحانه , واتَّهموا أنبياءه بالزِّنا وشُرب الخمر , وحرَّفُوا التّوراة وأضافُوا إليها أكاذيب تقشعرّ منها الأبدان , وادَّعَوا أنَّ كلّ ذلك وحيٌ من عند اللَّه ! وسأعرض عليك , سيِّدتي الكريمة , سيِّدي الكريم , فيما يلي العديد من الأدلَّة على ذلك :

أمَّا الأكاذيب على أنبياء اللَّه , فقد جاء في سفْر التّكوين : وصَعدَ لُوط من صُوغَر , وسكنَ في الجبَل وابْنَتاه معه لأنَّه خافَ أن يسكُنَ في صُوغَر . فسكنَ في المغَارة هو وابْنتاهُ . وقالت البكْرُ للصَّغيرة : أبُونا قد شاخَ وليسَ في الأرض رجلٌ لِيَدخُلَ علينا كعادة كلِّ الأرض . هلُمَّ نَسْقِي أبانَا خَمْرًا ونَضْطجع معه فَنُحْيِي مِنْ أبينَا نَسْلاً . فَسَقَتَا أبَاهُما خَمْرًا في تلكَ اللَّيلة , ودخلَت البِكْرُ واضْطَجَعَتْ مع أبيها ولَمْ يَعْلَمْ باضْطِجاعِها ولا بقِيَامها . وحدثَ في الغَد أنَّ البكْرَ قالتْ للصَّغيرة : إنِّي قد اضْطَجَعتُ البارحةَ مع أبي , نَسْقِيه خَمْرًا اللَّيلَة أيضًا , فادْخُلي اضْطَجِعِي معه فَنُحْيِي مِنْ أبينَا نَسْلاً . فَسَقَتَا أباهُما خَمْرًا في تلكَ اللَّيْلَة أيضًا , وقامَت الصَّغِيرة واضْطَجعَتْ معه ولَم يَعْلَم باضْطِجاعِها ولا بِقِيَامِها . فحَبَلَت ابْنَتَا لُوطٍ مِنْ أبيهِما . فوَلَدَت البكْرُ ابْنًا ودَعَت اسْمَهُ مُوآب , وهو أبُو الموآبِيِّين إلى اليَوم . والصَّغيرةُ أيضًا ولَدَت ابْنًا ودَعَت اسْمَهُ بنْ عَمِّي , وهو أبُو بَني عَمُّونَ إلى اليَوم . (سفْر التّكوين – الإصحاح التّاسع عشر 30 - 37) .
سُبحان اللّه ! هل تُصدِّق سيِّدي الكريم أنَّ النَّبيَّ لوطًا عليه السَّلام الطَّاهر العفيف , يشربُ خمرًا ثمَّ يزني بابْنَتَيْه , فيُنجِبان له ولَدَين , ثمَّ يفضحُ اللَّه تعالى نبيَّه هذا في التَّوراة المقدَّسة !!
واللَّهِ إنَّ هذا لكذبٌ وافتراءٌ على اللَّه تعالى وعلى نبيِّه الطَّاهر الشَّريف . ويكفي لوطًا فخرًا أنَّ اللَّهَ تعالى شهد له في القرآن الكريم بأنَّه كان من الصَّالحين , يقول تعالى : { وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ 74 وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ 75 } (21- الأنبياء 74-75) . 

وجاء في سفْر التّكوين : فأُخْبِرَتْ ثَامار : هُوَ ذَا حَمُوكِ صاعدٌ إلى تِمْنَة لِيَجُزَّ غَنَمَهُ . فخَلعَتْ عنها ثِيَابَ تَرَمُّلِها وتَغطَّتْ ببُرْقُع وتلَفَّفَتْ , وجلَسَتْ في مَدْخَل عَيْنَايم التي على طريق تِمْنَة , لِأنَّها رأتْ أنَّ شِيلَة قَد كَبُرَ وهي لَم تُعْطَ له زوجة . فنَظَرها يَهُوذَا وحَسِبَها زانِيَة لِأنَّها كانتْ قد غَطَّتْ وَجْهها . فَمالَ إليْها على الطَّريق وقال : هاتِي أدخُلْ علَيْكِ , لِأنَّه لَم يَعلَمْ أنَّها كنَّته , فقالتْ : ماذا تُعْطِيني لِكَيْ تَدْخُلَ علَيَّ ؟ فقالَ : إنِّي أُرْسلُ جَدْيَ مِعْزَى مِنَ الغَنَم , فقالتْ : هلْ تُعْطيني رَهْنًا حتَّى تُرْسِلَه ؟ فقالَ : ما الرَّهْنُ الذي أعْطِيكِ ؟ فقالتْ : خاتمكَ وعِصابتك وعصاكَ التي في يَدِك , فأعطاها , ودخلَ عليْها , فحَبَلَتْ منه . (سفْر التّكوين – الإصحاح الثّامن والثّلاثون 13– 18) .
فهل يُعقَل سيِّدتي الكريمة أن يحكي اللَّه تعالى على صفحات كتابه المقدَّس كيف يزني الأبُ بزوجة ابنه ؟!! هل يُعقل أن تكون هذه هي التَّوراةُ التي وصفها اللَّهُ في القرآن الكريم بأنَّ فيها هُدًى ونُورًا ؟! 
أبدًا , لا يُعقل ! ولا يُمكنُ لأيِّ عاقل أن يُصدِّق أنَّ هذا الكلام وحيٌ من عند اللَّه .

وجاء في سفْر التّكوين : وابتدأ نُوح يكونُ فلاَّحًا وغرَسَ كَرْمًا . وشربَ من الخمْر فسَكرَ وتَعرَّى داخلَ خبائه . فأبصرَ حامٌ أبُو كَنْعان عَوْرةَ أبيه وأخبرَ أخَوَيْه خارجًا . فأخذَ سامٌ ويافَثُ الرِّداء ووضعاهُ على أكتافهما , ومَشَيَا إلى الوراء وسَتَرَا عَوْرةَ أبيهما ووجهاهُما إلى الوراء , فلم يُبصِرا عَوْرةَ أبيهما . فلمَّا استيقظَ نوحٌ من خَمره علمَ ما فعلَ به ابنهُ الصَّغير . فقالَ : مَلعونٌ كَنعانُ , عبدُ العبيد يكونُ لإخوته . وقال : مُباركٌ الرَّبُّ إلهُ سام , ولْيَكُنْ كنعانُ عبدًا له . (سفْر التّكوين – الإصحاح التّاسع 20 – 26) .
فهل يُعقل أن يَشرب نوحٌ عليه السَّلام الخمر ويتعرَّى , ثمَّ يفيقُ ويعلمُ بِمَا فعل ابنُه حام , فيصُبُّ غضبه على كنعان (ابن حام) , الذي ليس له أيّة علاقة بالأمر ؟!!
واللَّهِ إنَّ كلّ هذا لَكذبٌ وافتراء على نبيّ اللَّه نوح عليه السَّلام ! وأين هذا من تكريم اللَّه سُبحانه لِنُوح في القرآن الكريم , حيث يقول تعالى : { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ 75 وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ 76 وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ 77 وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ 78 سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ 79 إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 80 إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 81 ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ 82 } (37- الصّافّات 75-82) . 

وجاء في سفْر العدد : فلمَّا سمع موسَى الشَّعبَ يبكونَ بعشائرهم , كلُّ واحد في باب خَيمته وحَميَ غضبُ الرَّبِّ جدًّا , ساء ذلكَ في عَيْنَيْ موسَى . فقال موسَى للرَّبّ : لِماذَا أسأتَ إلى عبدِكَ , ولِماذَا لَم أجِدْ نِعمَة في عَيْنَيْكَ حتّى أنَّكَ وضعتَ ثِقْلَ جميع هذا الشَّعب عَلَيَّ ؟ ألَعَلِّي حبلْتُ بجميع هذا الشّعب أو لَعَلِّي ولدتُه حتَّى تقولَ لي احْمِلْهُ في حِضنكَ كما يحملُ المربِّي الرَّضيعَ إلى الأرض التي حلفْتَ لِآبائه ؟ من أينَ لي لَحمٌ حتَّى أعطي جميعَ هذا الشّعب لأنَّهم يبكونَ عَليَّ قائلين : أعطِنَا لَحمًا لِنأكُلْ . لا أقدرُ أنا وحدي أن أحملَ جميعَ هذا الشّعب لأنَّه ثقيلٌ علَيَّ . فإن كنتَ تفعلُ بي هكذَا فاقْتُلْني قتلاً إن وجدتُ نِعْمَة في عَيْنَيْكَ فلا أرى بَلِيَّتي . (سفْر العدد – الإصحاح الحادي عشر 10 - 15) .
حتَّى موسَى عليه السَّلام , أعظم أنبياء بني إسرائيل , لَفَّق له اليهودُ هذا الكلام الذي فيه إساءة أدَب في الحديث إلى اللَّه , وهو منه براء !! 

وجاء في سفْر الخروج : ولَمَّا رأى الشَّعبُ أنَّ موسَى أبطأ في النُّزول من الجبل , اجتمع الشَّعبُ على هارون وقالُوا له : قُم اصنعْ لنا آلهةً تسيرُ أمامنا لأنَّ هذا موسَى الرَّجل الذي أصعَدَنا من أرض مَصْر لا نعلمُ ماذا أصابَه . فقالَ لهم هارون : انزعُوا أقراطَ الذَّهب التي في آذان نسائكُم وبَنيكُم وبناتكُم وأتُونِي بها . فنزعَ كلُّ الشّعب أقراطَ الذَّهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون . فأخذ ذلكَ من أيديهم وصَوَّره بالإزميل وصَنعه عِجْلاً مَسْبُوكًا , فقالُوا : هذه آلِهتُكَ يا إسرائيلُ التي أصعدتكَ من أرض مصر . (سفْر الخروج – الإصحاح الثّاني والثّلاثون 1 – 4) .
فهل يُعقَل أن يُتَّهَم هارون عليه السَّلام بأنَّه هو الذي صنع لِبَني إسرائيلَ عجلاً من الذَّهب لِيَعبُدوه ؟!! حاشَى له وكلاَّ أن يفعل ذلك !

ونكتفي بمثال واحد من الأسفار التي ينسبُها اليهود إلى أنبيائهم : جاء في سفْر صموئيل الثَّاني : وكانَ في وقْت المساء أنَّ داوُد قامَ عن سريره وتَمشَّى على سطح بيت الملِك , فرأى مِنْ على السَّطح امرأةً تَستحِمُّ , وكانت المرأةُ جميلَةَ المنظر جدًّا . فأرسلَ داوُد وسألَ عن المرأة , فقال واحدٌ : أليسَتْ هذه بَتْشَبَع بِنْت أليعَام امرأةَ أوريَّا الحِتِّي . فأرسلَ داوُد رُسُلاً وأخذَها , فدخلتْ إليه فاضطجعَ معها وهي مُطَهَّرةٌ من طَمْثِها , ثمَّ رجعتْ إلى بيتها . وحبلَت المرأةُ , فأرسلَتْ وأخبرتْ داوُد وقالتْ : إنِّي حُبْلَى . فأرسلَ داوُد إلى يُوآب يقول : أرسلْ إلَيَّ أوريَّا الحِتِّي , فأرسلَ يُوآب أوريَّا إلى داوُد . فأتَى أوريَّا إليه , فسألَ داوُد عن سلامة يُوآب وسلامة الشَّعب ونَجاح الحرْب . وقالَ داوُد لِأوريَّا : انزلْ إلى بيتكَ واغسلْ رجْلَيكَ . فخرجَ أوريَّا من بيت الملِك , وخرجتْ وراءهُ حِصَّة من عند الملِك . ونامَ أوريَّا على باب بيت الملِك مع جميع عبيد سيِّده , ولَم ينزلْ إلى بيته . فقالُوا لِداوُد : لَم ينزلْ أوريَّا إلى بيته . فقالَ داوُد لِأوريَّا : أمَا جئتَ من السَّفر ؟ فلماذَا لَم تنزلْ إلى بيتكَ ؟ فقال أوريَّا لِداوُد : إنَّ التَّابُوتَ وإسرائيل ويَهُوذا ساكنُون في الخيام , وسيِّدي يُوآب وعبيدُ سيِّدي نازلُون على وجه الصَّحراء , وأنا آتي إلى بيتي لِآكُلَ وأشربَ وأضطجع مع امرأتي ! وحياتِكَ وحياة نفسكَ لا أفعلُ هذا الأمر . فقال داوُد لِأوريَّا : أقِمْ هنا اليومَ أيضًا , وغدًا أطْلقُك . فأقامَ أوريَّا في أورشَليم ذلكَ اليومَ وغَده . ودعاهُ داوُد فأكلَ أمامه وشربَ وأسْكَره . وخرج عند المساء لِيَضطجعَ في مَضجعه مع عبيد سَيِّده , وإلى بيته لَم ينزلْ . وفي الصَّباح كتبَ داوُد مكتوبًا إلى يُوآب وأرسلهُ بيد أوريَّا . وكتب في المكتوب يقول : اجعلُوا أوريَّا في وَجه الحرب الشّديدة , وارجعُوا من ورائه فيُضرب ويَموت . وكان في مُحاصرة يُوآب المدينة أنَّه جعلَ أوريَّا في الموضع الذي علِمَ أنَّ رجالَ البأس فيه . فخرج رجالُ المدينة وحاربُوا يُوآب , فسقطَ بعضُ الشَّعب من عبيد داوُد , ومات أوريَّا الحِتِّي أيضًا . (سفْر صموئيل الثّاني – الإصحاح الحادي عشر 2 – 17) .
نعم , هكذا يجترِئُ أحبارُ اليهود على أنبياء اللَّه , ويُلْصِقُون بهم أكبر الفواحش , وهم منها بَراء , ويَنشرون هذه الفضائح على صفحات كتابهم المقدَّس , ويدَّعون أنَّ كلَّ ذلك وحيٌ من عند اللَّه !!
فهل يُعقَل أن يزني النَّبيُّ داوُد عليه السَّلام بزوجة أحد جنوده الذي خرج للحرب , ثمَّ يُدبِّر مكيدة لِقتل هذا الجنديّ حتَّى لا يفتضح الأمر ؟!
هل يُعقَل أن تكون هذه أخلاقُ أنبياءٍ اصطفاهُم اللَّهُ من بين خلْقه ليحملُوا رسالاته ويكونُوا قُدوة للنَّاس ؟!!
أبدًا , لا يُعقل ! فالأنبياء جميعُهم , بدون استثناء , هم صَفْوةُ البَشَر , وكانُوا على أفضل خُلُق , وقد شهد اللَّه تعالى لهم بذلك في آيات عديدة من القرآن الكريم .

وأمَّا الأكاذيبُ على اللَّه تعالى , فقد جاء في سفْر التّكوين : وفرغَ اللَّهُ في اليوم السَّابع من عَمَله الذي عَمل . فاستراح في اليوم السَّابع من جميع عَمَله الذي عَمل . وباركَ اللَّهُ اليومَ السَّابع وقدَّسهُ لأنَّه فيه استراح من جميع عَمَله الذي عمل اللَّهُ خالقًا . (سفْر التّكوين – الإصحاح الثّاني 2 – 4) .
فهل يُعقَل أنَّ خالق هذا الكون بِما فيه , يتعبُ مثل البشَر ويحتاج إلى الرَّاحة بعد ستَّة أيَّام من العمل المتواصل ؟!! أبدًا , لا يُعقل ! 

وجاء في سفر التّكوين أيضًا : ورأى الرَّبُّ أنّ شَرَّ الإنسان قد كثُر في الأرض , وأنّ كلَّ تَصَوُّر أفكار قَلبِه إنَّما هو شِرِّيرٌ كلَّ يوم . فحزنَ الرَّبُّ أنَّه عملَ الإنسانَ في الأرض وتأسَّف في قلبه . فقال الرَّبُّ : أمْحُو عن وجه الأرض الإنسانَ الذي خَلَقْتُه : الإنسان مع بهائم ودبَّابات وطيور السَّماء لأنِّي حزنتُ أنِّي عملْتُهم . (سفْر التّكوين – الإصحاح السّادس 5 – 7) .
فهل يُعقَل أنَّ خالق هذا الكون بِما فيه , والعليم بما كان وما سيكون , يحزن ويتأسَّف ويندم أنَّه خلق الإنسان ثمَّ يُقرِّر مَحوه عن وجه الأرض ؟!! أبدًا , لا يُعقل !

وجاء في سفْر الخروج : وقالَ الرَّبُّ لِمُوسى وهارون في أرض مصر ... فإنِّي أجتازُ في أرض مصر هذه اللَّيلة , وأضربُ كلَّ بكْر في أرض مصر من النَّاس والبهائم , وأصنعُ أحكامًا بكلِّ آلهة المصريِّين , أنا الرَّبّ . ويكونُ لكم الدَّمُ علامة على البُيُوت التي أنتم فيها , فأرى الدَّمَ وأعبُر عنكم , فلا يكونُ عليكم ضربة للهلاك حينَ أضربُ أرضَ مصر . (سفْر الخروج – الإصحاح الثّاني عشر 1 – 13) .
أي أنَّ اللّهَ , حسبَ زعم اليهود , يحتاج أن يرى علامةَ الدَّم على بيوت بني إسرائيل , لكي لا يُخطئ ويُعاقبهم أيضًا عندما ينزل لمعاقبة المصريِّين ! تعالى اللَّهُ عَمَّا يقولون عُلُوًّا كبيرًا !!

وجاء في سفْر الخروج أيضًا : وقالَ الرَّبُّ لِموسَى : رأيتُ هذا الشَّعبَ وإذا هو شعبٌ صُلبُ الرّقَبة . فالآن اتْرُكني لِيَحمَى غضَبي عليهم وأُفنيهم فأصَيِّرَك شعبًا عظيمًا . فتضرَّع موسَى أمام الرَّبِّ إلَهه , وقال : لِماذا يا رَبّ يَحْمَى غَضَبُكَ على شعبكَ الذي أخرجْتَهُ من أرض مصر بقُوَّة عظيمة ويَدٍ شديدة ؟ لِماذا يَتكلَّمُ المصريُّون قائلين : أخرجَهُم بِخُبْث لِيَقتُلَهم في الجبال ويُفنيهم عن وجه الأرض ؟ ارجعْ عن حُمُوِّ غَضَبك وانْدَم على الشَّرِّ بشَعبك . واذكُرْ إبراهيمَ وإسحاقَ وإسرائيل عبيدَك الذين حلفْتَ لهم بنَفْسِكَ وقلتَ لهم أكَثِّرُ نسلَكُم كنُجُوم السَّماء وأعطي نسلَكُم كلَّ هذه الأرض التي تكلَّمتُ عنها فيَملكُونَها إلى الأبَد . فندمَ الرَّبُّ على الشَّرِّ الذي قال إنَّه يَفعلُه بِشَعْبه . (سفْر الخروج – الإصحاح الثّاني والثّلاثون 9 – 14) .
فهل يُعقل أنَّ اللَّه الحكيم العليم فكَّر في فعل شيء , فوَعظهُ موسَى وطلب منه العدول عن ذلك , فاتَّعظ اللَّهُ وندم على ما كان سيفعلُه ؟!! بل , هل يُعقل أن يَنسبَ اللَّهُ تعالى إلى نفسه كلَّ هذه النَّقائص , ثمَّ يُنزلُها في توراته المقدَّسة لكي يقرأها موسى على بني إسرائيل , ثمَّ تتناقلُها الأجيالُ من بعده ؟!!
طبعًا لا يُعقل ! ومع ذلك فإنَّ اليهود اليوم يقرأون هذه الأكاذيب , ويُصرُّون على أنَّها كلام اللَّه !!

وجاء في سفْر اللاَّويِّين : وقالَ الرَّبُّ لِمُوسَى : قُل لِهارون : إذا كان رجُلٌ من نَسْلِكَ في أجيالِهم فيه عيبٌ فلا يتقدَّم لِيُقَرِّبَ خُبْزَ إلَهه , لأنَّ كُلَّ رجُل فيه عيبٌ لا يتقدَّم . لا رجُلٌ أعمَى ولا أعرج ولا أفطَس ولا زوائدي . ولا رجُل فيه كَسْرُ رِجْلٍ أو كَسْرُ يَد . ولا أحدَبُ ولا أكثم ولا مَنْ في عينه بياض ولا أجْرب ولا أكْلَف ولا مَرضُوض الخصَى . كلُّ رجُل فيه عَيْبٌ مِن نَسْل هارون الكاهن لا يتقدَّم لِيُقرِّب وَقَائِدَ الرَّبّ , فيه عيبٌ لا يتقدَّم لِيُقرِّب خُبْزَ إلَهه , خُبْز إلَهه مِنْ قُدس الأقداس , ومنَ القُدْس يأكُل , لكن إلى الحجاب لا يأتي , وإلى المذبح لا يقتربُ , لأنَّ فيه عَيْبًا لِئلاَّ يُدنِّسَ مَقدسي لأنِّي أنا الرَّبُّ مُقدِّسُهم . (سفْر اللاَّويِّين – الإصحاح الحادي والعشرون 16 – 23) .
فهل يُعقل أنَّ اللَّه العادل الرَّحيم , لا يقبلُ ذبائح أصحاب الإعاقات الجسديَّة , ويَمنعهُم حتَّى من الاقتراب من المذبح بدعْوى أنَّهم نَجَس ؟!! هل يُعقل أنَّ اللَّه الحليم الكريم , ينظرُ إلى الأعمى والأعرج والأحدب ومكسور اليد أو الرِّجْل , على أنَّهم نَجَس ؟!! أيُّ افتراء هذا على اللَّه سُبحانه وأيُّ اجتراء على جلاله وعظمته ؟!!

وتضمَّنت الأسفار التي ينسبُها اليهود إلى بعض أنبيائهم أكاذيبَ أيضًا على اللَّه لا يقبلُها عقلٌ ولا منطق ! ونكتفي بذكر ثلاثة أمثلة فقط حتّى لا نُطيل :
جاء في سفْر ميخا أنَّ اللَّه تعالى قال عن نفسه : من أجل ذلكَ أنُوحُ وأُوَلْوِلُ , أمشِي حافيًا وعريانًا , أصنعُ نَحيبًا كبنات آوى , ونَوحًا كرعال النَّعام . (سفْر ميخا – الإصحاح الأوّل 8) .
وجاء في سفْر المزامير : فاستيقظَ الرَّبُّ كَنائِم , كجبَّار مُعَيِّط من الخمْر , فضربَ أعْداءَه إلى الوراء , جعلَهم عارًا أبديًّا . (سفْر المزامير – المزمور الثّامن والسّبعون 65) . 
فهل يُعقل أن يُوصَف خالقُ السَّماوات والأرض وكلّ شيء في هذا الكون , بأنَّه يَنوح ويُوَلْولُ ويمشي حافيًا عريانًا , ويستيقظ مثل المخمور ؟!! تعالى اللّه عن قول الظّالمين عُلُوًّا كبيرًا !! 

وجاء في سفر صموئيل الثّاني : هكذا قال الرَّبّ : هائَنَذَا أُقيمُ عليك الشَّرَّ من بيتكَ , وآخُذُ نساءَكَ أمام عَيْنَيْكَ وأُعطيهنَّ لِقَريبِكَ , فيَضْطجع مع نِسائكَ في عَيْن هذه الشَّمس . (سفْر صموئيل الثّاني – الإصحاح الثّاني عشر 11) .
فهل يُعقل أنَّ اللَّه تعالى يُعاقبُ داوُد عليه السَّلام بأن يأخذَ نساءَه ويُعطيهنَّ لِقَريبه لِيَزني بهنَّ !! أيّة وقاحة هذه وأيُّ بُهتان عظيم على اللَّه سبحانه ؟!! 

وبالإضافة إلى الافتراءات على اللَّه تعالى وعلى أنبيائه الكرام , فقد تضمَّنت هذه الأسفار أيضًا قصصًا جنسيَّة يندَى لها جبينُ الحياء خجلاً !! وواللَّهِ إنَّ أيَّ إنسان عاقل لَيستطيع فقط بمجرَّد قراءتها أن يتيقَّن أنّها يستحيلُ أن تكون نصوصًا مُقدَّسة , وأنَّ مكانها الحقيقي هو .. كتُب الجنس !! وسأنقلُ لك سيّدي الفاضل بعض الأمثلة , وأرجو المعذرة لِقُبح ما ستقرأه , ولولا اضطراري للاستشهاد بها لَما سمحتُ لِنَفسي أن أنقلها في هذا الكتاب :
جاء في سفْر حزقيال : وكان إلَيَّ كلامُ الرَّبّ : يا ابنَ آدم , كانت امرأتَان ابْنَتَا أمٍّ واحدة , زَنَتَا بِمصْر في صِبَاهما , هناك دُغْدِغَتْ ثُدِيُّهُما , وهناك تزغْزَغَتْ ترائبُ عُذْرَتهما . واسمُها أهُولة الكبيرة وأهُوليبة أخْتُها ... ولَم تترُكْ زِنَاها من مصر أيضًا لأنّهم ضاجعُوها في صِبَاها وزغزغُوا ترائبَ عُذرتها وسكبُوا عليها زِنَاهُم ... فأتاها بَنُو بابل في مَضْجع الحُبِّ ونَجَّسُوها بزِنَاهُم , فتنجَّستْ بهم وجفَتْهُم نَفْسُها . وكشفَتْ زناها وكشفتْ عورَتها , فجَفَتْها نَفْسي كما جفتْ نَفْسي أخْتَها ... وعشقَتْ مَعشُوقيهم الذين لَحْمُهم كلَحْم الحمير ومَنِيُّهم كَمَنِيِّ الخَيْل ... (سفْر حزقيال – الإصحاح الثّالث والعشرون 1 – 21) .
فهل يُعقَل أن تأتي هذه الجُمل القذرة من اللَّه سُبحانه وتعالى ؟!!
أبدًا , لا يُعقَل !
وهل يجرؤُ رجالُ الدِّين على قراءة هذا الكلام الفاضح في المناسبات الدِّينيَّة , أمام الرِّجال والنِّساء والأطفال ؟!! 
طبعًا لا يَجرؤون على فعل ذلكَ !

وجاء في سفْر الأمثال المنسُوب إلى النَّبيِّ سُلَيْمان عليه السَّلام : هَلُمَّ نَرْتَوِ وُدًّا إلى الصَّباح , نتلذَّذُ بالحبِّ لِأنَّ الرّجُلَ ليس في البيت , ذهبَ في طريق بعيدة . (سفْر الأمثال – الإصحاح السّابع 18 – 19) .
وجاء في سفْر نشيد الأناشيد المنسُوب أيضًا إلى النَّبيِّ سُلَيْمان عليه السّلام : ما أجملَ رِجْلَيْكِ بالنَّعلَيْن يا بنتَ الكريم , دوائرُ فَخذَيْكِ مثل الحليِّ صَنْعَة يَدَيْ صنَّاع , سُرَّتكِ كأسٌ مُدَوَّرة لا يُعْوِزُها شرابٌ ممزوجٌ . بَطْنُكِ صُبرةُ حِنْطَة مُسَيَّجة بالسَّوسن . ثَدْيَاكِ كَخِشْفَتَيْن تَوْأمَيْ ظَبْيَة ... (سفْر نشيد – الإصحاح السّابع 1 – 4) .
باللّه عليكِ سيِّدتي الفاضلة , كيف يُمكنُ لِأمٍّ أن تقرأ هذا الكلام الفاضح على بَنيها وبناتها , دون أن تشعُر بالخجل والاشمئزاز ؟!! بل كيف يمكنُ أن تحتفظَ في بيتها بكتابٍ يحتوي على هذه العبارت الجنسيَّة المخزيَة ؟!!

وجاء في سفْر إشعيا أنَّه قال لبني إسرائيل : أمَّا أنتم فتقدَّمُوا إلى هنا يا بَني السّاحرة , نَسْلَ الفاسق والزَّانية . (سفْر إشعياء – الإصحاح السّابع والخمسون 3) .
وجاء في سفْر حزقيال : فلذلكَ يا زانيَة اسمعي كلامَ الرَّبّ . هكذَا قال السَّيِّدُ الرَّبّ : من أجل أنَّه قد أُنفِقَ نُحاسُكِ , وانكشفَتْ عَورتُكِ بزناكِ بِمُحِبِّيك وبكلِّ أصنام رجاسَتِكِ , ولدماء بَنيكِ الذين بَذَلْتِهم لها , لذلك هائنذا أجمع جميع مُحِبِّيكِ الذين لذَذْتِ لهم , وكلّ الذين أحْبَبتهم مع كلِّ الذين أبْغَضْتِهم , فأجمعُهم عليكِ من حَولِكِ وأكشفُ عَوْرَتَكِ لهم لِيَنظُروا كلَّ عَوْرَتَك . (سفْر حزقيال – الإصحاح السّادس عشر 35 – 37) .
سبحان اللَّه وتعالى عمّا يفترون !! هل تدرين سيِّدتي كيف يُدافعُ الأحبار والرُّهبان عن هذه النُّصوص ؟ 
إنّهم يقولون بأنَّ هذه القصص الجنسيَّة المثيرة للشَّهوة , هي للعبرة والموعظة !!

وجاء في سفْر الملوك الأوَّل : وشاخَ الملِكُ داوُد , تقدَّم في الأيَّام , وكانُوا يُغَطُّونه بالثِّيَاب فلَم يَدفَأ , فقال له عَبيدُه : لِيُفَتِّشُوا لِسَيِّدِنا الملِك على فتاة عَذْراء , فَلْتَقِفْ أمامَ الملِك , ولتَكُن له حاضِنَة , ولْتَضْطَجِعْ في حِضْنِكَ فَيَدْفَأ سَيِّدُنا الملِك . (سفْر الملوك الأوّل – الإصحاح الأوّل 1- 2) .
وجاء في سفْر صموئيل الثّاني : وجرَى بعد ذلك أنَّه كان لِأبشالُوم بن داوُد أختٌ جميلةٌ اسمُها ثامار , فأحبَّها أمْنُون بن داوُد ... ثمّ قال أمْنُون لِثَامار : ائتِ بالطَّعام إلى المخدع فآكُل من يَدِك , فأخذتْ ثامارُ الكعكَ الذي عَمِلَتْه وأتَتْ به أمْنُون أخاها إلى المخْدَع , وقدَّمتْ له لِيَأكُل , فأمسكَها وقال لها : تعالَي اضْطَجِعي معي يا أختي , فقالتْ له : لا يا أخي , لا تُذِلَّني لأنَّه لا يُفعَلُ هكذا في إسرائيل , لا تعملْ هذه القباحة , أمَّا أنا فأينَ أذهبُ بِعَاري , وأمَّا أنتَ فتكُون كَواحد من السُّفهاء في إسرائيل , والآن كلِّم الملِكَ لأنَّه لا يَمنعُني منك , فلَم يَشأ أن يسمع لِصَوتها , بل تَمكَّن منها وقهرها واضطجعَ معها . (سفْر صموئيل الثّاني – الإصحاح الثّالث عشر 1 – 14) .
ألهذا الحدِّ يجترئ أحبار اليهود على أنبيائهم ويُدنِّسون شرفهم وشرف عائلاتهم ؟!! 
لا غرابة إذًا أن ينتشر الزِّنا وشرب الخمر في أُمَّة تقرأ في كتابها المقدَّس أنَّ أنبياءها كانُوا يشربُون الخمر حتَّى الثُّمالة , ويزنُون بأخواتهم وبناتهم وأزواج معارفهم , مِن غير أن يُعاقبهم اللَّه !!
ولا غرابة أن يلعنَ اللَّهُ تعالى اليهودَ في عدّة آيات من القرآن الكريم , ويَصِفهم بأنَّهم المغضوب عليهم ! من ذلك قوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ 64 } (5- المائدة 64) . 
ومن ذلك قوله تعالى : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ 112 } (3- آل عمران 112) .
ومن ذلك قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً 51 أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا 52 } (4- النّساء 51-52) .

فهل يمكنُ أن نصدِّق بعد هذا ما يَدَّعيه اليهود من أنَّهم شعبُ اللَّه المختار , وأنَّهم أحبَّاءُه , وأنَّهم أرفع درجة من الملائكة ؟!

---------------------- 5

هل هذه نصوص مقدّسة ؟!


إضافةً إلى الأكاذيب على اللَّه تعالى وعلى أنبيائه الكرام والقصص الجنسيَّة الفاضحة , تضمَّنت الأسفار التي ينسبُها اليهود إلى أنبيائهم , وأيضًا أسفار الأشعار , نصوصًا لو قرأها طفلٌ صغير لَما صدَّق أنَّها مقدَّسَة !! إليك بعض الأمثلة :
جاء في سفْر الجامعة : لِكُلّ شيء زَمان , ولِكُلّ أمْر تَحتَ السَّماوات وَقْت , للولادة وَقْت وللمَوْت وَقْت , للغَرس وَقْت ولِقَلْع المغْروس وَقْت , للقَتْل وَقْت وللشِّفاء وَقْت , للهَدم وَقْت وللبناء وَقْت , للبكاء وَقْت وللضّحك وَقْت , للنَّوح وَقْت وللرَّقص وَقْت , لِتَفريق الحجارة وَقْت ولِجَمع الحجارة وَقْت , للمعانَقة وَقْت وللانفصال عن المعانقة وَقْت , للكَسْب وَقْت وللخسارة وَقْت , للصّيانة وَقْت وللطَّرح وَقْت , للتَّمزيق وَقْت وللتَّخييط وَقْت , للسُّكوت وَقْت وللتَّكلُّم وَقْت , للحبِّ وَقْت وللبُغْض وَقْت , للحرب وَقْت وللصُّلح وَقْت . (سفْر الجامعة – الإصحاح الثَّالث 1 – 8) .
فهل يُعقَل أن يكون هذا الكلام وحيٌ من عند اللَّه ؟! وما الذي أفاد البشريَّة معرفة ذلك ؟!

وجاءت في سفْر القضاة حكايات خرافيَّة عن بطولات شمشون الجبَّار , لا يُصدِّقها أيُّ عاقل ! مِن ذلك : وذهبَ شَمشون وأمسكَ ثلاث مائة ابن آوَى , وأخذَ مَشاعل وجعلَ ذَنَبًا إلى ذَنَب , ووضعَ مَشعلاً بين كلّ ذَنَبَيْن في الوَسَط . ثمَّ أضرمَ المشاعل نارًا وأطلَقها بين زُروع الفلسطينيِّين , فأحرقَ الأكداسَ والزَّرع وكُرُوم الزَّيتون . (سفر القضاة – الإصحاح الخامس عشر 5 – 6) .
فكيف جمعَ شمشون هذه الثَّعالب , وكيف ربطها ؟!!

ومِن ذلك أيضًا : ووجدَ فَكَّ حِمار طَريًّا فأخذه وضرب به ألفَ رجُل , فقال شَمشون : بِفَكِّ حِمار كُومة كُومَتَيْن , بِفَكَّ حِمار قتلتُ ألْفَ رَجُل . (سفر القضاة – الإصحاح الخامس عشر 15 – 16) .
فماذا كان يحدث لو كان فَكُّ الحمار يابسًا وليس طريًّا ؟!!

وشبيهًا ببطولات شمشون , ما جاء في سفْر الأيَّام الأوَّل عن البطل يشبعام : وهذا هو عددُ الأبطال الذين لِدَاوُد : يَشُبْعام بن حكْمُوني رئيسُ التَّوالث , هو هزَّ رُمْحَه على ثلاث مائة , قتلَهُم دُفعةً واحدة . (الأيَّام الأوَّل – الإصحاح الحادي عشر 11) .
فكيف يا تُرى قتلَ ثلاث مائة بضربة واحدة ؟!! 

وجاء في سفْر اللاَّويِّين تشريعات غريبة بخصوص داء البَرَص ! مِن ذلك : وأمَّا الثَّوبُ , فإذا كان فيه ضَربةُ بَرَصٍ ثَوبُ صوف أو ثَوبُ كتَّان , في السّدى أو اللّحمة من الصّوف أو الكتَّان أو في جلد أو في كلِّ مَصنوع من جلد , وكانت الضَّربةُ ضاربة إلى الخضرة أو إلى الحمرة في الثَّوب أو في الجلد في السّدى أو اللّحمة في مَتاعٍ ما من جلد , فإنّها ضَربةُ بَرَص , فتُعرَضُ على الكاهن . فيرى الكاهِنُ الضَّربة ويَحجِزُ المضروبَ سَبْعة أيَّام ... هذه شَريعةُ ضَربة البَرَص في الصُّوف أو الكتَّان في السَّدى أو اللّحمة أو في كلِّ مَتاع من جلد , للحُكم بطَهارته أو نَجاسته . (سفر اللاَّويِّين – الإصحاح الثَّالث عشر 47 – 59) .
ومِن ذلك أيضًا : مَتَى جئتُم إلى أرض كَنْعان التي أعطيكُم مُلْكًا , وجعلْتُ ضَربةَ بَرَص في بيتٍ في أرض مُلْكِكُم . يأتي الذي له البيتُ ويقولُ للكاهن : قد ظهر لي شِبْهُ ضربةٍ في البيت . فيأمرُ الكاهنُ أن يُفرِغُوا البيتَ قبل دخول الكاهن لِيَرى الضَّربةَ لِئَلاَّ يتنجَّسَ كلُّ ما في البيت , وبعد ذلك يَدخلُ الكاهنُ لِيَرى البيت , فإذا رأى الضَّربةَ , وإذا الضَّربةُ في حيطان البيت نُقَرٌ ضاربةٌ إلى الخضرة أو إلى الحمرة ومَنظرُها أعمَقُ من الحائط , يَخرجُ الكاهنُ من البيت إلى باب البيت ويُغلِقُ البيتَ سبعة أيَّام , فإذا رجع الكاهنُ في اليوم السَّابع ورأى وإذا الضَّربةُ قد امتدَّتْ في حيطان البيت , يأمرُ الكاهنُ أن يَقلَعوا الحجارةَ التي فيها الضَّربةُ ويَطرحُوها خارج المدينة في مكانٍ نَجِس , ويُقَشِّرُ البيتَ من داخلٍ حَوالَيْه , ويَطرحون التّرابَ الذي يُقشّرونه خارج المدينة في مكانٍ نَجِس , ويأخُذون حجارةً أخرى ويُدخِلُونَها في مكان الحجارة , ويأخذُ ترابًا آخر ويُطيّنُ البيت , فإن رجعَتِ الضَّربةُ وأفرخَتْ في البيت بعد قَلْع الحجارة وقَشْر البيت وتَطْيينه , وأتى الكاهنُ ورأى , وإذا الضَّربةُ قد امتدَّتْ في البيت , فهي بَرَصٌ مُفْسِدٌ في البيت , إنَّه نَجِس , فيَهدمُ البيتَ : حجارتَه وأخشابَه وكلَّ تراب البيت ويُخرِجُها إلى خارج المدينة إلى مكانٍ نَجِس ... لكن إن أتى الكاهنُ ورأى وإذا الضَّربةُ لم تَمتدّ في البيت بعد تَطْيين البيت يُطهِّرُ الكاهنُ البيتَ لأنَّ الضَّربةَ قد بَرئَتْ , فيأخذُ لِتَطهير البيت عصفورَيْن وخَشَب أرْز وقِرْمِزًا وزُوفا , ويَذبحُ العصفورَ الواحد في إناء خَزَف على ماء حَيّ , ويأخذُ خشَب الأرْز والزّوفا والقِرْمِزَ والعصفورَ الحيّ , ويَغمسُها في دَم العصفور المذبوح وفي الماء الحيِّ ويَنضِحُ البيتَ سبعَ مرَّات , ويُطهِّرُ البيت بِدَم العصفور وبالماء الحيِّ وبالعصفور الحيِّ وبخشَب الأرْز وبالزُّوفا وبالقِرْمز . ثمَّ يُطلِق العصفورَ الحيّ إلى خارج المدينة على وَجه الصَّحراء ويُكَفّر عن البيت فيَطْهُر , هذه هي الشَّريعةُ لِكُلّ ضربةٍ من البَرَص وللقَرع , ولِبَرَص الثَّوب والبيت . (سفر اللاَّويِّين – الإصحاح الرَّابع عشر 34 – 55) .
فهل سمعتَ سيِّدي الكريم في حياتك بثيابٍ ومنازلَ تُصابُ بالبَرَص ؟! والمصيبة أنَّ هذا الدَّاء إذا انتشر في الحيطان , يُحكَم على البيت بالهدم ! وإذا لَم ينتشر , يُطَهَّرُ البيتُ بالدَّم , في حين أنَّ الدَّم , كما هو معروف اليوم , هو أفضل ناقل للأمراض والبكتيريا !!

وجاء في سفْر العدد تشريعات غريبة بخصوص النَّجاسة والطَّهارة ! مِن ذلك : مَن مَسَّ مَيِّتًا , مَيِّتةَ إنسانٍ مَا , يكونُ نَجِسًا سبعةَ أيَّام , يتطهَّرُ به في اليوم الثَّالث , وفي اليوم السَّابع يكونُ طاهرًا . وإن لم يتطهَّر في اليوم الثَّالث ففي اليوم السَّابع لا يكونُ طاهرًا , كلّ مَن مَسَّ مَيِّتًا , مَيِّتةَ إنسانٍ قد مات , ولم يتطهَّر يُنَجِّس مَسْكَن الرَّبّ . فتُقطَعُ تلكَ النَّفسُ من إسرائيل لأنَّ ماء النَّجاسة لم يُرَشَّ عليها تكونُ نَجِسَة , نجاستُها لم تَزَلْ فيها , هذه هي الشَّريعة : إذا مات إنسانٌ في خَيْمة , فكلّ مَن دخلَ الخيمة وكلّ مَن كان في الخيمة يكونُ نَجِسًا سبعة أيَّام . وكلّ إناء مفتوح ليس عليه سِدادٌ بعصابة فإنَّه نَجِس , وكلّ مَن مَسَّ على وَجْه الصَّحراء قتيلاً بالسَّيْف أو مَيِّتًا أو عَظْم إنسان أو قَبْرًا يكونُ نَجِسًا سبعةَ أيَّام ... وأمَّا الإنسانُ الذي يَتَنجَّسُ ولا يَتطهَّر , فتُبادُ تلك النَّفسُ من بين الجماعة لأنَّه نَجَّس مَقدس الرَّبِّ . ماءُ النَّجاسة لَم يُرَشَّ عليه . إنَّه نَجِس . (سفر العدد – الإصحاح التَّاسع عشر 11 – 20) .
حسب هذا التَّشريع إذًا , فإنَّ مَن ماتتْ له ابنةٌ مثلاً , فبكى عليها وقبَّل وجهها قبل أن تُدفَن أو لامَس يَدها , يُصبحُ نجسًا سبعة أيَّام , ويجبُ أن يتطهَّر في اليوم الثَّالث ! وإذا نسي أن يتطهَّر بسبب الحزن وصعوبة الوضع الذي يَمرُّ به , فإنَّه يُعاقَب بالإبادة والقتل !! وكذلك الحالُ بالنِّسبة لِكُلِّ مَن دخل خيمةً فيها مَيِّت , أو كان سائرًا في الصَّحراء ولامس عظم إنسان أو قبرًا !!
والأغربُ من هذا ما جاء في كيفيَّة التَّطهُّر من النَّجاسة : فيأخذون لِلنَّجِس مِن غُبار حريق ذَبيحة الخَطيَّة , ويجعلُ عليه ماء حيًّا في إناء , ويأخذُ رجُلٌ طاهرٌ زُوفَا ويَغمِسُها في الماء ويَنضحُه على الخيمة وعلى جميع الأمتِعَة , وعلى الأنفُس الذين كانُوا هناك وعلى الذي مَسَّ العظْمَ أو القتيل أو الميِّت أو القبر , يَنضحُ الطَّاهِرُ على النَّجِس في اليوم الثَّالث واليوم السَّابع . ويُطهّرُه في اليوم السَّابع فيغسلُ ثيابهُ ويَرحضُ بِماءٍ فيكونُ طاهرًا في المساء . (سفر العدد – الإصحاح التّاسع عشر 17 – 20) .
فالصُّعوبة هنا هي في إحضار غُبار حريق ذَبيحة الخَطيَّة الذي لا تحصلُ الطَّهارة إلاَّ به . فقد جاء في سفر العدد صفات هذه الذَّبيحة , والتي تجعل من الصَّعب جدًّا الحصول عليها : هذه فريضةُ الشَّريعة التي أمَر بها الرَّبّ : كَلِّمْ بَني إسرائيل أن يأخذُوا إليكَ بَقرةً حَمراء صحيحة لا عَيْب فيها ولَم يَعْلُ عليها نير , فتُعطونها لألِعازار الكاهن , فتُخرَجُ إلى خارج المحلة وتُذبَحُ قُدَّامه ... وتُحرَقُ البقرةُ أمام عَيْنيه , يُحرَقُ جِلْدُها ولَحْمُها ودَمُها مع فَرثِها , ويأخذ الكاهنُ خَشَب أرْز وزُوفا وقِرْمِزًا ويَطرحُهنَّ في وسط حريق البقرة ... ويجمعُ رجُلٌ طاهرٌ رمادَ البقرة ويَضعُه خارج المحلة في مكان طاهر , فتكونُ لِجماعة بَني إسرائيل في حِفْظٍ ماء نَجاسة , إنَّها ذَبيحةُ خَطيَّة . (سفر العدد – الإصحاح التَّاسع عشر 2 – 9) .
فماذَا لو قبَّل رجلٌ جبينَ أمّه الميّتة , ثمَّ لم يَجدْ بقرة حمراء للتَّطهُّر ؟ هل يُقتَل لهذا السَّبب ؟!!

نعم سيّدي الفاضل , سيّدتي الفاضلة , كلُّ هذا موجود في التَّوراة االمحرَّفة ! وبَدلَ أن تَحتوي هذه التَّوراة على نُصوص تحثُّ على فعل الخير والإحسان إلى الغير , نجدُها بالعكس تَحتوي على نصوص تُثير الغرائز الحيوانيَّة , وأخرى تُعلِّمنا كيف يقترفُ الأنبياء الفواحش العظيمة , وأخرى لا تُفيدُنا في أيِّ شيء ! 
والغريب أنَّنا لو بَحثنا في هذه التَّوراة عن ذِكْرٍ ليوم القيامة والحساب والجنةَّ والنَّار , لَما وجدنا فيها أيّ شيء من ذلك !! فما الهدف إذًا من إرسال الأنبياء إلينا , وما الفائدة من فعل الخير واجتناب الشَّرِّ إذا لم يكُن هناك بعد ذلك حساب وجزاء ؟!!

بقي أن نلاحظ أنَّ أسفار التَّوراة الخمسة والأسفار التَّاريخيَّة والأسفار الشِّعريَّة وأسفار الأنبياء , لا يُؤمن بها اليهودُ فقط , وإنَّما النَّصارى أيضًا الذين يعتقدون أنَّ أنبياءَ اللَّه هم الذين كَتبُوها بإلهامٍ من روح القدس ! وقد أقرَّ مجمع ترنت (Concile de Trente) الكاثوليكي ما بين سنة 1545 م وسنة 1563 م , ومجمع بيت المقدس الأرثودوكسي سنة 1672 م , شرعيَّة كلَّ هذه الأسفار ! معنى هذا أنَّ النَّصارى أيضًا يعتقدون أنَّ النُّصوص التي ذكَرْناها , والتي تصف اللَّه تعالى بما لا يليق به , وتجعل من أنبيائه زُناةً وشاربي خمر وقتَلَة , وتتحدَّث عن الجنس القذر , كلُّها نُصوص مُقدَّسة !!

---------------------- 5

لو كان عيسى بيننا لتبرَّأ من أناجيل النَّصارى !


لِماذَا ؟! لِأنَّها ببساطة ليست هي الإنجيل المذكور في القرآن , والذي أنزلَه اللَّهُ عليه . وسأعرض عليك , سيّدتي الكريمة , سيّدي الكريم , فيما يلي العديد من الأدلَّة على ذلك :
يعترفُ النَّصارى أنَّ الأناجيل التي بين أيديهم لَم يكْتُبها عيسى عليه السَّلام ولَم يُمْلِلْها على أتباعه , وإنَّما حرَّرها مُحرِّرُون من الجيل الأوَّل والجيل الثَّاني من النّصرانيَّة , فأصبحتْ تُنسَبُ إليهم ! فهي إذًا من تأليف بَشَر , وبالتَّالي لا يُمكنُ أن تكون هي الإنجيل الذي أنزلهُ اللَّهُ على عيسى عليه السَّلام .
ويعتمدُ النَّصارى اليوم على أربعة أناجيل , هي : إنجيل متى Saint-Matthieu , وإنجيل مرقس Saint-Marc , وإنجيل لوقا Saint-Luc , وإنجيل يوحنَّا Saint-Jean . وهي , مع الرَّسائل الملحَقَة بها , تُكَوِّنُ العهد الجديد Le Nouveau Testament . أمَّا أسفار التَّوراة الخمسة , مع الأسفار المنسُوبة إلى أنبياء بني إسرائيل , فتُسَمَّى العهد القديمAncien Testament . ويُكوِّنُ العهدُ القديم مع العهد الجديد ما يُسمَّى بالكتاب المقدَّس La Bible . 
وقد تتلْمذَ متى ويوحنَّا على السَّيِّد المسيح , أمَّا مرقس ولوقا فلَم يَريَاه . وتُنسَبُ الرَّسائلُ الملْحَقَة بالأناجيل إلى : بولس , وله أربعة عشر رسالة , وهو لم يَلْقَ المسيح , وإلى بطرس ويعقوب ويهوذا ويوحنَّا , وكلّهم صَحِبُوا المسيح عليه السَّلام .
ويعتقدُ النَّصارى أنَّ الأناجيلَ والرَّسائلَ هي كلمةُ اللَّه التي ألْهَمَها الرُّوحُ القدسُ إلى بعض تلاميذ المسيح وتلاميذهم , فكتَبُوها بأمانة , فأصبحتْ كتاباتُهم مُقدَّسة لهذا السَّبب . ويُوضِّحون هذا الأمر قائلين أنَّ اللَّه تعالى اختار هؤلاء التَّلاميذ , فألْهَمَهُم ما يُريد إبلاغه إلى عباده , وعَصَمَهُم من الخطأ في التَّحرير والكتابة , فكَتبُوا الإلهامَ في أناجيل ورسائل , وأصبحتْ هذه الكتابات مُقَدَّسة وتُنسب إلى اللَّه . 

فهل فعلاً هذه الكتابات مُقَدَّسة وخالية من الأخطاء ؟
يقول المؤرِّخُون أنَّ أقدم المخطوطات التي نُسِخَت عنها الأناجيلُ والرَّسائلُ , تعود إلى القرن الرَّابع الميلادي . وهذه المخطوطات ليستْ بِخَطِّ كُتَّاب الأناجيل , وإنَّما بِخَطِّ كُتَّابٍ جاءوا بعدَهم بأكثر من قَرنَيْن من الزَّمان , ولا يُعرَفُ أيّ سَنَد يَصِلُهم بالكُتَّاب الأصليِّين ! أيْ أنَّ إنجيل متى مثلاً , الذي يقرأه النَّصارى اليوم , ليس منسوخًا عن المخطوطة الأصليَّة التي كتبَها متى , وإنَّما منسوخًا عن مخطوطةٍ كتَبها إنسانٌ جاء بعده بأكثر من مائتي سنة , ولا تُعرفُ أيّة علاقة بين الرَّجُلَين !! 
وهذا الأمرُ يكْفي وحدهُ للتَّشكيك في صحَّة نسبة الأناجيل والرَّسائل إلى أصحابها . وحتَّى لو سلَّمْنا بأنَّها منسوبةٌ إليهم فعلاً , فلا أحد يستطيعُ أن يجْزِمَ بأنَّ المخطوطات التي تعود للقرن الرَّابع مُطابقة حرفيًّا للأناجيل التي كَتبها متى ومرقس ولوقا ويوحنَّا !
ويَردُّ النَّصارى على هذا التَّشكيك بأنَّ المخطوطات التي وُجِدتْ عن الأناجيل والرَّسائل تُعَدُّ بالآلاف , وبالتَّالي لا حاجة لِمُقارنتها بالكُتب الأصليَّة التي كَتبها تلاميذ المسيح . 
هذا ما يقولونه , ولكنَّ الذي يُخفُونه أنَّ هذه الآلاف من المخطوطات , على كَثْرتِهَا , ليس بينها مخطوطتان مُتَّفقتان في كلِّ النُّصوص ! نعم , فقد تعرَّضتْ جميعُها إلى الزِّيادة والنَّقص حسبَ مزاج النُّسَّاخ !! ثمَّ تراكمَ هذا التَّبديلُ على مَرِّ القرون حتَّى أصبحت الأناجيل والرَّسائل اليوم مملوءة بالأخطاء !!
وقد قام العديد من المحقِّقين النَّصارى في القرن العشرين بالبحث في كُتب العهد الجديد , فَوصلُوا إلى حقيقة خطيرة وهي أنَّه ليس ثَمَّة أيّ دليل واقعي على صحَّة نسبة الأناجيل إلى أصحابها ! بل إنَّ أكثر الأدلَّة تؤكِّد أنَّ الأناجيلَ الأربعة لا يُمكن أن تكون من تأليف تلاميذ المسيح !! 
نعم , فقد تَوصَّلوا مثلاً إلى أنَّ العديد من نصوص إنجيل متى مُقتَبَسة عن إنجيل مرقس . وهذا يستوجبُ أن يكون متى قد كتبَ إنجيلَه بعد مرقس . لكنَّ التَّاريخ يُثبت أنَّ متى قد عاصر المسيح وصحِبَه , بخلاف مرقس الذي كان عمره وقتها حوالي عشر سنوات ! فكيفَ يَنقُلُ الشَّاهدُ للأحداث عن الغائب الذي لَم يحضُرها ؟!
كذلك , جاء في إنجيل متى : وفيمَا يَسُوعُ مُجتازٌ من هناكَ رأى إنسانًا جالسًا عند مكان الجِبَايَة اسمُه مَتَّى , فقال له : اتْبَعْني , فقامَ وتَبِعَه . (إنجيل متى – الإصحاح التَّاسع 9) . وهذا يدلُّ على أنَّ متى ليس هو كاتب هذا الكلام , لأنَّه لو كان كذلك , لقال : وفيمَا يَسُوعُ مُجتازٌ من هناكَ رآني جالسًا عند مكان الجِبَايَة , فقال لي : اتْبَعْني , فقُمتُ وتَبِعْتُه !
لهذا , نجدُ اليوم العديد من الباحثين النَّصارى ينكرُون صحَّة نسبة إنجيل متى إليه , ويقولون : إنَّه ليس من تأليف الحواري متى , تلميذ المسيح عليه السَّلام , وإنَّما هو لِمُؤلِّفٍ مجهول أخفَى شخصيَّته !

وأمَّا الرَّسائل : فإنَّ أغلَبها يُنسبُ إلى بولس الذي يُعتَبر مؤسِّس النّصرانيَّة المحرَّفة ! وأجدُ من المهمِّ الوقوف قليلاً عند هذا الرَّجل . وُلِدَ بولس لِأبَوَيْن يهوديَّيْن , وكان اسمه شاول , ثمَّ سَمَّى نفسه بولس بعد أن تَنَصَّر . وسبب تنصُّره أنَّه , حسب زعمه , رأى المسيح عليه السَّلام (بعد رفعه إلى السَّماء بسنوات , ولَم يكن رآه من قبل) , فأعطاه حينئذ منصب النُّبوَّة !!
والحادثة رواها بنفسه في أعمال الرُّسل , يقول : ولَمَّا كنتُ ذاهبًا في ذلك إلى دمشق بسُلْطان ووصيَّة من رُؤساء الكَهَنة , رأيتُ في نصْف النَّهار في الطَّريق , أيُّها الملِكُ , نُورًا من السَّماء أفضَل من لَمعان الشَّمس قد أبرقَ حوْلي وحولَ الذَّاهبين معي , فلَمَّا سقَطنا جميعُنا على الأرض سمعتُ صَوتًا يُكَلِّمُني باللُّغة العبرانيَّة : شَاوُل شاوُل , لِماذَا تَضطهدُني ؟ صعبٌ عليكَ أن ترفُس مَناخس , فقلتُ أنا : من أنتَ يا سَيِّد ؟ فقال : أنا يَسُوع الذي أنت تضطَهِدُه , ولكن قُم وقِفْ على رجلَيْكَ , لأنِّي لهذا ظهرتُ لكَ لأنتَخِبَكَ خادِمًا وشاهِدًا بِمَا رأيتَ وبِمَا سأظْهرُ لكَ به , مُنقِذًا إيَّاكَ من الشَّعب ومن الأمَم الذينَ أنا الآن أرسِلُكَ إليهم , لِتَفتحَ عُيُونَهم كيْ يَرجعُوا من ظُلُماتٍ إلى نُور ومن سُلطان الشَّيطان إلى اللَّه حتَّى ينالُوا بالإيمان بي غُفرانَ الخَطايَا ونصيبًا مع المقَدَّسين . (أعمال الرّسل – الإصحاح السَّادس والعشرون 12 – 18) .
ولكنَّ اللاَّفت للانتباه أنَّ هذه الحادثة الهامَّة ذُكِرتْ في عدَّة مواضع من أعمال الرُّسل , لكن بتفاصيل متناقضة ! فقد جاء في هذه الرِّواية أنَّ نورًا أبرقَ حول بولس وحول الذَّاهبين معه , وأنَّهم سقطُوا جميعًا على الأرض , وأنَّه سمع وحده صوتًا .
ولكن جاء في رواية أخرى : وأمَّا الرِّجالُ المسافرُون معه , فوَقَفُوا صامتينَ يسمعُون الصَّوتَ ولا ينظُرونَ أحدًا . (أعمال الرّسل – الإصحاح التَّاسع 7) . فهل سمع بولس الصَّوت وحده أم سمعه الذين معه أيضًا ؟!
وذُكِر هنا أنَّ الذين معه لَم يرَوا شيئًا , ولكن جاء في رواية أخرى : والذين كانُوا معي نَظرُوا النُّور وارتَعَبُوا , ولكنَّهم لم يسمعُوا صوتَ الذي كلَّمَني . (أعمال الرّسل – الإصحاح الثَّاني والعشرون 9) . وهذا معاكسٌ تَمامًا لِمَا جاء في الرِّواية السَّابقة ! وحدثٌ بمثل هذه الأهمِّيَّة في تاريخ النّصرانيَّة لا يُقبَل أن تقع فيه مثل هذه الاختلافات !! 
ثمَّ إنَّ بولس كان قبل تنصُّره شديد العداوة للنَّصارى , وألحقَ بهم ألوانَ العذاب , وهذا بشهادته هو عن نفسه , حيث يقول : فأنا ارتأيتُ في نفسي أنَّه ينبغي أن أصنعَ أمورًا كثيرةً مُضادَّة لاسم يَسُوع النَّاصري . وفعلتُ ذلكَ أيضًا في أورشَليم , فحَبَسْتُ في سُجونٍ كثيرينَ من القِدِّيسينَ آخِذًا السُّلطانَ مِنْ قِبَل رُؤَساء الكَهَنَة , ولَمَّا كانُوا يُقْتَلُون ألقَيْتُ قُرْعَة بذلك , وفي كلِّ المجامع كنتُ أعاقِبُهم مِرارًا كثيرة وأضْطَرَّهم إلى التَّجديف , وإذ أفرَطَ حَنَقي عليهم كنتُ أطرُدُهم إلى المدُن التي في الخارج . (أعمال الرّسل – الإصحاح السَّادس والعشرون 9 – 11) .
فرُبَّما يَقبلُ العقلُ أن يَدخُل بُولس في النّصرانيَّة بعد أن كان شديد العداوة لها . لكن أن يُصبح قدِّيسًا ونبيًّا , فلا ! فجميع الأنبياء عليهم السَّلام لَم يكُونوا كفَّارًا أو معادين للرِّسالات السَّماويَّة الأخرى قبل نُبُوَّتهم .

ويُشَكِّكُ المحقِّقون من ناحية أخرى في نبوَّة بولس وقدِّيسيَّته لأنَّه يستبيحُ الكذب والنِّفاق للوصول إلى غايته , وهذا باعترافه هو حيث يقول : فصرْتُ لليهود كَيَهودي لِأربحَ اليهود , وللّذينَ تحت النَّاموس كأنّي تحت النَّاموس لِأربحَ الذين تحت النَّاموس , وللَّذين بِلا نامُوس كأنّي بِلا نامُوس , مع أنّي لستُ بِلا ناموس للَّه بل تحتَ نامُوسٍ للمسيح , لِأربح الذينَ بِلا ناموس . (كورنثوس 1 – الإصحاح التَّاسع 20 – 21) .
ويأخذه الغرور في موضع آخر , فيقول : ولكنَّها أكثرُ غبطةً إن لَبثَتْ هكذا بِحَسب رأيي . وأظنُّ أنِّي أنا أيضًا عندي روحُ اللَّه . (كورنثوس 1 – الإصحاح السَّابع 40) .
ويُسيء الأدبَ مع اللَّه في موضع آخر , فيقول : لأنَّ جهالةَ اللَّه أحْكَم من النَّاس , وضعفَ اللَّه أقوَى من النَّاس . ( كورنثوس 1 – الإصحاح الأوَّل 25) .
ويستحلُّ المحرَّمات , فيقول : كلُّ الأشياء تَحِلُّ لي لكن ليسَ كُلُّ الأشياء تُوافق . كلُّ الأشياء تَحِلُّ لي لكن لا يتسلَّطُ عَلَيَّ شيء . (كورنثوس 1 – الإصحاح السَّادس 12) .
وقد تَوقَّفنا هنا عند بولس لأنَّ النَّصارى اعتمدُوا على رسائله بالكامل لِبناء عقيدة الصّلب والفداء ! فهل يُعقَل أن يبني ملايينُ البشر عقيدتهم على أقوال شخص ادَّعَى النُّبوَّة وليس له شاهدٌ ولا دليل على ذلك , ولم يتتلمذ على السَّيِّد المسيح عليه السَّلام , ولم يأخُذ منه مبادئ النّصرانيَّة الصَّحيحة , وفوق كلِّ ذلك يكذب وينافق لِيَصل إلى مراده , ويُسيء الأدب مع اللَّه ؟!!
طبعًا , غير معقول ! ومع ذلك فإنَّ النَّصارى اتَّخذُوه مُشرِّعًا لهم !

هذا إذًا ما يقوله المؤرِّخون بخصوص الأناجيل والرَّسائل . أمَّا إذا حاولْنا التَّعمُّق في النُّصوص , فسنجدُ فيها العديد من الأخطاء والتَّناقضات والأقاويل التي لا يُمكن أبدًا نسبتُها إلى اللَّه تعالى , وإلى عبده ورسوله عيسى عليه السَّلام , ولا إلى الحواريِّين الذين صَحبُوا موسى عليه السَّلام وتتلمذُوا على يديه ونَصرُوه . وهذا ما سنبيِّنُه في العنصر الموالي بعون اللَّه .

---------------------- 5

هل هذا إلهامٌ أم قول بشر ؟!


ذكَرْنَا أنَّ النَّصارى يعتقدُون أنَّ متى ويوحنَّا ومرقس ولوقا , أصحاب الأناجيل الأربعة , كَتَبُوا أناجيلَهم بإلْهام من الرّوح القُدس , وعصَمهُم اللَّهُ تعالى من الخطأ في الكتابة . وكذلك الحال بالنِّسبة لِبولس وبطرس ويعقوب ويهوذا , أصحاب الرَّسائل . لكنَّ الغريب أنَّ كلَّ هؤلاء الكتَّاب , ما عدى بولس , لَم ينسبُوا الإلهامَ إلى أنفُسِهم ! بل الأغرب من ذلك : تحدَّثُوا عن أناجيلهم ورسائلهم على أنَّها مجهودٌ بشري بَحْت .
فقد كتب لوقا في مقدِّمة إنجيله : إذْ كان كثيرُون قد أخذُوا بتأليف قصَّةٍ في الأمور المتَيَقَّنَة عندنَا , كَما سلَّمَها إلينا الذينَ كانُوا منذُ البدْء مُعاينينَ وخُدَّامًا للكَلِمَة . رأيتُ أنا أيضًا , إذْ قد تَتبَّعْتُ كلّ شيء من الأوَّل بتَدقيقٍ , أن أكتبَ على التَّوالي إليكَ أيُّها العزيزُ ثاوُفيلُس لِتَعرفَ صحَّةَ الكلام الذي عُلِّمت به . (إنجيل لوقا – الإصحاح الأوَّل 1 – 4) .
فلم يذكُر لوقا في مقدِّمته شيئًا عن الإلهام الإلهي , وإنَّما ذكَر بالعكس أنَّ كتابهُ رسالةٌ شخصيَّة , كَتبها بِدَافع شخصي !

ولو تأمَّلْنا في الرَّسائل لَوَجدنا فيها العديد من المواضيع الشَّخصيَّة التي لا علاقة لها بالوحي أو بالإلهام ! 
فمثلاً , جاء في رسالة بولس : الرِّداءُ الذي تركْتُه في تَرواس عند كارْبُس , أحْضِرْهُ مَتَى جِئْتَ , والكُتُب أيضًا ولا سيَّما الرُّقُوق . (تيموثاوس 2 – الإصحاح الرَّابع 13) .
وجاء في رسالة يوحنَّا : سلامٌ لك , يُسلِّم عليكَ الأحبَّاء , سَلِّم على الأحبَّاء بأسمائهم . (يوحنَّا 3 – الإصحاح الأوَّل 15) .

ولو تأمَّلْنا في الأناجيل والرَّسائل لَوَجدنا فيها أيضًا بعض العبارات التي من المستحيل أن تكون وحيًا !
فمثلاً , جاء في إنجيل لوقا : ولَمَّا ابتدَأ يَسُوعُ كانَ له نَحْو ثلاثينَ سَنَة , وهو , على ما كان يُظَنُّ , ابن يُوسُف بن هالي . (إنجيل لوقا – الإصحاح الثَّالث 23) . فهل يُعقَل أنَّ اللَّه تعالى الذي ألْهَم لوقا في كتابة إنجيله , لا يعرفُ بالتَّدقيق متى ابتدأ يسوع , فقال : نَحْو ثلاثين سنة , ولا يعرفُ نَسبه بالضَّبط , فقال : وهو , على ما كانَ يُظَنُّ , ابن يُوسف ؟!!
وجاء في رسالة بولس : لستُ أقولُ على سبيل الأمر , بل باجْتِهاد آخَرين , مختبرًا إخلاصَ مَحَبَّتكُم أيضًا . (كورنثوس 2 – الإصحاح الثَّامن 8) . فهذا الكلام بالتَّأكيد ليس بإلهام !

ولو تأمَّلْنا في الأناجيل والرَّسائل لَوَجدنا فيها أيضًا أخطاء , شهد التَّاريخُ بخطئها !
فقد جاء في إنجيل متى : فإنَّ ابنَ الإنسان (أي المسيح) سوفَ يأتي في مَجْد أبيه مع ملائكَته , وحينَئِذ يُجازي كُلّ واحد حَسبَ عَمَلِه . الحَقَّ أقولُ لكُم , إنَّ مِنَ القِيَام هَهُنا قومًا لا يَذُوقون الموْتَ حتَّى يَرَوُوا ابنَ الإنسان آتِيًا في مَلَكُوته . (إنجيل متى – الإصحاح السَّادس عشر 27 – 28) .
وجاء في موضع آخر من إنجيل متى : ومَتَى طَردُوكُم في هذه المدينة فاهرُبُوا إلى الأخرى , فإنِّي الحقَّ أقولُ لكُم , لا تُكَلِّمون مُدُنَ إسرائيلَ حتَّى يأتي ابنُ الإنسان (أي المسيح) . (إنجيل متى – الإصحاح العاشر 23) .
وجاء في موضع آخر أيضًا من إنجيل متى : وفيمَا هو جالسٌ على جَبل الزَّيتون , تقدَّم إليه التَّلاميذُ على انفراد قائلين : قل لنا متَى يكونُ هذا وما هيَ علامةُ مَجيئكَ وانقضاء الدَّهر ؟ فأجاب يَسُوع : ... وحينَئذ تَظْهرُ علامةُ ابن الإنسان في السَّماء . وحينَئذ تَنُوح جميعُ قبائل الأرض ويُبصرُون ابنَ الإنسان (أي عيسى) آتِيًا على سَحاب السَّماء بقُوَّة ومَجْد كثير ... الحقّ أقولُ لكُم : لا يَمضِي هذا الجيلُ حتَّى يكون هذا كُلّه . (إنجيل متى – الإصحاح الرَّابع والعشرون 3 – 34) .
ففي هذه النُّصوص , يزعُم كاتب هذا الإنجيل أنَّ عيسى عليه السَّلام أخبر تلاميذه عن قُرب نهاية العالَم , وحدَّدها بأنَّها ستكُون في جيلهم : " لا يَمضِي هذا الجيلُ حتَّى يكون هذا كُلّه " , حتَّى أنَّه ذكَر بأنَّ بعضهم سيكون حاضرًا : " إنَّ مِنَ القِيَام هَهُنا قومًا لا يَذُوقون الموْتَ حتَّى يَرَوُوا ابنَ الإنسان (أي عيسى) آتِيًا في مَلَكُوته " .
ولكنَّ الواقع يشهدُ بأنَّ الجيل الأوَّل انقضَى , وانقضتْ بعده أجيال وأجيال , ومَرَّت أكثر من ألفَيْ سنة , ولم تتحقَّق هذه النُّبوءة المنسوبة كذبًا إلى عيسى عليه السَّلام !
وطبعًا , هذه النُّصوص سبَّبَتْ إحراجًا كبيرًا للنَّصارى , فلم يجدُوا إلاَّ الرَّدَّ بأنَّ المقصود هو قِيَامة المسيح بعد أيَّامٍ مِن صَلْبه ! لكنَّ الذي تجاهلُوه هو أنَّ هذه النُّصوص أشارت بوضوح إلى عودة المسيح في نهاية الزَّمان , وذلك واضحٌ في سُؤال تلاميذه له : " وما هيَ علامةُ مَجيئكَ وانقضاء الدَّهر ؟ " .
ثمَّ إنَّ هذه النُّصوص بَيَّنتْ أنَّ هذا المجيء سيكُون كما يَلي : " ويُبصرُون ابنَ الإنسان (أي عيسى) آتِيًا على سَحاب السَّماء بقُوَّة ومَجْد كثير " . بينَما ذكَرت الأناجيل أنَّ المسيحَ لَمَّا قام بعد صلبه المزعوم , كان مُتَخَفِّيًا , ولَم يأتِ على سحاب بقُوَّة ومَجْد !!

ومن النُّصوص التي شهد التَّاريخُ بِخَطَئِها أيضًا , ما جاء في خاتمة إنجيل مرقس , بعد حديثه عن صلب المسيح وقيامته وظهوره لبعض النَّاس : أخيرًا ظهرَ لِلأحَدَ عَشَر (وهم تلاميذه) وهم مُتَّكِئُون , ووبَّخَ عدَم إيمانِهم وقَسَاوةَ قُلُوبهم لِأنَّهم لَم يُصَدِّقُوا الذين نَظَرُوه قد قام . وقال لهم : اذْهَبُوا إلى العالَم أجْمَع واكْرِزُوا بالإنجيل لِلخَليقة كُلِّها . مَنْ آمَن واعتَمَد خَلص , ومَنْ لَم يُؤمِنْ يُدَنْ . وهذه الآياتُ تَتبعُ المؤمنينَ : يُخرِجُون الشَّياطينَ باسْمِي , ويتكلَّمون بألْسِنَة جديدة . يَحْملُون حَيَّاتٍ , وإن شَربُوا شيئًا مُميتًا لا يَضُرُّهم , ويَضَعُون أيْديهم على المرْضَى فَيَبرأون . (إنجيل مرقس – الإصحاح السَّادس عشر 17 – 18) .
وجاء في موضع آخر من إنجيل مرقس : فتذكَّر بُطْرس وقال له : يا سَيِّدي , انظُر التِّينَةَ التي لَعَنْتَها قد يَبسَتْ . فأجاب يَسُوع : لِيَكُنْ لَكُم إيمانٌ باللَّه لِأنِّي الحقَّ أقولُ لكُم : إنَّ مَنْ قالَ لِهذَا الجبَل انْتَقِلْ وانطَرِحْ في البحر , ولا يَشُكُّ في قَلْبه بل يُؤمنُ أنَّ ما يَقوله يكُون , فَمَهْما قال يكونُ له . لذلكَ أقولُ لكم : كلّ ما تَطْلُبونَه حينَما تُصَلُّون , فآمِنُوا أن تَنالُوه فيكُون لكم . (إنجيل مرقس – الإصحاح الحادي عشر 21 – 24) .
وجاء في إنجيل يوحنَّا : الحقَّ الحقَّ أقولُ لكُم : مَن يُؤمِنُ بي , فالأعمالُ التي أنا أعملُها يَعمَلُها هو أيضًا , ويَعملُ أعظَم منها لأنّي ماضٍ إلى أبي . (إنجيل يوحنَّا – الإصحاح الرَّابع عشر 12) .
ففي هذه النُّصوص يزعُم كاتبُو هذه الأناجيل أنَّ عيسى عليه السَّلام ضمنَ لهم أنَّ كلَّ من يُؤمن به (أي كلّ نصراني) يَستطيعُ صُنعَ المعجزات التي صنَعَها هو , مِن شفاء المرضَى وإحياء الموتى !!
بل ويُؤكِّدُ لهم في نصٍّ آخر أنَّ مَنْ يعجزُ عن فعْل مثل هذه المعجزات , فهو ليس بِمُؤمن !! فقد جاء في إنجيل متى : ولَمَّا جاءُوا إلى الجمْع تقدَّم إليه رجُلٌ جاثِيًا له وقائلاً : يا سَيِّد , ارْحَم ابْني فإنَّه يُصرَعُ ويتألَّم شديدًا ويقعُ كثيرًا في النَّار وكثيرًا في الماء , وأحضَرْتُه إلى تلاميذكَ فلَم يَقْدِرُوا أن يشْفُوه . فأجابَ يَسُوع : أيُّها الجِيلُ غَيْر المؤمن الملْتَوي , إلى مَتى أكونُ معكُم ؟ إلى مَتى أحْتَمِلُكم ؟ قَدّموه إلَيَّ هَهُنا . فانتَهره يَسُوع , فخرج منه الشَّيطانُ , فشُفِيَ الغلامُ من تلكَ السَّاعة . ثمَّ تقدَّم التَّلاميذُ إلى يَسوع على انفراد وقالُوا : لِماذا لم نَقدِرْ نحنُ أن نُخرجَه ؟ فقال لهم يَسوع : لِعَدم إيمانكُم . فالحقَّ أقولُ لكم : لو كان لكُم إيمانٌ مثل حَبَّة خَردَل لَكُنتم تقولون لهذا الجبَل : انْتَقِلْ من هنا إلى هناك , فينتقلُ ولا يكونُ شيءٌ غير مُمكِن لَدَيْكُم . (إنجيل متى – الإصحاح السَّابع عشر 14 - 21) .
ولكنَّ التَّاريخ يَشهد بأنَّ النَّصارى , بِما فيهم الباباوات والقساوسة , لم يستطع أحدٌ منهم أن يفعل ولو معجزة واحدة طوال حياته ! فإمَّا أنَّهم كلّهم ليس في قلْبهم مقدار حبَّة خَردل من إيمان , أو أنَّ ما جاء في الأناجيل ليس بصحيح !!
بل إنَّ النَّصارى ذهبُوا أكثر من ذلك في الافتراء على المسيح عليه السَّلام . فقد جاء في إنجيل يوحنَّا أنَّ المسيح قال : إن كان أحدٌ يحفظُ كلامي , فلَنْ يَرَ الموتَ إلى الأبد . (إنجيل يوحنَّا – الإصحاح الثَّامن 51) . فهلْ يستطيع النَّصارى أن يُخبرونا : لِماذا إذًا مات تلاميذُ المسيح عليه السَّلام , ومات بولس الرَّسول المزعوم , ولَم يُخلَّد أحدٌ من الباباوات ؟!! هل أنَّ أحدًا منهم لم يستطع أن يحفظَ كلام المسيح ؟!!

ومن النُّصوص التي شهد التَّاريخُ بِخَطَئِها أيضًا , ما جاء في إنجيل مرقس : وابتدأ بُطْرس يقول له : ها نحنُ قد تركْنَا كلَّ شيء وتَبعْناكَ . فأجابَ يَسوع : الحقَّ أقول لكُم : ليس أحدٌ تركَ بيتًا أو أخوةً أو أخوات أو أبًا أو أمًّا أو امرأة أو أولادًا أو حقولاً لِأجلي ولِأجل الإنجيل , إلاَّ ويأخذُ مائة ضِعْف الآن في هذا الزَّمان بُيوتًا وأخوةً وأخوات وأمَّهات وأولادًا وحقولاً مع اضطهادات , وفي الدَّهر الآتي الحياة الأبديَّة . (إنجيل مرقس – الإصحاح العاشر 28 - 30) .
فهل يستطيع النَّصارى أن يُفهمونا : كيف يُمكنُ لِأتباع المسيح أن يُصبح لهم مائة ضعف من البيوت والحقول والأخوة والأخوات والأمَّهات والأولاد ؟!! والنَّصُّ واضح الدَّلالة أنَّ هذا التَّعويض يكون في الدُّنيا : " في هذا الزَّمان " . 
طبعًا , لن يستطيعُوا الإجابة لأنَّ التَّاريخ يشهد بأنَّ أتباع المسيح لم ينالُوا شيئًا من كلِّ هذا !

ولو تأمَّلْنا في الأناجيل والرَّسائل لَوَجدنا فيها أيضًا أحداثًا يَرفضها العقل والمنطق !
فقد جاء في إنجيل متى مثلا عن العجائب التي حصلَتْ بعد الصَّلب المزعوم للمسيح : فصرخَ يسُوعُ أيضًا بصَوت عظيم وأسلمَ الرُّوح . وإذا حجابُ الهيكل قد انشقَّ إلى اثنيْن من فوق إلى أسفل , والأرضُ تزلزلَتْ والصُّخورُ تشقَّقتْ , والقبور تفتَّحتْ , وقام كثيرٌ منْ أجساد القِدِّيسين الرَّاقدين , وخرجُوا منَ القُبور بعد قِيَامَته ودخلُوا المدينةَ المقدَّسة وظهرُوا لِكَثيرين . (إنجيل متى – الإصحاح السَّابع والعشرون 50– 53) .
فالحديث عن قيامة كثير من القدِّيسين من قبورهم وظهورهم للنَّاس , هو كذبٌ لا محالة , لأنَّه لو كان وقعَ لتحدَّثتْ به كلُّ الأناجيل نظرًا لأهَمِّيَّته ! ولكنَّ هذا الحدث ذكَره متى فقط ! ثمَّ إنَّه لم يذكُر بعدَه ما كان من أمر هؤلاء القدِّيسين : هل عادوا إلى أهليهم وعاشوا معهم , أم أنَّهم ماتُوا في نفس اليوم ؟!

ولو تأمَّلْنا في الأناجيل والرَّسائل لَوَجدنا بينها تناقضات كثيرة !
فقد جاء في إنجيل مرقس مثلاً عند الحديث عن الصّلب المزعوم للمسيح عليه السَّلام : وأعطَوْه خَمرًا ممزوجةً بِمُرٍّ لِيَشربَ , فلَم يَقبلْ . (إنجيل مرقس – الإصحاح الخامس عشر 23) .
لكنَّ متى نقلَ هذه الجملة عن مرقس , ثمَّ بدَّلَ فيها بعض الألفاظ , فأصبحتْ : أعطَوْه خَلاًّ مَمزوجًا بِمَرارة لِيَشربَ . ولَمَّا ذاق لَم يُردْ أن يَشرب . (إنجيل متى – الإصحاح السَّابع والعشرون 34) .
فأبدلَ متى الخمر بالخَلِّ , والمرّ بِمَرارة !
وجاء في إنجيل مرقس عن آخِر أقوال المسيح عليه السَّلام عند صلبه المزعوم : وفي السَّاعة التَّاسعة صرخَ يَسوعُ بِصَوت عظيم قائلاً : إلُوي , إلُوي , لِمَ شَبَقْتَني (الذي تفسيره : إلَهي , إلَهي , لماذا تَركْتَني ؟!) . (إنجيل مرقس – الإصحاح الخامس عشر 34) .
لكنَّ لوقا لَم تُعجبه هذه الجملة , لأنَّه رأى أنَّها لا تتوافق مع عقيدة الفداء التي تقول بأنَّ المسيح عليه السَّلام صُلِبَ لِيَفتديَ أتباعه , فنقلَها لوقا عن مرقس ثمَّ أبدلَها لِتُصبح : ونادَى يَسوع بِصَوت عظيم : يا أبَتاه , في يَدَيْكَ أسَتَودِعُ رُوحي . (إنجيل لوقا – الإصحاح الثَّالث والعشرون 46) .
وجاء في إنجيل مرقس أنَّ المسيح عليه السَّلام شَفَى رجُلاً أعمَى . يقول مرقس : وجاءُوا إلى أريحَا . وفيما هو خارجٌ من أريحا مع تلاميذه وجَمْع غفير , كان بارتيمَاوس الأعمى ابنُ تيمَاوس جالسًا على الطَّريق يَسْتعطي . فلَمَّا سمع أنَّه يَسوعُ النَّاصري , ابتدأ يَصرخ ويقول : يا يَسوع بن داود ارحَمني . فانتهرهُ كثيرون لِيَسكُت , فصرخ أكثر كثيرًا : يا ابنَ داود ارحَمني . فوقفَ يَسوع وأمَر أن يُنادَى , فنادَوا الأعمى قائلين له : ثِقْ , قُمْ , هُوَذَا يُناديك . فطرح رداءهُ وقام وجاء إلى يَسوع . فسأله يَسوع : ماذا تُريدُ أن أفعل بك ؟ فقال له الأعمى : يا سَيِّدي , أن أبْصِر . فقال له يَسوع : اذْهَبْ , إيمانُكَ قد شَفاكَ . فَلِلْوَقِتِ أبصرَ , وتبعَ يَسوعَ في الطَّريق . (إنجيل مرقس – الإصحاح العاشر 46 - 52) .
لكنَّ متى روى نفس القصَّة , فجعلَ الرَّجل الأعمى رجُلَين اثنَيْن ! يقول : وفيمَا هم خارجُون من أريحَا تَبِعهُ جَمعٌ كثير . وإذَا أعْمَيان جالسان على الطَّريق . فلَمَّا سَمعَا أنَّ يَسوع مُجتازٌ صرخَا قائلَيْن : ارحَمنا يا سيِّدُ يا ابنَ داوُد . فانْتَهرهُما الجمعُ لِيَسكُتا , فكانَا يَصرُخان أكثَر قائلَيْن : ارحَمنا يا سيِّدُ يا ابنَ داوُد . فوقفَ يَسوع وناداهُما وقال : ماذا تريدان أن أفعلَ بكُما ؟ قالا له : يا سيِّدُ , أن تنفتحَ أعيُنُنا . فتحنَّن يَسوعُ ولَمس أعْيُنهما , فَلِلْوقت أبصرتْ أعيُنُهما فتَبعاه . (إنجيل متى – الإصحاح العشرون 29 – 34) .
وجاء في إنجيل متى ذِكْرٌ لِنَسَب المسيح عليه السَّلام على هذا النَّحو : كتابُ ميلاد يَسوع المسيح ابن داوُد ابن إبراهيم . إبراهيم ولَد إسحاق . وإسحاق ولَد يعقوب . ويعقوب ولَد يَهوذا وإخوته ... (إنجيل متى – الإصحاح الأوَّل 1 – 17) .
لكنَّ لوقا ذكَر نسبًا آخر للمسيح مختلفًا عمَّا ذكَره متى , يقول : ولَمَّا ابتدأ يَسوع كان له نحو ثلاثين سنة , وهو على ما كان يُظَنُّ , ابنُ يُوسُف بن هالي بن مَتثات بن لاوي بن ملكي بن يَنَّا بن يُوسف ... (إنجيل لوقا – الإصحاح الثَّالث 23 – 38) .
فهل يُعقَل أنَّ روح القدس , الذي ألهمَ متى ولوقا في كتابة إنجيلَيْهما , اختلطت المعلومات في ذهنه , فأوحى لكلِّ واحد منهما نسبًا مختلفًا ؟! ثمَّ لِماذا لم يذكُر مرقس ويوحنَّا نسَب المسيح ؟! هل أنَّ روح القدس نسيَ أن يُمْلِلْه عليهما أم أنَّه لم يَرَ في ذكْر ذلك أيَّة أهمِّيَّة ؟! وإذا كان الأمرُ كذلك , فكيفَ لنا أن نثق في ما جاء في هذه الأناجيل من أخبار أخرى عن المسيح عليه السَّلام وغيره ؟!

ومن بين التَّناقضات بين الأناجيل أيضًا : اختلافها في أسماء تلاميذ المسيح ! فقد جاء في إنجيل لوقا : ولَمَّا كان النَّهار دعا تلاميذه واختار منهم اثْنَيْ عشر الذين سَمَّاهم أيضًا رُسُلاً : سِمْعان الذي سمَّاه أيضًا بُطرس , وأندراوس أخاه , يعقوب , ويوحنَّا , فيلبس , وبرتولَماوس , متى , وتوما , يعقوب بن حلفَى , وسِمعان الذي يُدعى الغَيُور , يَهوذا بن يعقوب , ويَهوذا الإسخَريُوطي الذي صار مُسَلِّمًا أيضًا . ( إنجيل لوقا – الإصحاح السَّادس 13- 16) .
بينما جاء في إنجيل متى : وأمَّا أسماء الاثنَيْ عشَر رسولاً فهي هذه : الأوَّلُ سِمعان الذي يُقال له بُطرس , وأندراوس أخوه , يعقوب بن زَبْدي , ويُوحنَّا أخوه , فيلبس , وبرتولَماوس , توما , ومتى العشَّار , يعقوب بن حلْفَى , ولبَّاوس الملقَّب تَدَّاوس , سِمعان القانَويّ , ويَهوذا الإسخريوطي الذي أسْلَمه . (إنجيل متى – الإصحاح العاشر 2 – 4) .
فلوقا ذكَر : يهوذا بن يعقوب , بينما ذكَر متى بدلا عنه : لَبَّاوس الملقَّب تدَّاوس ! وذكَر لوقا : سِمعان الذي يُدعى الغَيُور , بينما ذكَر متى : سِمعان القانَويّ !
فأيُّ الأناجيل أصحُّ إذًا ؟!

ومن بين التَّناقضات بين الأناجيل ما ورد في وصيَّة المسيح لتلاميذه . فقد جاء في إنجيل مرقس : ودَعا الاثنَي عشر , وابتدأ يُرسلُهم اثْنَين اثْنَين , وأعطاهم سلطانًا على الأرواح النَّجسة . وأوصاهم أن لا يحملُوا شيئًا للطَّريق غير عصًا فقط , لا مِزْودًا ولا خُبزًا ولا نُحاسًا في المنطقة , بل يكونُوا مَشدُودين بنِعال ولا يلبسُوا ثَوبَين . (إنجيل مرقس – الإصحاح السَّادس 7 – 9) .
ولكن جاء في إنجيل لوقا : ودَعا تلاميذه الاثنَي عشر ... وقال لهم : لا تحمِلُوا شيئًا للطَّريق , لا عصًا ولا مِزْودًا ولا خُبزًا ولا فضَّة , ولا يكون للواحد ثَوبان . (إنجيل لوقا – الإصحاح التَّاسع 1- 3) .
فهل أوصى المسيحُ تلاميذَه بأخذ العصا أم بتركها ؟!
وجاء في إنجيل متى : هؤلاء الاثنا عشر أرسلَهم يَسوع وأوصاهم قائلاً : ... لا تَقْتَنُوا ذَهبًا ولا فضَّة ولا نُحاسًا في مناطقكم , ولا مِزْودًا للطَّريق ولا ثَوبَين ولا أحذيَة ولا عصًا لأنَّ الفاعل مُستحقٌّ طعامه . (إنجيل متى – الإصحاح العاشر 5 – 10) .
فهل أوصى المسيحُ تلاميذَه بأخذ الأحذية أم بتركها ؟!

ومن بين التَّناقضات بين الأناجيل : جاء في إنجيل لوقا : وكان عبدٌ لِقائد مائة مريضًا مُشرفًا على الموت , وكان عزيزًا عنده . فلمَّا سمعَ عن يَسوع أرسلَ إليه شُيوخَ اليهود يسألُه أن يأتي ويَشفي عبدَه . فلَمَّا جاءُوا إلى يَسوع طلبُوا إليه باجتهاد قائلين : إنَّه مُستحِقٌّ أن يُفعَل له هذا لأنَّه يُحبُّ أمَّتنا وهو بَنَى لنا المجمع . (إنجيل لوقا – الإصحاح السَّابع 2 – 6) .
ولكن جاء في إنجيل متى : ولَمَّا دخلَ يَسوعُ كَفْر ناحُوم , جاء إليه قائدُ مائة يطلبُ إليه ويقول : يا سيّد , غلامي مَطروحٌ في البيت مَفلوجًا متعذّبًا جدّا . فقال له يَسوع : أنا آتي وأشفيه . (إنجيل متى – الإصحاح الثَّامن 6 – 7) .
فهل جاء القائدُ بنفسه إلى المسيح أم أرسل إليه شيوخ اليهود ؟!

قد تقول سيِّدي الكريم : ولكنَّ هذه التَّناقضات ليست لها أهمِّيَّة كبيرة . المهمُّ أنَّ القصَّة حدثَتْ فعلاً .
أقول : كلامكَ صحيح لو كنَّا نتحدَّث عن اختلافات بين بشر في رواية أحداث تاريخيَّة . لكن أن تكون هذه الاختلافات في كُتب يَدَّعي النَّصارى أنَّها وحيٌ من عند اللَّه , فهذا الأمر لا يُقبَل أبدًا !!

ومن بين التَّناقضات بين الأناجيل ما ورد في قصَّة إبليس لعنه اللَّه مع المسيح عليه السَّلام . فقد جاء في إنجيل متى : ثمَّ أخذه إبليسُ إلى المدينة المقدَّسة وأوقَفه على جناح الهيكَل , وقال له : إن كنتَ ابنَ اللَّه , فاطرحْ نفسَكَ إلى أسفل لأنَّه مكتوبٌ أنَّه يوصي ملائكتَه بكَ , فعَلَى أياديهم يَحمِلُونك لكي لا تَصدِمَ بِحَجَر رِجْلَك . قال له يَسوع : مكتوبٌ أيضًا : لا تُجَرّب الرَّبَّ إلَهك . ثمَّ أخذهُ أيضًا إبليسُ إلى جبل عالٍ جدًّا وأراهُ جميعَ مَمالِك العالَم ومَجْدها , وقال له : أعطيكَ هذه جميعَها إن خررتَ وسجدتَ لي . (إنجيل متى – الإصحاح الرَّابع 5 – 9) .
ولكن جاء في إنجيل لوقا ترتيبٌ آخر : ثمَّ أصعدهُ إبليسُ إلى جبل عالٍ وأراهُ جميعَ مَمالك المسكونة في لحظة من الزَّمان . وقال له إبليس : لكَ أعطي هذا السُّلطان كلَّه ومَجْدهنَّ لأنَّه إلَيَّ قد دُفع , وأنا أعطيه لِمَن أريد . فإن سجدتَ أمامي يكون لكَ الجميع . فأجابه يَسوع : اذهبْ يا شيطان , إنَّه مكتوبٌ : للرَّبِّ إلَهكَ تسجُد وإيَّاهُ وَحده تعبُد . ثمَّ جاء به إلى أورشَليم وأقامَه على جناح الهيكَل وقال له : إن كنتَ ابنَ اللَّه فاطرح نَفسكَ من هنا إلى أسفل لأنَّه مكتوبٌ أنَّه يُوصي ملائكَته بكَ لكي يحفظوكَ , وأنَّهم على أياديهم يَحملونكَ لكي لا تَصدِم بِحَجر رِجْلَك . (إنجيل لوقا – الإصحاح الرَّابع 5 – 11) .
فهل كانت التَّجربة الأولى على الجبل والثَّانية على جناح الهيكل أم العكس ؟!

ومن بين التَّناقضات بين الأناجيل : جاء في إنجيل مرقس : ثمَّ قام قومٌ وشهدُوا عليه زُورًا قائلين : نحنُ سمعناهُ يقول : إنِّي أَنقُضُ هذا الهيكلَ المصنُوع بالأيادي , وفي ثلاثة أيَّام أبْنِي آخر غير مَصنوع بأيادٍ . (إنجيل مرقس – الإصحاح الرَّابع عشر 57 - 58) . معنى هذا أنَّ المسيح عليه السَّلام لم يقُل هذا الكلام , وأنَّ القوم شهدُوا عليه زورًا .
ولكن جاء في إنجيل يوحنّا : فسألَه اليهود : أيَّة آية تُرينا حتَّى تفعلَ هذا ؟ أجاب يَسوع : انْقُضُوا هذا الهيكل , وفي ثلاثة أيَّام أُقيمُه . (إنجيل يوحنّا – الإصحاح الثَّاني 18- 19) .
وهذا يعني أنَّ المسيح عليه السَّلام قال فعلاً هذا الكلام ! فهل نُصدِّق مرقس أم يوحنّا ؟!

وتنسِبُ الأناجيلُ إلى المسيح عليه السَّلام أقوالاً متناقضة ! 
فقد جاء في إنجيل متى مثلاً أنَّ المسيح مدحَ بطرس , فقال : وأنا أقول لك أيضًا : أنتَ بُطرس , وعلى هذه الصَّخرة أَبْني كنيستي وأبوابُ الجحيم لن تَقْوى عليها . وأعطيكَ مفاتيحَ ملكُوت السَّماوات , فكلّ ما تربطُه على الأرض يكون مربوطًا في السَّماوات , وكلّ ما تَحُلّه على الأرض يكون محلولاً في السَّماوات . (إنجيل متى – الإصحاح السَّادس عشر 18- 19) .
لكن ورد نقيضُ هذا المديح بعد ذلك بأسطر قليلة ! فجاء في نفس الإنجيل ونفس الإصحاح : فالتفتَ وقال لِبُطرس : اذهبْ عنِّي يا شيطان . أنت مَعْثرةٌ لي لأنَّك لا تهتمّ بِمَا للَّه لكن بِمَا للنَّاس . (إنجيل متى – الإصحاح السَّادس عشر 23) .
فأيُّ الأقوال تصدُق في حقِّ بطرس : هل هو رسولٌ أم شيطان ؟! ثمَّ ما هو مصير المسيح عليه السَّلام وقد وصف تلميذه بالشَّيطان , حسب زعم متى , بينما جاء في نفس الإنجيل أنَّ المسيح قال : وأمَّا أنا فأقول لكم : إنَّ كلَّ مَنْ يغضبُ على أخيه باطلاً يكونُ مُستَوجِبَ الحُكْم , ومَنْ قال لأخيه رقَا يكونُ مُستَوجِبَ المجمَع , ومَنْ قال يا أحمَق يكونُ مُستَوجِبَ نار جهنَّم . (إنجيل متى – الإصحاح الخامس 22) .
فإذا كان الذي يقول : يا أحمق , يستَوجِبُ النَّار , فمَا هو إذًا جزاءُ مَن يقول لأخيه : يا شيطان ؟!
طبعًا مصيرُ المسيح عليه السَّلام سيكون إن شاء اللَّه مع النَّبيِّين في أعلى درجات الجنَّة . هذا ما ذكره اللَّه تعالى في القرآن الكريم , وما أكَّده نبيُّه محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في أحاديثه الشَّريفة . أمَّا ما ورد في إنجيل متى من أقوال منسوبة إلى المسيح عليه السَّلام , فهو منها براء ! 

قد تقولين سيِّدتي الفاضلة : ولكن كيف لم يُلاحظ النَّصارى واليهود وجود كلّ هذه الأخطاء في كُتبهم المقدَّسة ؟!
أقول : لأنَّ التَّوراة والأناجيل والرَّسائل وغير ذلك من الكتابات المقدَّسة , لم تكن في البداية في مُتناول عامَّة النَّاس , وإنَّما كانت تنتقل فقط بين رجال الكنيسة وأحبار اليهود ! ثمَّ ظهرت الطّباعة , فبدأت هذه الكتاباتُ تنتشر بين العامَّة في القرن السَّادس عشر , وصاحَبَ ذلك مَوْجةٌ من التَّساؤلات أُمطِرَ بها رجالُ الدِّين ! فراح هؤلاء يبحثُون عن إجابات مقنعة , ولَمَّا لم يجدُوا , أصبحُوا يُردِّدون كلامًا معقَّدًا وغامضًا , لا يفهمه أحد ولا يقبله عقلٌ ولا منطق !!
والغريبُ أنَّ الكثير اليوم من أحبار اليهود ورجال الكنيسة على عِلْم تامٍّ بالأغلاط والتَّناقضات الموجودة في الكتاب المقدَّس . ولكن , عِوَض أن يَدفعهم هذا العلمُ إلى البحث عن مدى صحَّة ديانتهم , أغلقُوا بالعكس عقولَهُم في وجه الحقيقة , فضَلُّوا وأضلُّوا !! 
وإنَّ أيَّ إنسان عاقل ونزيه يستطيع أن يجزم بأنَّ التَّناقضات والأغلاط التي تعرَّضنا لها في هذا العنصر , لا تقبلُ التَّأويل , بل تدلُّ بوضوح على أنَّ الأناجيل والرَّسائل لا يمكنُ أن تكون وحيًا من عند اللَّه , وإنَّما هي من تأليف بشَر ومِن تفكيرهم الخاصّ , ولم يُساعدهم في كتابتها روحُ القُدس كما يدَّعي النَّصارى .
وصدق اللَّهُ العظيم حين أعلن أنَّ كلَّ كتاب يحتوي على تناقضات وأغلاط , لا يُمكنُ أن يكون وحيًا من عنده . يقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا 82 } (4- النّساء 82) . فقد وُجِدتْ فعْلاً الاختلافاتُ والأغلاطُ والافتراءاتُ على اللَّه سبحانه وعلى أنبيائه الكرام , في التَّوراة الموجودة اليوم عند اليهود والأسفار المصاحبة لها , وفي الأناجيل والرَّسائل الموجودة اليوم عند النَّصارى , فهي إذًا من عند غير اللَّه !

---------------------- 5

ولو كان عيسى بيننا لتبرَّأ من النَّصارى !


لِماذَا ؟! لأنَّهم رفعوه عن مكانة العبد الرَّسول , فجعلُوا منه ابنًا للَّه , وعبدُوه , ونَسبُوا إليه أقوالاً وأفعالاً مليئة بالكفر , وهو منها براء !
وقد تتساءل سيِّدي الكريم : ولكن , من أين جاء النَّصارى بعقيدة الصَّلب والفداء والخلاص المذكورة خاصَّة في رسائل بولس وإنجيل يوحنَّا ؟
أقول : أمَّا عن الصَّلب , فقد وقع فعْلاً , وسجَّلَتْهُ كتبُ التَّاريخ ! لكنَّ الذي صُلِبَ حقًّا لَم يكُن المسيح عليه السَّلام وإنَّما أحد تلاميذه , ألقَى اللَّهُ عليه شبَه عيسَى , فأخذه اليهودُ في ذلك الزَّمان وصلَبُوه ووضعُوا الشَّوكَ على رأسه , ظانِّين أنَّه المسيح . ورفَع اللَّهُ عيسى عليه السَّلام إلى السَّماء , وسيعود في آخر الزَّمان , ليس لِيُخلِّص النَّصارى , وإنَّما لِيحكُم بالإسلام ولا يقبل دينًا غيره !
نعم , هذا ما ذكره القرآن ووضَّحه النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وسنتحدّثُ عن هذا الأمر بشيء من التَّفصيل في عناصر لاحقة إن شاء اللَّه . وقد كان بعضُ تلاميذ عيسى عليه السَّلام حاضرين معه عندما رفعَه اللَّه إليه , وهؤلاء بَقوا على دينه الحقّ , يَدعُون إلى ما دعا إليه مِن عبادة اللَّه وحده , ويقولون أنَّ عيسى عبدُ اللَّه ورسولُه , ولم يقولُوا أبدًا بعقيدة الفداء والخلاص ‍‍! 
لكنَّ الذين وقعُوا في الخطأ , هم فريقٌ آخر من النَّصارى أصرُّوا على أنَّ الذي صُلِبَ هو المسيح عليه السَّلام . ولَمَّا لم يجدُوا أيّ تفسير عقائدي لهذا الصَّلب , بَحثُوا في الدِّيانات الوثنيَّة السَّائدة وَقتها , فوجدُوا فيها أنَّ الإلهَ يمكن أن يكون له أبناء وزوجة وشُركاء , وأنَّه يمكن أن ينزل إلى الأرض أو يَبعث إليها مَن يَنُوبه ليُحارب الشَّرَّ ويُخلِّص أتباعه ثمَّ يعود إلى السَّماء , وأنَّ الآلهة المتعدِّدة يُمكن أن تُجمَع في صورة إله واحد ذي عدَّة أقانيم ! ويكفي أن تدرس سيِّدي بعض الآلهة , مثل الفيشنو Vishnou والكرشنا Krishna في الدِّيانة الهندوسيَّة , والبوذا Bouddha في الدِّيانة البوذيَّة , وبعل Baal عند البابليِّين القُدامى , لِتَجد كلَّ هذه المعتقدات !
فاستوحى النَّصارى إذًا من هذه الدِّيَانات مسألة الفداء والخلاص , واستحدثُوا نَظريَّة الخطيئة الموروثة لِتبرير الصَّلْب المزعوم للمسيح , وتبنَّوْها كعقائد وأصبحُوا يَدعُون إليها ! فقد جاء في رسالة يوحنَّا : يا أولادي , أكتبُ إليكُم هذا لكي لا تُخطِئُوا . وإن أخطأ أحدٌ فلَنا شفيعٌ عند الآب , يَسوع المسيح البارّ . وهو كفَّارة لِخَطايانا . ليس لِخَطايانا فقط , بل لِخَطايا كلّ العالَم أيضًا . (يوحنّا 1 – الإصحاح الثَّاني 1 - 2) .
وجاء في رسالة بولس : إذ الجميعُ أخطأوا وأعْوَزَهم مَجدُ اللَّه , مُتَبَرّرينَ مَجَّانًا بِنعْمَتِه بالفِدَاء الذي بِيَسُوع المسيح الذي قدَّمه اللَّهُ كفَّارة بالإيمان بدَمه , لإظهار بِرّه من أجل الصَّفح عن الخطايا السَّالفة بإمهال اللَّه . (رومية – الإصحاح الثَّالث 23 – 25) .
وجاء في رسالة بولس : لأنَّه (أي اللَّه) جعلَ الذي لَم يَعرِفْ خَطِيَّةً (أي المسيح) خَطِيَّةً لأجلنا , لِنَصيرَ نحنُ بِرُّ اللَّه فيه . (كورنثوس 2 – الإصحاح الخامس 21) .
وجاء في إنجيل يوحنَّا : لأنَّه هكَذا أحبَّ اللَّهُ العالَم حتَّى بذلَ ابنَه الوحيدَ لكي لا يَهلك كلّ مَن يُؤمن به بل تكونُ له الحياةُ الأبَديَّة . (إنجيل يوحنّا - الإصحاح الثَّالث 16) .
فعقيدة النَّصارى إذًا تتلخَّص في أنَّ كلَّ إنسان يولَد خاطئًا , وارثًا للخطيئة من أبيه آدم الذي عصى اللَّهَ وأكلَ مِن الشَّجرة المحرَّمة . وأنَّ السَّبيل الوحيد لِمَحْو الخطيئة هو سَفْك دَم . يقول بولس في رسالته إلى العبرانيِّين : وكلُّ شيء تقريبًا يَتطهَّرُ حسبَ النَّاموس بالدَّم . وبدون سَفْك دَم لا تَحصُلُ مَغْفرة . (العبرانيِّين – الإصحاح التَّاسع 22) .
لهذا , بعث اللَّهُ ابنَه الوحيد يَسُوع المسيح لِيُصلَب ويموت , لكي يفتدي خطيئة آدم وخطايا البَشَر ! وكلُّ مَن يُؤمن أنَّ المسيح قام بعد الصّلب , يَخلُص وينجُو من العذاب يوم القيامة ! فقد جاء في رسالة بولس : لأنَّكَ إن اعترفْتَ بِفَمِكَ بالرَّبِّ يَسُوع وآمنتَ بقَلبكَ أنَّ اللَّه أقامَه من الأموات , خَلصْت . لأنَّ القلبَ يُؤمنُ به لِلبرّ , والفَمَ يعترفُ به لِلْخَلاص . (رومية – الإصحاح العاشر 9 – 10) .

فَما فائدة العَمل إذًا بعد هذا ؟!! 
إنَّ هذه العقيدة تتعارض بلا شكّ مع الفطرة والمنطق , ومع صفة العدل عند اللَّه , لأنَّها تُلغي مَبدأ القصاص يوم القيامة وأَخْذ حَقّ المظلوم من الظَّالِم ! بل إنَّها تُشكِّل خطرًا كبيرًا على الإنسانيَّة , لأنَّها تُشجِّع الفرد على فعل ما يُريد بدون قيد أو شرط , دون أن يخاف من العقاب , لأنَّه على كلِّ حال سوف يَخلُص ويَنجُو منه طالَما آمنَ برُبُوبيَّة المسيح وبصلبه وقيامته !!
ولو أنَّ حاكمًا أعلن لِشَعبه أنَّ كلَّ مَن يُؤمن بشَرعيَّته وكفاءته في الحكْم يَستطيع أن يفعل ما يشاء دون أن يُعاقَب , لانقلب المجتمعُ إلى فَوضى , ولانتشر السَّلبُ والنَّهبُ والقتلُ والاغتصاب ‍!
وقد ظهرت آثارُ هذه العقيدة الباطلة فعلاً في كلام بولس , رسول النَّصارى والمشَرِّع لهم , فأصبح يستبيح المحرَّمات ويُحلِّلُها لِأتباعه ! مِن ذلك ما جاء في رسالته : كلُّ شيء طاهرٌ للطَّاهرين , وأمَّا لِلنَّجِسينَ وغير المؤمنين فلَيسَ شيءٌ طاهرًا , بل قد تَنجَّس ذِهنُهم أيضًا وضميرُهم . (تيطس – الإصحاح الأوَّل 15) .
وأباح لهم شُربَ الخمر , فقال في رسالته : لا تكن في ما بعدُ شرَّابَ ماء , بل استعملْ خَمرًا قليلاً من أجل معدتكَ وأسقامِكَ الكثيرة . (ثيموثاوس 1 – الإصحاح الخامس 23) .

وتَجدرُ الملاحظة هنا أنَّ مسألة الخطيئة الموروثة لَم تَرِدْ على لسان أحدٍ من الأنبياء قبل عيسى عليه السَّلام , ولا وُجود لِأيِّ ذِكْرٍ لها في التَّوراة ! فهل يُعقَل أنَّ اللَّه تعالى أخفَى شأنَها عن أنبيائه بالرَّغم من عِلْمِه بأنَّ خلاص البشريَّة لا يَتمُّ إلاَّ بِسَفكِ دَمٍ للتَّكفير عن هذه الخطيئة ؟! وماذا عن مصير البشر الذين جاءوا قبل المسيح إذًا ؟! ولِماذا انتظر اللَّهُ آلاف السِّنين قبل أن يُرسِلَ المسيح لِيُخلِّص البشريَّة ؟! 
وإذا كان المسيحُ جاء فعلاً لهذه المهمَّة , فما معنى ما جاء في إنجيل مرقس عن آخِر أقواله (أي المسيح) عند صلبه المزعوم : وفي السَّاعة التَّاسعة صرخَ يَسوعُ بِصَوت عظيم قائلاً : إلُوي , إلُوي , لِمَ شَبَقْتَني (الذي تفسيره : إلَهي , إلَهي , لماذا تَركْتَني ؟!) . (إنجيل مرقس – الإصحاح الخامس عشر 34) . فإمَّا أنَّه أُرسِلَ مُكْرَهًا أو أنَّه لَم يُرسَلْ أصلاً للفداء !
ثمَّ , هل يَقبلُ العقلُ أن يبذلَ اللَّهُ ابنَه الوحيد المزعوم , لِيُصلَب على خشَبة ويتألَّم ويُهان ويُبصَق في وجهه ويموت , افتداءً لِخطيئة آدم ولِخطايا البَشَر ؟! ألم يكن بإمكان اللَّه , وهو المتصرِّف وحده في كلِّ شيء , أن يَغفر لعباده خطاياهم دون أن يُضحِّي بفلذة كبده ؟! هل يُعقل أن يكون اللَّهُ بمثل هذه القسوة , فيُلقي بابنه إلى الإهانة والعذاب ؟! ومِن أجل ماذا ؟! من أجل حَفنةٍ من البَشَر يعيشُون فوق كوكب صغير لا يُمثِّلُ ذرَّةً في كونه الفسيح !!
واللَّهِ إنَّ عقيدةَ الفداء والخلاص هُراءٌ لا يقبلُه عقلٌ ولا منطق , ولا يليقُ بجلال اللَّه وعدله وحكمته وكماله , سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظَّالمون عُلُوًّا كبيرًا ! 
ثمَّ إنَّ اللَّهَ قد تاب برحمته على آدم وحوَّاء منذ أن كانا في الجنَّة , وانتهَت القضيَّة ! يقول تعالى في القرآن الكريم : { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ 35 فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ 36 فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 37 قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 38 وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 39 } (2- البقرة 35-39) . 
فليس هناك إذًا خطيئةٌ موروثة , وكلُّ إنسان مسؤولٌ فقط عن أفعاله , يقول تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 164 } (6- الأنعام 164) . 

ولم يكتف النَّصارى بتحريف شريعة عيسى عليه السَّلام , بل نسبُوا إليه أيضًا أقوالاً وأفعالاً لا تليق بهذا النَّبيِّ الكريم ! فقد جاء مثلاً في إنجيل يوحنَّا : وفي اليوم الثَّالث كان عُرسٌ في قانا الجليل , وكانت أمّ يَسوع هناك . ودُعِيَ أيضًا يَسوعُ وتلاميذُه إلى العُرس . ولَمَّا فرغت الخَمرُ قالت أمّ يَسوع له : ليس لهم خَمر . قال لها يَسوع : مالي ولَكِ يا امرأة ! لَم تأتِ ساعَتي بَعدُ . (إنجيل يوحنّا – الإصحاح الثَّاني 1 – 4) .
فهل يُعقَل أنَّ المسيح عليه السَّلام يَنهرُ أمَّه بهذه الطَّريقة ؟! 
أبدًا لا يُعقَل , فقد شهد له اللَّهُ تعالى في القرآن الكريم بأنَّه كان بارًّا بوالدته , حيث قال تعالى : { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 30 وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا 31 وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا 32 } (19- مريم 30-32) . 
وهل يُعقَل أنَّ مريم عليها السَّلام تطلبُ من ابنها أن يُحَوِّل الماءَ إلى خَمْر يَشربُه أهلُ العريس ؟! 
أبدًا لا يُعقَل , فقد شهد لها اللَّهُ تعالى في القرآن الكريم بالطَّهارة وعُلُوِّ الدَّرجة , حيث قال تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ 42 } (3- آل عمران 42) . 

ومِن الأقوال المنسوبة زورًا إلى عيسى عليه السَّلام , ما جاء في إنجيل لوقا : وقال لآخر : اتْبَعْني . فقال : يا سَيِّدُ ائذَنْ لي أن أمضي أوَّلاً وأدفِنَ أبي . فقال له يَسوع : دَع الموتَى يَدفِنُون موتاهُم , وأمَّا أنت فاذْهَبْ ونادِ بِمَلكُوت اللَّه . وقال آخرُ أيضًا : أتبعُكَ يا سَيِّدُ ولكن ائذَنْ لي أوَّلاً أن أوَدِّع الذين في بَيتي . فقال له يَسوع : ليس أحدٌ يضعُ يَده على المحراث وينظُر إلى الوراء يَصلحُ لِملكُوت اللَّه . (إنجيل لوقا – الإصحاح التَّاسع 59 – 62) . 
فهل يُعقل أن يَمنعَ نبيُّ اللَّه عيسى عليه السَّلام أحدَ أتباعه من دفن والده , ويَمنع آخر من وداع أهله ؟! 
أبدًا لا يُعقَل , لأنَّ كلَّ الأنبياء كانُوا يَحُثُّون على برِّ الوالدين والإحسان إلى الزَّوجة والأهل . 

ومِن مظاهر إساءة النَّصارى إلى المسيح عليه السَّلام : تَصديقهم لِما أشاعه اليهود من علاقة أمِّه مريم , الطَّاهرة العفيفة , بِرجُلٍ يُدعَى يوسف النَّجَّار , فنَسبُوه (أي نَسَبُوا المسيحَ) إليه . والحقيقة أنَّ عيسى عليه السَّلام خلقهُ اللَّه مِن أمٍّ بلا أب , معجزةً منه , مثلما خلقَ آدمَ عليه السَّلام بدون أب ولا أمّ .

أفلا يكفي كلُّ هذا لكي يتبرَّأ المسيحُ عليه السَّلام من النَّصارى وعقائدهم الباطلة ؟!!

---------------------- 5

كلمة عن إنجيل برنابا


ذكَرْنا أنَّه ظهر في البداية حوالي سبعون إنجيلاً , أمَر إمبراطورُ الرُّوم سنة 325 م بإحراقها , بعد أن اختار مجمعُ الكنائس منها الأربعة المعروفة اليوم . وذكَرْنا أيضًا أنَّهُ أُقِرَّ في هذا المجمع بأنَّ عيسى ابنُ اللَّه , تعالى اللَّهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا ! ولكن ليس كلُّ النَّصارى في ذلك الوقت كانُوا يعتقدُون هذا الاعتقاد , بل كان منهم مُوَحِّدون , يؤمنون بأنَّ اللَّه إله واحد , وأنَّ عيسى عليه السَّلام عبدُه ورسوله . وهؤلاء لَم يَتَبَنَّوْا قرارات المجمع , فضيَّق عليهم إمبراطورُ الرُّوم الخناق , وهدَّم كنائسهُم وشرَّدهم وطردهم من ديارهم ! وبِمُرور السِّنين والقرون , اضمحلَّت مذاهب هؤلاء , ولَم يبقَ من أتباعهم أحدٌ تقريبًا . 
ومِن بين الأناجيل الأولى التي كُتِبتْ , إنجيل برنابا (Barnabé) , كتَبهُ برنابا , واسمه الحقيقي يوسف بن لاوي , أمَّا برنابا فهو لقبٌ أطلَقه عليه الحواريُّون (Les Apôtres) , فقد جاء في سِفْر أعمال الرُّسُل : ويوسف الذي دُعِيَ من الرُّسُل بَرْنابا الذي يُتَرجَم ابن الوَعْظ , وهو لاوي قُبرُسي الجنس . (أعمال الرُّسل – الإصحاح الرَّابع 36) . 
وُلِدَ برنابا بقبرص , وتُوفِّي بها مقتولاً سنة 61 م . وقد عاصَر المسيحَ عيسى عليه السَّلام ورآهُ وصحِبَه , وصحبَ أيضًا مرقس Saint-Marc وقد عُرِفَ برنابا بصلاحه وتَفانيه في الدَّعوة إلى المسيحيَّة , ويشهد له الحواريُّون بذلك , حيثُ جاء في سِفْر الأعمال : فسُمِعَ الخَبرُ عنهم في آذان الكنيسة التي في أورشَليم , فأرسلُوا بَرْنابا لكي يجتاز إلى أنطاكية . الذي لَمَّا أتى ورأى نعمة اللَّه فرحَ ووعظَ الجميعَ أن يثبتُوا في الرَّبِّ بعزم القلب , لأنَّه كان رجلاً صالِحًا ومُمتلئًا من الرّوح القُدُس والإيمان , فانضمَّ إلى الرَّبِّ جمعٌ غفير . (أعمال الرُّسل – الإصحاح الحادي عشر 22 – 24) .
والسَّببُ في وقوفنا هنا عند إنجيل برنابا , هو أنَّه يُخالفُ الأناجيل الأربعة المعروفة اليوم في أمور جوهريَّة , منها أنَّه رَدَّ زَعْم النَّصارى ألوهيَّة عيسى عليه السَّلام , فقال بأنَّه عبدٌ ورسول , ورَدَّ ادِّعاءَهم صَلْبَه , فقال بأنَّه لم يُصلَبْ , وذكر صراحةً في عدَّة مواضع من إنجيله بشارةَ عيسَى عليه السَّلام بِمَجيء النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مِنْ بعده !!
نعم , كلُّ هذا مذكورٌ في إنجيل برنابا , وهو ما يُفسِّرُ صدور أمْرٍ سنة 366 م من البابا دماس الأوَّل (Damase 1er) ثمَّ من باباوات مِن بعده , بعَدم قراءة هذا الإنجيل ! 
وفي دراسة قيِّمة جدًّا للدُّكتور منقذ بن محمود السقار عن كُتُب العهد القديم والعهد الجديد , استعنتُ بها في كتابة العناصر السَّابقة وموجودة على موقع الحقيقة www.alhakekah.com , يذكُر الدُّكتور أنَّ ذِكْرَ إنجيل برنابا اختفَى قُرونًا عديدة , حتَّى عُثِر سنة 1709 م على نُسخة منه مكتوبة بالإيطاليَّة , مُجَلَّدَة وعليها نقوش ذهبيَّة , استقرَّت سنة 1738 م في البلاط الملكي في فيينَّا , عاصمة النّمسا . وقد تُرجِمتْ هذه النُّسخة إلى العربيَّة على يد الأستاذ خليل سعادة .
ويَردُّ بعضُ النَّصارى اليوم بأنَّ النُّسخة الإيطاليَّة من إنجيل برنابا مُزوَّرة , وأنَّ الذي كتبها مسلم !
أمَّا المسلمون فيقولون بأنَّ هذا لا يصحُّ , لأنَّ هذا الإنجيل , وإن كان يُوافق معتقدات المسلمين بخصوص عدم ألوهيَّة عيسى عليه السَّلام , ونجاته من الصّلب , وبشارته بمحمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , إلاَّ أنَّه يحتوي على العديد من الأشياء التي لا يقول بها أيُّ مسلم , مثل وصف اللَّه تعالى بالرُّوح والعجيب والمبارك , واستعمال أسماء ملائكة غير معهودة , مثل : رفائيل وأوريل , والقول بأنَّ السَّماوات تسع !

وعلى كلِّ حال , يبقَى إنجيلُ برنابا في نَظر المسلمين , حالُه مثل حال بقيَّة الأناجيل المعروفة , كلُّها مِن وضْع بَشَر , وليست هي الإنجيل الحقيقي الذي أنزلهُ اللَّه تعالى على نبيِّه عيسى عليه السَّلام , والمذكور في عدَّة مواضع من القرآن الكريم .

---------------------- 5

ما يمكن استخلاصه بخصوص التَّوراة والأناجيل


ما يمكنُ استخلاصُه إذًا من كلِّ ما سَبق هو أنَّ التَّوراة الموجودة اليوم عند اليهود ليست هي التي أُنزِلَتْ على موسى عليه السَّلام , وذلك بشهادة القرآن الذي أعلَن أنَّ التَّوراة الأصليَّة حُرِّفَتْ بعد موت موسى , وبشهادة الباحثين في تاريخ الأديان الذين قالُوا أنَّها أُتْلِفَتْ أثناء الحروب , هذا بالإضافة إلى الأدلَّة التي ذكَرناها والتي لا تتركُ مجالا للشّكّ أنَّ هذه التَّوراة تحتوي على نصوص لا يقبل العقل ولا المنطق أن تكون صادرة عن خالق هذا الكون بِمَا فيه .
كذلك , الأناجيل الموجودة اليوم عند النَّصارى ليست هي الإنجيل الذي أُنزِلَ على عيسى عليه السَّلام , وذلك بشهادة القرآن الذي ذكَر إنجيلاً واحدًا أُنزِلَ على عيسى , بينما نجدُ اليوم أربعة , والبقيَّة أُحرِقَتْ , وبشهادة النَّصارى أنفسهم والمؤرِّخين الغربيِّين الذين يعترفُون أنَّ هذه الأناجيل لَمْ يَكتُبها عيسى ولم يُمْلِلها على أتباعه , وإنَّما كَتبها أُناسٌ بعد موته بأكثر من قرن ونصف , ونَسبُوها إلى تلاميذه من الجيلَيْن الأوَّل والثَّاني , هذا بالإضافة أيضًا إلى الأدلَّة التي ذكَرناها والتي تُبيِّن أنَّ هذه الأناجيل تحتوي على تناقضات عديدة وأقوال باطلة لا يقبل العقل ولا المنطق نسبتها إلى اللَّه سبحانه وتعالى .
لا يَصحُّ إذًا , بأيِّ حال من الأحوال , اعتماد التَّوراة أو الأناجيل أو الرَّسائل المصاحبة لها , كمراجع دينيَّة من عند اللَّه تعالى , ولا يُقبلُ الاستشهاد بها في أيّة مسألة من المسائل .

---------------------- 5

القرآن الكريم , معجزة كلّ الأزمان !


ليس هناك أيّ وَجْه مقارنة بين القرآن الكريم , وبين توراة اليهود وأناجيل النَّصارى , لا في الأسلوب ولا في المحتوى ! فالقرآن كتابٌ مُقدَّس فريدٌ من نوعه , مُعجِزٌ ببلاغته ومحتَوى آياته , وهو دليلُ الإنسان في كلِّ مجالات حياته , في كلِّ البلدان وكلِّ الأزمان إلى قيام السَّاعة ! 
وبخلاف الكُتب السَّماويَّة السَّابقة التي بُدِّلَتْ وحُرِّفت , فإنَّ القرآن قد تكفَّل اللَّهُ سبحانه بحفظه , ليكون شاهدًا على وجود الخالِق , وليكون منهاجًا لِخَلْقِه إلى آخر الزَّمان , لأنَّه لا نبيَّ بعد محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , يقول اللّه تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ 9 } (15- الحجر 9) . والمقصود بالذِّكْر هنا : القرآن الكريم , تعهَّد اللَّهُ بحفظه . فهل يستطيع أيُّ مخلوق بعد هذا أن يُبدِّل أو يحرِّف كلمة واحدة منه ؟!
إطلاقًا ! ولو اجتمعتْ على ذلك الإنسُ والجنّ . فإذا كان اللَّه تعالى قد استطاع بقُدرته حفظَ السَّماوات والأرض من الوقوع منذ مليارات السِّنين , فهل يُعجزهُ أن يَحفظ القرآن من التَّحريف بعد أن تعهَّد بذلك ؟! 
أبدًا ! والدَّليل أنَّك تطوفُ العالَم اليوم شبرًا شبرًا , فلا تجدُ إلاَّ قرآنًا واحدًا , هو بالضَّبط الذي أَنزلَه اللَّهُ تعالى , بواسطة الملَك جبريل عليه السَّلام , على النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم منذ حوالي 1400 سنة .
ثمَّ إنَّ الآيات التي عرضتُها عليك من قبل , والتي تُشير إلى حقائق علميَّة دقيقة لم يستطع العلماءُ الوصول إليها إلاَّ منذ وقت قريب وبعد سنوات من التَّجارب الدَّقيقة والملاحظة المستمرَّة , هذه الآيات لا تَدَعُ مجالاً للشَّكِّ في أنَّ هذا القرآن وحيٌ من عند اللَّه , وأنَّه لم يَدخُلْ عليه أيّ تغيير أو تبديل , وأنَّ كلّ ما جاء فيه حقٌّ . يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ 41 لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ 42 } (41- فصّلت 41-42) . 
ذلك أنَّ اللَّه تعالى لَمَّا بعثَ أنبياءَه أيَّدَهم بمعجزات تتناسب مع أَزْمانهم :
فالنَّبيُّ موسى عليه السَّلام بُعِثَ في عصْرٍ اشتهَر بانتشار السّحْر وتقدُّم السَّحَرة في هذا المجال , فأيَّده اللَّهُ تعالى بعصا , تحوَّلَتْ بإذنه (أي بإذن اللَّه) إلى حيَّة , وأبطَلَتْ حِيَل كبَار السَّحرة . ويَحكي لنا القرآنُ تفاصيل هذه الحادثة بأسلوبه الفريد الذي يشهد لِوَحده أنَّه كلام اللَّه , فيقول متحدِّثًا عن فرعون : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى 56 قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى 57 فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى 58 قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى 59 فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى 60 قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى 61 فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى 62 قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى 63 فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى 64 قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى 65 قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى 66 فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى 67 قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى 68 وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى 69 فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى 70 قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى 71 قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا 72 إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى 73 إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى 74 وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى 75 جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى 76 } (20- طه 56-76) .
فكِبارُ السَّحرة الذين جَمَعَهُم فرعونُ لِنُصْرته رأَوْا بأَعيُنهم , وهم المتخصِّصون في هذا الميدان , أنَّ العملَ الذي قام به موسى عليه السَّلام يستحيلُ أن يكون سحرًا , وإنَّما هو معجزةٌ أيَّده اللَّهُ تعالى بها . فلم يتردَّدوا في الإيمان بموسى وبخالقه , بالرَّغم من تهديد فرعون ووعيده لهم !

وأمَّا النَّبيُّ عيسى عليه السَّلام , فقد بعثه اللَّه تعالى في عصْرٍ تَطوَّر فيه الطِّبُّ , فأيَّده بقُدرات غير عاديَّة على مداواة الحالات المرَضيَّة المستعصِيَة وحتَّى إحياء الموتى , كلُّ ذلك بإذن اللَّه . يقول تعالى مفصِّلاً هذه المعجزة : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ 110 } (5- المائدة 110) . 
كلُّ قُدُرات عيسى عليه السَّلام كانت إذًا معجزات من عند اللَّه تعالى . فإذا كان النَّصارى قد اتَّخَذُوا من هذه المعجزات سببًا لِتَأليه عيسى وادِّعاء أنَّه ابنُ اللَّه , فلماذا لا يكون إبراهيمُ عليه السَّلام كذلك وقد رُميَ في النَّار فخرج منها سالِمًا ؟! ولماذا لا يكون موسى عليه السَّلام كذلك وقد ضَرب البحرَ بعصاه فانفلق إلى نصفين , فاخترقَه هو وأتباعُه فلم يغرقوا , وتبعهم فرعونُ وجنوده فغرقوا ؟! 
بل , هل يَقبل العقل والمنطق أن يكون لِخَالق هذا الكون الهائل ابنٌ أو زوجة ؟! تعالى اللَّه عمَّا يقول الظَّالمون علُوًّا كبيرا !

أمَّا محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقد بعثه اللَّهُ تعالى في عصْر البلاغة والفصاحة , فأيَّده بالقرآن الكريم الذي أَعجز الفُصحاءَ والأدباءَ والشُّعراء في ذلك الوقت . وإذا كانت معجزةُ كلُّ نبيٍّ قد انقطعت بموته , فإنَّ معجزة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم خالدة إلى قيام السَّاعة ! يقول اللَّه تعالى متحدِّثًا عن الكفَّار : { وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ 50 أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 51 قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ 52 } (29- العنكبوت 50-52) .
فالكفَّارُ مِن قَوْم محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم طَلبُوا منه أن يُريهم مُعجزات ملموسة , كما فعل الأنبياء مِن قبله , لِيَتحقَّقُوا أنَّه مبعوثٌ من عند اللَّه . فأجابهم اللَّهُ تعالى بأنَّ القرآنَ الكريم كافٍ وحده ليكُون معجزةً لهم خاصَّة , وللنَّاس عامَّةً في كلِّ الأزمان . 

ولو طلبنا اليومَ من نصراني أن يُرينا كيف كان عيسى عليه السَّلام يُبرئ الأبرص ويُحيي الموتى , لَعَجز عن ذلك . وكذا الحالُ لو طلبنا من يهودي أن يُرينا كيف كانت عصا موسى عليه السَّلام تتحوَّل إلى حيَّة . 
أمَّا لو طلبنا من مسلم أن يُرينا معجزة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فسَيَجِدُها دون تعب ! إنَّها القرآنُ الكريم الذي سَحَر ببلاغته فُصحاء العرب في كلِّ عصر , وبَهَر بمحتواه كلَّ النَّاس . فهو فعلاً مَرْجعٌ في الأخلاق , والعلاقات الاجتماعيَّة , والمعاملات الماليَّة , والقضاء , وأخبار السَّابقين , وأخبار العوالم الأخرى من ملائكة وجنٍّ وشياطين , والأخبار الغيبيَّة عن البعث والحساب . وها نحنُ اليوم في عصر العلم لا نزال حائرين أمام إعجاز القرآن العلمي في مختلف الميادين , وكذلك إعجازه البلاغي والتَّشريعي !

---------------------- 5

كيف أُنزل القرآن الكريم ؟


أُنزلَ القرآنُ وحيًا باللُّغة العربيَّة , مِن اللَّه تعالى على النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , بواسطة الملَك جبريل عليه السَّلام . يقول اللَّه تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ 192 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195 } (26- الشّعراء 192-195) .
ولم ينزل القرآنُ مرَّةً واحدة , وإنَّما نزلَ متفرِّقًا , بحسب الأحداث , على مدى 23 سنة . يقول اللَّه تعالى : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً 106 } (17- الإسراء 106) .
فكان النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يَحفظ ما أُنزل عليه من آيات , ثمَّ يتلُوها على أصحابه , فيَحفظونها في صدورهم ويكتبوها . وكان مِن بين أصحابه مَن كان مُكلَّفًا بكتابة الوحي , مثل : زيد بن ثابت وعبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنهما , فكانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يُملي عليهم ما يَنزلُ عليه من الآيات , فيكْتبوها فَوْر نُزولها . 
ولا يمكن أن نشكَّ في جَوْدة حفْظ النَّبيِّ للقرآن , لأنَّ اللَّه تعالى تكفَّلَ بتحفيظه له ! يقول تعالى مخاطبًا إيَّاه : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ 16 إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ 17 فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ 18 ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ 19 } (75- القيامة 16-19) .
ذلك أنَّ الملَكَ جبريل عليه السَّلام كان يأتي إلى النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم لِيُوحِي إليه آيات جديدة من القرآن , فكان النَّبيُّ يتعجَّلُ في ترديد ما يقرأه عليه الملَك حتَّى لا يَنسى أيَّ حرف منه . فطَمْأنه اللَّهُ تعالى في هذه الآيات بأنَّه تكفَّل بأن يجمع له القرآنَ في صدره فلا ينساه أبدًا , ويُبيِّن له معناه ويُوَضِّحه له . ما عليه إذًا إلاَّ أن يُنْصت إلى الملَك , ثمَّ يقرأ وراءه بكلِّ طمأنينة . 
وكان للنَّبيِّ بعد ذلك موعدٌ سنوي مع جبريل عليه السَّلام , لِيَعرض عليه ما نزل حتَّى ذلك اليوم من القرآن . فقد روى الإمام أحمد في مُسْنَده عن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنه , قال : كان رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يعرضُ القرآن في كلِّ رمضان على جبريل , فيُصبحُ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مِن لَيْلَته التي يعرضُ فيها ما يعرض وهو أَجْوَد من الرِّيح المرْسَلَة , لا يُسألُ عن شيء إلاَّ أعطاه , حتَّى كان الشَّهر الذي هلكَ (أي تُوفِّيَ) بعده , عرضَ فيه عرضَتَيْن (أي مرَّتين) . (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 1 – ص 326 – رقم الحديث 3012) .
ولَم ينزل القرآنُ بالتَّرتيب الحالي الذي نَعرفُه اليوم , وإنَّما كانت الآيات تنزلُ بِحَسَب الأحداث , فكان النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يقول لِكُتَّاب الوحي : ضَعُوا الآية كذا في موضع كذا من السُّورة كذا . 
فقد روى الحاكم في مُستدركه عن عثمان بن عفَّان رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم كان يأتي عليه الزَّمان تنزلُ عليه السُّوَر ذوات عدد , فكان إذا نزلَ عليه الشَّيء يَدعُو بعضَ مَن كان يكتبُه , فيقول : ضَعُوا هذه في السُّورة التي يُذكَر فيها كذَا وكذَا , وتنزلُ عليه الآية فيقولُ : ضَعُوا هذه في السُّورة التي يُذكَر فيها كذَا وكذَا . (المستدرك على الصّحيحين – الجزء 2 – ص 241 – رقم الحديث 2875) .
ولَمَّا تُوفِّيَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , كانَ المئاتُ من الصَّحابَة يحفظون القرآن كاملاً عن ظهر قَلْب . لكن وقعت معركةٌ شديدة في عهد الخليفة الأوَّل أبي بكر الصِّدِّيق , بين المسلمين وبين بعض العرب الذين التفُّوا وراء رجُلٍ اسمه مُسَيْلمة , ادَّعَى النُّبوَّة . فاستُشهِد في هذه المعركة , وهي معركة اليمامة , عدد كبير من حُفَّاظ القرآن , مِمَّا دَفعَ بالصَّحابي عمر بن الخطَّاب أن يَطلب من أبي بكر أن يَجمع القرآنَ في مصحف واحد مكتوب .
فقد روى البَيْهقي في سُنَنه عن زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه , قال : بعثَ إليَّ أبو بكر رضي اللَّه عنه , مَقْتَل أهل اليمامة (أي إثر معركة اليمامة) , وعندهُ عُمَر (بن الخطَّاب) رضي اللَّه عنه . فقال أبو بكر : إنَّ عُمَر أتاني فقال : إنَّ القتل قد استحر (أي اشتدَّ وكَثُر) يَومَ اليمامة بقُرَّاء القُرآن , وإنِّي أخشَى أن يستحر القتلُ بقُرَّاء القرآن في المواطن كلِّها (أي في المعارك الموالية مع الكفَّار) فيذهب قرآنٌ كثيرٌ , وإنّي أرى أن تأمرَ بِجَمع القرآن . قلتُ : كيف أفعلُ شيئًا لَمْ يفعلْهُ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ؟! فقال عمر : هو واللَّهِ خير . فلَمْ يَزلْ عُمَر يُراجعُني في ذلك حتَّى شرحَ اللَّهُ صدري لِلَّذي شرحَ له صدْرَ عُمَر , ورأيتُ في ذلك الذي رأى عُمَر .
قال زيد : ثمَّ قال لي أبو بكر : وإنَّك رجلٌ شابّ عاقل , لا نتَّهمُك , قد كنتَ تكتبُ الوحيَ لِرسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فَتَتَبَّعِ القرآنَ فاجمعهُ . 
فَوَاللَّهِ لَو كَلَّفَني بنَقْلَ جبل من الجبال ما كانَ بأثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كلَّفني من جمع القرآن ! فقلتُ : كيفَ تفعلان شيئًا لَمْ يفعلْهُ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ؟! فقال أبو بكر : هو واللَّهِ خير . فلَمْ يَزلْ يُراجعُني في ذلك حتَّى شرحَ اللَّهُ صدري لِلَّذي شرح له صدْرَ أبي بكر وعُمر , ورأيتُ في ذلك الذي رأيَا . فتتبَّعتُ القرآنَ أجمعهُ من العسب والرِّقاع واللِّخاف وصدور الرِّجال , فوجدتُ آخر سورة التَّوبة : { لقد جاءكُم رسولٌ من أنفُسكُم ... } إلى آخر السُّورة , مع خُزيْمة وأبي خُزيمة , فألحَقْتُها في سورتها . فكانت الصُّحُف عند أبي بَكر حياتَه , ثمَّ عند عُمَر حياتَه حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّه , ثمَّ عند حفصة بنت عُمَر . (سنن البيهقي الكبرى – الجزء 2 – ص 40 – رقم الحديث 2202) .
قال ابنُ حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري : كان القرآنُ قد كُتِبَ كلّه في حياة النَّبيّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , ولكنَّه لَم يَكُن مجموعًا في مكان واحد .
فلَمَّا اختِيرَ زيدُ بن ثابت لِجمع القرآن , وكان أحد كتَّاب الوحي الممَيَّزين في حياة النَّبيّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وكان يحفظُ القرآن كاملاً , استعانَ في مهمَّته الثَّقيلة هذه بثلاثة آخرين من حُفَّاظ القرآن المعروفين بأمانتهم . وبالرَّغم من أنَّهم الأربعة كانُوا يحفظون القرآن عن ظهر قلب , إلاَّ أنَّ زيدًا , زيادةً في الحيطة , كان خلال جمعه للقرآن لا يَقبلُ إلاَّ ما كُتِبَ في حياة النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وشهد شاهدان ثقات بصحَّته .
تَمَّ جمعُ القرآن إذًا في مصحف واحد في عهد الخليفة الأوَّل أبي بكر الصِّدِّيق , وبقي كذلك في عهد الخليفة الثَّاني عمر بن الخطَّاب . فلمَّا تولَّى عثمانُ بن عفَّان الخلافة بعد عُمَر , كلَّف زيدَ بن ثابت بجمع القرآن مرَّة ثانية , ثمَّ بعثَ نُسَخًا منه إلى أنحاء الدّولة الإسلاميَّة . والسَّببُ في ذلك ما رواه النّسائي في سُنَنه عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه , أنَّ حُذَيْفة (بن اليَمان) قدم على عثمان (بن عفَّان) , وكان يُغازي أهل الشَّام مع أهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان , فأفزعَ حُذَيفةَ اختلافَهم في القرآن , فقالَ لِعُثمان : يا أمير المؤمنين , أدْرِكْ هذه الأمَّة قبل أن يختلِفُوا في الكتاب كما اختلفَت اليهودُ والنَّصارى ‍! فأرسلَ عُثمانُ إلى حَفصة أن أرسلِي إلينا بالصُّحُف ننسخُها في المصاحف ثمَّ نَرُدُّها إليكِ . فأرسلَتْ بها إليه , فأمَر زيدَ بن ثابت , وعبد اللَّه بن الزُّبير , وسعيد بن العاص , وعبد الرَّحمن بن الحارث بن هشام , أن يَنسخُوا الصُّحُف في المصاحف , فإن اختلفُوا وزيدَ بن ثابت (أي إن اختلف الثَّلاثة القُرَشيُّون مع زيد) في شيء من القرآن , فاكتبوهُ بلسان قُرَيْش , فإنَّ القرآنَ نزلَ بلسانهم . ففعلُوا ذلك , حتَّى إذا نَسخُوا الصُّحُف في المصاحف , رَدَّ عُثمانُ الصُّحُفَ إلى حفصة , وأرسلَ إلى كُلِّ أُفُقٍ مُصحفًا مِمَّا نسخُوا . (السّنن الكبرى – الجزء 5 – ص 6 – رقم الحديث 7988) .
والاختلاف الذي ذكَره حُذَيْفة هنا في القرآن , هو اختلاف اللَّهجات بين أهل الحجاز وأهل سوريا وأهل العراق . وكلُّ مَن يجوبُ الأقطارَ العربيَّة اليوم يُلاحظ اختلافَ العرب في نُطق بعض الحروف , مثل القاف , والجيم , وغيرهما . وهذا ما دعا الخليفةَ عثمان بن عفَّان رضي اللَّه عنه أن يجمع القرآن مرَّة ثانية . وكُلِّفَ زيدُ بن ثابت مرَّة أخرى بهذه المهمَّة الثَّقيلة مع ثلاثةٍ من الصَّحابة , وجُمِع القرآنُ مرَّة أخرى في مصحف واحد سُمِّيَ بِمُصحف عثمان . ثمَّ وقعَت كتابة بعض النُّسخ منه , أرسِلَتْ إلى الكوفة , والبصرة , وسوريا , وقيل : وأيضًا إلى اليمن , والبحرين , ومكَّة . واحتفَظَ عثمان بنسخة في المدينة , ونسخة أخرى في بيته .
ومنذ ذلك اليوم , أصبحت هذه النُّسخة من مُصحف عُثمان هي النُّسخة الوحيدة المعتَمَدة في طبع القرآن في كلِّ بقاع العالم .
هكذا إذًا أُنْزلَ القرآن , وهكذَا حفظه اللَّه تعالى من التَّحريف والزّيادة والنُّقصان , وسيبقَى محفوظًا إلى يوم القيامة .

---------------------- 5

لماذا ترك الفَنَّ والشُّهرة واعتنق الإسلام ؟!


نختم هذا الجزء بقصَّتين واقعيّتين :
القصَّة الأولى في إسلام السَّيِّد Cat Stevens , المغنِّي الانجليزي الذي اشتهر نجمُه في موسيقى البوب (pop music) في بداية السَّبعينات , والذي أَطلق على نفسه بعد إسلامه اسم يوسف إسلام . 
يقول Cat : كانت أسرتي تَدينُ بالمسيحيَّة , فتربَّيْتُ على تلك الدِّيانة , وتعلَّمتُ أنَّ اللَّه موجود ولكن لا يُمكنُنا الاتِّصالُ به مباشرة , بل لا بُدَّ أن يكون ذلك عن طريق عيسى عليه السَّلام ! وبالرَّغم من اقتناعي الجزئي بهذه الفكرة إلاَّ أنَّ عقلي لم يتقبَّلْها بالكُلِّيَّة ! وكنتُ أنظرُ إلى تماثيل النَّبيِّ عيسى , فأراها حجارةً لا حياة فيها ! وكانت عقيدةُ التَّثليث تُحيِّرُني وتُقلقُني , ولكنَّني لم أكن أناقشُها احترامًا لِمُعتقدات والديَّ .
ثمَّ بدأتُ أبتعدُ شيئًا فشيئًا عن نشأتي الدِّينيَّة , وانخرطتُ في مجال الموسيقى والغناء , وكنتُ أطمحُ أن أُصبحَ مغنِّيًا مشهورًا . وأخذَتْني تلك الحياة البرَّاقة بِمَباهجها ومفاتنها , فأصبحَتْ هي إلهي , وأصبح الثَّراءُ المطلَق هو هدفي . وبالطَّبع , كان للمجتمع من حولي تأثيرٌ بالغ في ترسيخ هذه الفكرة بداخلي , حيثُ أنَّ الدُّنيا كانت تعني لهم كلّ شيء .
وانغمستُ في هذه الحياة بكلِّ طاقتي , وقدَّمتُ الكثير من الأغاني , وحققَّتُ نجاحًا واسعًا خلال فترة قصيرة , وأصبحتُ نجمًا عالَميًّا وأنا لَمْ أتَعَدَّ التَّاسعة عشر من عمري ! ووصلَتْ مُعظَم أغانيَّ إلى قمَّة المسابقات العالميَّة في أواخر السِّتِّينات وأوائل السَّبعينات , وحقَّقَتْ ألبُوماتي نجاحًا تجاريًّا وأرقامًا قياسيَّة في المبيعات , واجتاحتْ صُوَري وأخباري وسائل الإعلام المختلفة . ولَم يكنْ يشغلُني طوال تلك الفترة سوى الحصول على المال والشُّهرة والمجد , مِمَّا أنساني الدِّينَ تَمَامًا .
بعد مُضيِّ عام تقريبًا من النَّجاح المادِّي وتحقيق الشُّهرة , أُصِبْتُ بمرض السُّلّ ودخلتُ المستشفَى لِفتْرة طويلة . وكانت هذه الأزمة فرصة لي لِأَتأمَّل في حالي وأُعيد التَّفكير في هدفي في هذه الحياة . فبدأتُ أقرأُ في الدِّيانات الشَّرق آسيويَّة التي كانت سائدة في ذلك الوقت , وبدأتُ لِأوَّل مرَّة أُفكِّر في الموت . وأهمُّ ما توصَّلتُ إليه في تلك المرحلة أنَّني لستُ جسدًا فقط , وإنَّما أنا جسدٌ وروح , وأنَّه لا بُدَّ أن يكون هناك انسجامٌ بين الاثنين .
بعد شفائي من مرضي , عدتُ إلى عالَم الموسيقى والغناء ثانية , ولكن في هذه المرَّة بدأَتْ أغانيَّ تعكسُ أفكاري وقَناعاتي الجديدة . وازدادَتْ شُهرتي في هذا الميدان , ولكنَّني كنتُ أعاني في نفس الوقت من صراع داخلي لأنَّني كنتُ أبحثُ عن الحقيقة . 
واقتنعتُ وقْتَها أنَّ البوذيَّة قد تكون عقيدة نبيلة وراقية , ولكنَّني لَم أكُن مستعدًّا أن أتفرَّغ للعبادة وأنعزل عن العالَم , لأنَّني كنتُ متعلِّقًا بالدُّنيا . فحاولتُ أن أجد ضالَّتي في علْم الأبراج والأرقام , ثمَّ في معتقدات أخرى , ولكنَّني لم أقتنع بأيّ شيء منها . ولم أكنْ حتَّى تلك اللَّحظة أعرفُ شيئًا عن الإسلام .
وصادفَ أن سافر أخي الأصغر David إلى القُدس , وعاد مبهورًا بالمسجد الأقصى وبالحيويَّة التي تعجُّ بين جَنَباته , على خِلاف الكنائس المسيحيَّة والمعابد اليهوديَّة التي دائمًا ما تكون خاوية ! وأحضَر لي أخي من القُدس نسخة مُترجَمة لِمعاني القرآن الكريم بالانجليزيَّة . وعلى الرَّغم من أنَّه لَم يَعْتنق الإسلام , إلاَّ أنَّه أحَسَّ بشيء غريب تُجاه هذا الكتاب , وتَوَقَّع أن يُعجبَني وأن أجد فيه ضالَّتي . 
فقرأتُ الكتاب , ووجدتُ فيه فعلاً ما كنتُ أبحثُ عنه : وجدتُ فيه أجْوبَة عن حقيقة الكون , وأصل البشريَّة , ومن أين أتيتُ , والهدف من الحياة . وعندها أيقنتُ أنَّ الإسلام هو الدِّين الحقُّ , وأنَّ حقيقته تختلف عن فكرة الغرب عنه , وأنَّه ليس مجرَّد طقُوس لِكبار السِّنِّ مثل المعتقدات الأخرى . 
وأدركتُ أنَّ كلَّ شيء هو مِن خَلْق اللَّه وصُنعه , وأنَّ اللَّه لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم , وأنَّه أرسلَ الأنبياء برسالة واحدة . ووجدتُ في القرآن ردُودًا منطقيَّة ومعقولة عن ادِّعاء النَّصارى أنَّ عيسى ابنُ اللَّه . وأُعجبتُ بأسلوب هذا الكتاب في دعوته إلى التَّفكُّر والتَّأمُّل وإعمال العقل للوصول إلى الحقيقة , واقتنعتُ أنَّه ضالَّتي المنشودة , وضعَها اللَّهُ في طريقي . 
لَم أعتنق الإسلام وقْتَها , ووجدتُ صعوبة في ذلك لأنَّ كلَّ مَن حولي كانُوا لا يعرفُون شيئًا عن هذا الدِّين . ثمَّ فكَّرتُ في الذّهاب إلى القُدس , مثلما فعل أخي , لزيارة المسجد الأقصى . فسافرتُ إلى هناك , وبين جَنَبات هذا المسجد المهيب قرَّرتُ الدُّخول في الإسلام . فعدتُ إلى لندن , وقابلتُ أختًا مسلمة اسمُها نفيسة , وأخبرتُها برغبتي في اعتناق هذا الدِّين . فدلَّتْني على أحد أكبر المساجد في بريطانيا , وكان ذلك سنة 1977 م , بعد حوالي سنة ونصف من بداية قراءتي لترجمة معاني القرآن الكريم . ويوم الجمعة , بعد الصَّلاة , اقتربتُ من الإمام ونطقتُ بالشَّهادتين بين يديه .
والآن , أصبحتُ أستطيع أن أدعو اللَّه مباشرة في كلِّ وقت , على خلاف المسيحيَّة والدِّيانات الأخرى ! وأذكرُ أنَّ سيّدةً هندوسيَّة قالتْ لي يومًا : نحنُ نؤمنُ بإله واحد , ولكنَّنا نستخدمُ هذه التَّماثيل للتَّركيز ! معنَى كلامها أنَّه يجبُ أن تكون هناك وسائط لِتَصِلَنا باللَّه ! لكنَّ الإسلام أزال كلَّ هذه الوسائط والحواجز .
بعد إسلامي , شعرتُ براحة نفسيَّة كبيرة , وتخلَّصتُ من أفكاري المتناقضة والتي لا حصر لها , وصار الطَّريقُ واضحًا أمامي . وقطعتُ على نفسي عهدًا أن أُسَخّر حياتي لخدمة هذا الدِّين والدَّعوة إليه ونَقْل تجربتي للآخرين .

هذه إذًا قصَّة إسلام السَّيِّد Cat Stevens الذي وُلِدَ في 21 يوليو 1948 م من أب يوناني وأمّ سويديَّة , وهو يُسمَّى اليوم يوسف إسلام . وقد تعدَّدت نشاطاتُه بعد إسلامه , حيثُ أنشأ عام 1986 م جمعيَّة للمعونة الإسلاميَّة , وتولَّى رئاسة أربع جمعيَّات تهتمُّ بالتَّعليم وحقوق الإنسان , وصار أحد أبرز أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى في بريطانيا , وتولَّى مهمَّة تصحيح العديد من المفاهيم الغربيَّة الخاطئة عن الإسلام .
أنشأ مدرسة إسلاميَّة في كيل بورن , شمال لندن , لتعليم الأطفال القرآنَ والسُّنَّة وكيفيَّة أداء العبادات الإسلاميَّة . ونتيجة لنشاطاته ومَركزه , فقد قبلَت الحكومة العراقيَّة وَساطَته أثناء اندلاع حرب الخليج الأولى , وأفرجتْ عن أربعة أسرى إنجليز . كما وافقَت الحكومتان السّعوديَّة والكويتيَّة إقامة مُخيَّمات على حدودهما لِفَريقٍ من دُعاة السَّلام , على رأسهم يوسف إسلام . قام بالعديد من الزِّيارات إلى البُوسنة , وعقَدَ العديد من الحفلات الدِّينيَّة في سَراييفُو .
تحوَّل إلى الإنشاد الدِّيني , وأصدر ألبومًا أوَّلاً تضَمَّن أغنيةً عن النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . ثمَّ أصدر ألبومًا آخر سنة 1997 م عن مأساة حرب البُوسنة . سجَّل أيضًا عددًا من الأغاني الإسلاميَّة للأطفال , وُزِّعتْ منها ملايين النُّسَخ في العالَم الغربي والإسلامي . (نقلاً , مع تصرّف بسيط في سرد القصَّة , عن موقع مجلَّة رياض الجنَّة www.nozhanet.net , وعن موقع الشَّبكة الإسلاميَّةwww.islamweb.net) .

---------------------- 5

هكذا أوصله عقلُه إلى الإسلام !


القصَّة الثَّانية في إسلام : علي سلمان بنوا , وهو طبيبٌ من أسرة فرنسيَّة كاثوليكيَّة . يروي علي قصَّة إسلامه , يقول : كنتُ أؤمن بوجود اللَّه , إلاَّ أنَّ الطُّقوس الدِّينيَّة المسيحيَّة لم تكُن لِتَبعث في نفسي الإحساس بوجوده ! وقد كان شعوري الفطري بوحدانيَّة اللَّه يَحُولُ بيني وبين الإيمان بعقيدة التَّثليث , وبتأليه عيسى المسيح !
كنت لا أستسيغُ دعوى الكاثوليك أنَّ مِن سُلطانهم مغفرةَ ذنوب البشَر نيابةً عن اللَّه , ولم أكن أؤمن أبدًا بالعشاء الرَّبَّاني والخبز المقدَّس الذي يُمثِّل جسد المسيح . ومِمَّا كان يُباعدُ بيني وبين المسيحيَّة أنَّها لا تحوي في تعاليمها شيئًا يتعلَّق بطهارة البدَن , لا سيَّما قبل الصَّلاة , فكنتُ أرى في ذلك انتهاكًا لِحُرمة الرَّبّ . كذلك , فإنَّ المسيحيَّة التزمت الصَّمت في ما يتعلَّق بغرائز الإنسان الفيزيولوجيَّة , بينما نرى أنَّ الإسلام هو الدِّين الوحيد الذي ينفرد بمراعاة الطَّبيعة البشريَّة .
أمَّا العامل الأساسي في اعتناقي للإسلام , فهو القرآن الكريم . وأنا مَدينٌ بالفضل إلى الأستاذ مالك بن نبي , صاحب كتاب الظَّاهرة القرآنيَّة . فقد اقتنعتُ بعد قراءتي لهذا الكتاب بأنَّ القرآن هو حقًّا وحيٌ مُنَزَّل من عند اللَّه . وعرفتُ أيضًا أنَّ بعض آياته أشارت منذ حوالي أربعة عشر قرنًا إلى حقائق علميَّة لم يتمَّ اكتشافها إلاَّ حديثًا . 
وهكذا ذهبتُ يوم 20-2-1953 م إلى مسجد باريس , وأعلنتُ إسلامي . فسجَّلني عميد المسجد في سجلاَّت المسلمين , وحملتُ اسمي الجديد : علي سلمان . وأنا أشعر اليوم بالغبطة الكاملة في ظلِّ عقيدتي الجديدة , وأُعلن مرَّة أخرى : أشهد أن لا إله إلاَّ اللَّه وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله . (نقلاً , مع تصرّف بسيط في سرد القصَّة , عن موقع www.newmuslims.tk) .

---------------------- 5

فريقٌ في الجنَّة وفريقٌ في السَّعير !


ربَّما تَعجبين يا ابنتي الكريمة من انتقالي الآن للحديث عن الجنَّة والنَّار , وأنا لم أُعرِّفْكِ بَعدُ باللَّه تعالى وبمحمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وبالإسلام . الحقيقة أنَّني أردتُ أن أُعطيكِ فكرة صغيرة عمَّا أعدَّه اللَّهُ تعالى لعباده يوم القيامة , لعلَّها تكون لكِ حافزًا على مواصلة قراءة الأجزاء الأخرى من هذا الكتاب , قبل أن تنشغلي عن ذلك بدراستك أو بعملك .
فكَما أنَّ التَّلميذ محتاجٌ لأن يعرف ماذا سَيجْني من اجتهاده في الدّراسة , والعامل محتاج لأن يعرف كم سيأخذ أجرًا على تَعَبه في العمل , فكذلك العبد محتاجٌ لأن يعرف ماذا سيكون جزاءه إذا اتَّبع دين اللَّه , حتَّى يكُون له ذلك حافزًا على الاستقامة في السُّلوك والإخلاص في العبادة والاستزادة من فعل الخير .

يَصِفُ اللَّهُ تعالى بعض ما أعدَّهُ لأهل الجنَّة , فيقول في القرآن الكريم : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً 122 } (4- النّساء 122) . 
ويقول تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 72 } (9- التّوبة 72) . 
ويقول تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ 14 قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ 15 الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ 16 } (3- آل عمران 14-16) .
نعم , إنَّ هذا حقًّا هو الفوز الحقيقي : جنَّات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيِّبة وأزواج مطهَّرة وكلّ ما تشتهي الأنفس , ورضوان من اللَّه أكبر ! كلُّ هذا لِمُدَّةٍ أطول من مليار مليار مليار … سنة ! إنَّه الخلود في الجنَّة !
ويقول تعالى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ 41 وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ 42 كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 43 إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 44 } (77- المرسلات 41-44) .

وفي المقابل , يصفُ اللَّهُ تعالى بعض حالِ أهل النَّار , فيقول : { وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ 49 قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ 50 } (40- غافر 49-50) . 
هل أدركتِ يا ابنتي خطورة الموقف ؟! إنَّ الذي يموتُ على غير الإسلام سوف يدخلُ نارًا حامية جدًّا , حتَّى أنَّه من شدَّة العذاب يتمنَّى أن يُخفِّف اللَّهُ عنه يومًا واحدًا منه ! فكيف به وهو سيقضِّي فيها , ليس سنة , ولا عشر سنوات , ولا ألْف سنة , بل رقْمًا لا نهائي من السَّنوات , أو إن شئتِ : أكثر من مليار مليار مليار ... سنة !!
هل تخيَّلتِ حَجْمَ العذاب ؟! 
لو أنَّ سجينًا في الدُّنيا محكوم عليه بعشر سنوات , طلبَ من القاضي أن يطرح من عقوبته يومًا , لَظنَّ أنَّه يسخر منه ! فما بالُكِ بِمَنْ يطلبُ حقيقةً أن يُطرح عنه يومٌ من مليار مليار مليار ... يوم في جهنَّم !

ربَّما تقولين : ولكن , إذا كانت جهنَّم نارًا حامية جدًّا كما جاء في القرآن , فمعنى هذا أنَّ الذين فيها سيموتون في لحظة .. وينتهي الأمر !
أقول : تعالي أذكِّرك إذًا بآية سبق أن تعرَّضْنا لها عند الحديث عن جلْد الإنسان . يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا 56 } (4- النّساء 56) . 
فأصحابُ النَّار تُبدَّلُ جلُودُهم إذًا كلّ لحظة , فيستمرّ العذاب إلى ما لا نهاية .
قد تقولين : ولكنَّ أصحاب النَّار سيموتون في النِّهاية , سواء من شدَّة العذاب أو من شدَّة الفزع !
استمعي إذًا لِمَا يَلي : يقول اللَّه تعالى : { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ 15 مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ 16 يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ 17 } (14- إبراهيم 15-17) . 
نعم , يأتيه الموتُ من كلِّ مكان , ولكنَّه لن يموت ! إنَّه خلودٌ في النَّار إلى الأبد !
ويقول تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ 36 وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ 37 } (35- فاطر 36-37) . 
وإذا لم يستطع عقلُكِ أن يقبل فكرة الخلود في النَّار , فلماذا قَبِلَ إذًا ما ذكَره عُلَماء الفلك من أنَّ هذا الكون يحتوي على مئات المليارات من النُّجوم , تفصلُ بينها مسافات خياليَّة تُقدَّر بملايين المليارات من الكيلومترات , وأنَّ الأرض تدور بنا بسرعة مجنونة , ونحن لا نشعر بشيء ؟!
واللَّهِ الذي لا إله غيره , لنْ يُفلِتَ بَشرٌ من الحساب يوم القيامة . ويا تَعْس يومئذٍ مَن كان مصيره الخلود في النَّار بسبب لحظة عِنَاد في الدُّنيا أعمَتْهُ عن اتِّباع الحقّ .

تعاليْ نُكمل الحديث عن حال أهل النَّار : يقول تعالى : { وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا 10 يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ 11 وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ 12 وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ 13 وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ 14 كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى 15 نَزَّاعَةً لِلشَّوَى 16 تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى 17 وَجَمَعَ فَأَوْعَى 18 } (70- المعارج 10-18) .
هل يُعقَل أن يُفكِّر الكافر يومئذ أن يُقدِّم زوجته وأبناءه وكلَّ مَن على الأرض , لكي يَفتدِيَ نفسَه من عذاب النَّار ؟!
نعم , ولن يُغني ذلك عنه شيئًا !

ويقول تعالى : { فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ 33 يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ 34 وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ 35 وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ 36 لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ 37 وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ 38 ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ 39 وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ 40 تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ 41 أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ 42 } (80- عبس 33-42) .
الكلُّ إذًا مشغولٌ بنفسه , ولا يفكِّر إلاَّ في المصير الذي ينتظره !

ويقول تعالى : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ 19 يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ 20 وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ 21 كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ 22 } (22- الحجّ 19-22) .
ويقول تعالى : { وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ 50 الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ 51 } (7- الأعراف 50-51) . 
ويقول تعالى : { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ 44 الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ 45 } (7- الأعراف 44-45) . 
ويقول تعالى : { وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 6 إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ 7 تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ 8 قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ 9 وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ 10 فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ 11 } (67- الملك 6-11) . 
آياتٌ تهزُّ المشاعر والقلوب ! هل يُعقل أن تكُون كلُّها خيالٌ من صنع بَشَر ؟! 
أبدًا ! إنَّها واللَّهِ كلامُ اللَّه , يُقيم به الحجَّة على كلِّ مَنْ غَرَّتْهُ الحياةُ الدُّنيا وآثَر الكُفْر على الإيمان .
إنَّ يوم القيامة سيأتي لا محالة . وسأقف أنا وأنت والنَّاس أجمعين للحساب . ثمَّ , إمَّا خُلودٌ في جنَّاتٍ ونعيم , وإمَّا إلى نارٍ وحميم وعذاب لا نهاية له ! 

أسأل اللَّه أن يهديك إلى الإسلام , ويجعلك وإيَّاي وكلّ المسلمين من أصحاب الجنَّة , آمين .

---------------------- 5

وبعد , أيُّها القارئ الكريم !


ألم يحن الوقت بعدُ أن تؤمن بأنَّ هذا الكون لم يُخلَق عن طريق الصُّدفة ؟ !
إنَّ هذه الأرض التي تعيش فوقها تزن حوالي خمسة آلاف مليون مليون مليون طنّ , وهي معلَّقة منذ مليارات السِّنين في الفضاء دون أن تسقط , وتدور حول نفسها بدقَّة متناهية وبسرعة معدَّلها 1600 كلم في السَّاعة , دون أن تشعر بذلك ! فهل يُعقل أن يكون كلُّ هذا نِتاج صدفة ؟!
ثمَّ إنَّك لكي تستطيع العيش فوق هذه الأرض , كان لا بُدَّ أن تكون جميعُ العوامل اللاَّزمة لذلك متوفِّرة كلّها في وقت واحد , ومنذ أوَّل تجربة . وهذا ما حدث فعلاً . فلا أحد من المؤرِّخين أو العلماء ذكَر أنَّ الإنسان الأوَّل وُجِدَ في البداية بدون جهاز تنفُّس , فاختنق ومات , ثمَّ أتى إنسان بعدهُ برئتَيْن ولكن لم يكن هناك هواء فوق الأرض , فمات أيضًا , ثمَّ جاء إنسان بعده .. وهكذا !
وهذه العناصر جميعها لَم تكن لِتَتوفَّر وحدها بالصُّدفة , بل توفَّرَتْ بتدبيرِ وتنسيقِ خالقٍ لا حدود لِقُدرته , هو اللَّه تعالى . 
ولو تمعَّنتَ أيُّها القارئ في القرآن الكريم , لتأكَّدتَ أنَّه وحيٌ مُنزَّلٌ من عند اللَّه على نبيِّه محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وأنَّ هناك حياةٌ بعد الموت لِيُجازي اللَّهُ كلَّ إنسان بما فعل في الدُّنيا , ثمَّ إمَّا إلى جنَّة وإمَّا إلى نار .

أم أنَّكَ تقول أنَّه , حتَّى لو كان ذلك صحيحا , فإنَّ يوم القيامة ما زال بعيدًا !
واللَّهِ إنَّه لا يفصلُك عنه سوى الموت ! وإنَّ الموتَ لَأقرب إليك من شراك نَعْلَيْك ! فكَمْ من شابٍّ ماتَ وهو في أوْج قُوَّته , وكم من فتاة نامت وهي لا تعلم أنَّ ذلك آخر عهدها بالدُّنيا ! 
باللَّه عليك , لا تتوقَّف إذًا عند هذا الجزء , فلن تخسر شيئًا من مواصلة القراءة . فمازلتُ سأحدِّثك عن اللَّه تعالى , وعن النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وعن الإسلام , وعن القبر والحساب والجنَّة والنَّار , ومازلتُ سأعرضُ عليك العديد من الآيات القرآنيَّة التي حيَّرتْ عُلَماء هذا العصر , كلُّ ذلك بأسلوب علميٍّ سهل , مختلف عمَّا تعوَّدْتَ عليه في الكتب الأخرى .
قبل أن أتركك , أختم بهذه الآيات , يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ 161 خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ 162 وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ 163 } (2- البقرة 161-163) . 

مُلتقانا في الجزء الثَّاني بإذن اللَّه , لنتحدّث عن حقيقة عيسى عليه السّلام , عن صفات اللّه سبحانه وتعالى , وعن سيرة محمّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم .

************************************************** ************************************************** ****انتهى المقال عند هذا الحد
ولمن اراد متابعة الموضوع ان كانت له اجزاء اخرى فهذا هو لينك الموقع الذى نقلت منه الموضوع لكم اسأل الله ان ينفع به
http://www.allahway.com/whoolbook.asp?id=339
************************************************** ************************************************** ****
والسلام على من اتبع الهدى
سبحانك اللهم وبحمدك ، اشهد ألا اله الا انت ، أستغفرك و أتوب أليك.
************************************************** ************************************************** ****
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
************************************************** ************************************************** ****
(سبحان ربك رب العزة عما يصفون (*) وسلام على المرسلين (*) والحمد لله رب العالمين (*)
************************************************** ************
********************************************* 
******************************